خلفية سياسة
قبرص دولة قائمة على جزيرة في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط الى الجنوب من شرق أوروبا وغرب آسيا. استقلت سنة 1960 عن بريطانيا ، قسمت بعد التدخل العسكري التركي سنة 1974 إلى قسمين، أحدهما ذو أغلبية سكانية يونانية (في الوسط والجنوب) وجزء ذو أغلبية سكانية تركية (في الشمال). أعلن في سنة 1983 قيام جمهورية شمال قبرص التركية في القسم التركي . جرت منذ بداية المشكلة القبرصية ولا زالت تجري محاولات عديدة لأعادة توحيد الجزيرة الى الوضع الذي كانت عليه في السابق ، الا ان طبيعة وفجوة الخلافات كانت ولا زالت كبيرة بين الطرفين القبارصة اليونانيين المدعومين من قبل الحكومة اليونانية والقبارصة ألأتراك المدعومين من قبل الحكومة المركزية التركية ، ولا زالت تلك الخلافات تحول دون تحقيق اي تقدم في المفاوضات لمعالجة المشكلة القبرصية ، رغم ما بذل من مساعي وضغوطات دولية في هذا الشأن .
لكن تلك الخلافات لم تمنع من تحقيق نجاحات هامة جادة وفاعلة في تطوير اوجه التعاون وانفتاح المجتمعين القبرصي اليوناني والقبرصي التركي لتطبيع وتطوير علاقات ومجالات العيش المشترك ، من ذلك حركة تنقل السكان المحليين من الطرفين وكذلك حركة السواح الأجانب عبر المعابر المشتركة وبشكل دائم وعللى مدى الساعة ، و التعاون الأمني بألأضافة الى االتزود المتبادل بالمياه والكهرباء ، من خلال التنسيق والمتابعة واشراف من قبل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ، مع استمرار الحوار بين الطرفين من حين لأخر والتي لم تتوقف في محاولات جادة لإعادة توحيد الجزيرة .
تم مؤخرا اكتشاف مخزون ضخم من الغاز الطبيعي ويعتقد وجود نفط ايضا داخل حوض واسع في البحر الأبيض المتوسط تشارك فيه قبرص مع دول الجوار ، وهي منطقة تسمى حوض "ليفانت" . هناك مشاورات مباشرة وغير مباشرة تجري بين تلك الدول المشاركة في هذا الحوض وهي : قبرص ،تركيا ،سورية ، لبنان ، مصر ، فلسطين وإسرائيل ، للتعاون في الأنتفاع المشترك من هذه الموارد الطبيعية الهامة .
تعتبر جزيرة قبرص من المناطق الشبه جافة مناخيا ، قليلة ألأمطار التي يقدر معدلها السنو ي حاليا بحوالي 400 ملم ، وبنسبة تبخر عالية جدا تصل الى 80% ، وبالتالي فأن الموارد المائية العذبة والمتجددة في هذه الجزيرة العذبة بنوعيها السطحية والجوفية تعتبر محدودة جدا وتكاد لا تتجاوز 45 مليون متر مكعب في السنة ، لهذا ابتدأت الجزيرة تعيش ازمات مياه خانقة ومتفاقمة منذ مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي ، استفحلت هذه المشكلة لتصل في نهاية عقد التسعينات الى ذروتها مما اضطر الحكومة القبرصية لأستيراد المياه من اليونان عبر
بواخر عملاقة ، وفي مرحلة متقدمة تم اللجوء الى إستئجار محطة تحلية عائمة من شركات يونانية باسعار عالية جدا تجاوزت ال 6 دولار للمتر المكعب الواحد .
ولمعالجة هذه المشكلة المتفاقمة قامت الحكومة القبرصية في القسم اليوناني بأنشاء خمسة محطات لتحلية مياه البحر ، بطاقة انتاجية اجمالية للمحطات الخمسة تصل الى 80 مليون متر مكعب ، جميع تلك المحطات منجزة منذ العام 2007 ، الا ان الكميات الفعلية المنتجة حاليا تقدر بحوالي 40 مليون متر مكعب ، وهي تغطي الأحتياجات القائمة ، الى جانب ذلك ولتخفيض تكلفة ألأنتاج سعت الحكومة القبرصية الى بناء حقول صناعية لأنتاج الطاقة الشمسية ألمتجددة وهي الأرخص من الطاقة التقليدية لغرض استخدامها على نطاق تدريجي اوسع في قطاع المياه ، في محاولة كما اشرنا لتخفيض تكلفة ألأنتاج قدر ألأمكان ، حيث تم انجاز ثلاثة حقول كبرى بطاقة انتاجية عالية قد تصل الى 5000 ميغاواط ساعة في السنة ، لكل حقل ، وهذه هي البداية كما يقول المسؤولون القبارصة اليونانيون ، بهدف التقليل من ألأعتماد على الطاقة التقليدية قدر ألأمكان .
اما في الجزء الشمالي من الجزيرة فقد جرت محاولات في السابق لنقل المياه من تركيا الى الجزء الشمالي من قبرص بواسطة تكنولجيا ما عرف " بنظام ميدوزا" وهي عبارة عن خزانات بلاستيكية ضخمة سعة الخزان الواحد منها 10 الاف متر مكعب ،يتم ربطها وسحبها بواسطة قارب ، بدءا من الشواطيء الجنوبية لتركيا وحتى الجزء الشمالي من قبرص على ساحل مدينة "كيرينيا" الا ان هذه الوسيلة قد فشلت بعد عام من استخدامها ، ولذلك تقرر اللجوء الى تنفيذ هذا المشروع العملاق، عبر انشاء الخط البحري الناقل لتزويد مناطق شمال قبرص بالمياه التركية ، بما يكفي لتغطية ألأحتياجات المنزلية والشرب والزراعة وكافة انواع ألأستخدامات ألأخرى لفترة تزيد على 50 عاما القادمة .
مشروع القرن كما اطلق عليه هو مشروع فريد من نوعه في العالم تحملت الحكومة التركية كافة تبعاته في اعداد الدراسات والتصاميم الهندسية وكافة مراحل تنفيذه وتغطية تكاليفه بهدف تزويد الجزء الشمالي من قبرص بمعدل 75 مليون متر مكعب في السنة من المياه العذبة الصالحة لكافة انواع ألأستخدامات بما ذلك الشرب والمنزل والصناعة والزراعة . لذلك يعتبر هذا المشروع الذي عرف بأسم " مشروع تزويد شمال قبرص بالمياه التركية" من المشاريع الهندسية المميزة في نوعها في مجال ألأنشاءات المائية ، خاصة ما يتعلق بطبيعة أعمال تمديد الخط البحري الناقل بين شواطيء تركيا وشمال قبرص .
أهم عناصر ومكونات المشروع / يشتمل هذا المشروع على سد مائي بسعة تقارب 130 مليون متر مكعب ، مع محطة ضخ وخط ناقل بري نوع "ديكتايل" من الحديد المسكوب بقطر 1.5 متر وبطول حوالي 22 كلم ، هذه المنشاءات جميعها والتي تشكل المرحلة ألأولى من المشروع تقع في الجانب التركي ، وقد تم ألأنتهاء من اعمال هذه المرحلة قبل نهاية العام الماضي 2014 . اما المرحلة الثانية وهي ألأهم وألأصعب وتشتمل على اعمال تمديد وتركيب الخط البحري وهو الأنبوب الناقل الرئيسي عبر البحر وعلى عمق يصل الى 1000 متر ، من نوع "البولي إثيلين" ذات الكثافة العالية بقطر 1.5 متر وبطول حوالي 80 كلم ، لنقل 75 مليون متر مكعب الى شمال قبرص ، وقد تم ألأنتهاء من اعمال هذه المرحلة في نهاية شهر نيسان من العام الجاري 2015 .
المرحلة الثالثة وتشتمل على خزانات ارضية على الجانب القبرصي بألأضافة الى خطوط التوزيع الرئيسية ، وهذه ألأعمال اصبحت في نهايتها ، التكلفة الأجمالية لكافة اعمال هذا المشروع العملاق قد تتجاوز 500 مليون دولار ، علما بأنه كان من المقرر ان تنتهي كافة الأعمال للمراحل الثلاث في شهر ايلول من العام الفائت 2014 ، الا ان بعض العراقيل قد واجهت مراحل العمل .
يقول المسؤولين الأتراك بأن اهداف هذا المشروع ليست بيئية وإقتصادية فحسب ، بل هي سياسية بأمتياز ، حيث لا يجوز ترك اراض هذا الجزء الهام من الجزيرة حيث غالبة سكانه من القبارصة ألأتراك ، خشية ان يتحول الى مناطق جرداء وجافة بفعل عوامل التغيرات المناخية وخاصة ألأرتفاع المتزايد والمقلق في درجات الحرارة يصاحبه تراجع ملحوظ في كميات ألأمطار ،ألأمر الذي سينعكس تدريجيا على حياة الأهالي وقد يؤدي الى دفعهم الى ترك اراضيهم والهجرة الى تركيا او الى دول اخرى ، وهو ألأمر الذي لا تريد تركيا حصوله . ولهذا ورغم الجدل الكبير بشأن بعض المحاذير الفنية حول هذا المشروع وتكاليفه العالية ،الا ان الحكومة التركية اتخذت قرارها في تنفيذه لأعتبارات ودوافع سياسية قوية كما سبق وأشرنا .
لا يسعنا في هذا الصدد ، الا ان نقول بأن تركيا قد ترجمت مصداقيتها وحرصها والتزاماتها فعليا تجاه حماية مصالح القبارصة الأتراك على ارض الواقع في شتى المجالات ومن ضمنها قطاع المياه الذي تم تتويجه بهذا المشروع العملاق .... فهل يمكن ان تقوم الدول العربية بعمل ما تجاه الفلسطينيين ، يشبه ولو بشيء بسيط ما قامت به تركيا تجاه القبارصة الأتراك ..... يا حبذا لو ان بعض العرب يتحلون بالشجاعة والنخوة العربية لدعم الفلسطينيين في تنفيذ بعض المشاريع الهامة في مجال المياه لتعزيز صمودهم وبقائهم فوق ارضهم وعدم تركها والنزوح عنها قهرا نتيجة لممارسات الأحتلال الأسرائيلية المستمرة بشتى الوسائل وخاصة وسائل قطع المياه وسياسات التعطيش وتجفيف الأراضي ، وتفاقم الوضع المائي الكارثي في كامل قطاع غزة ، وتحول مناطق ألأغوار الفلسطينية من اراضي زراعية خصبة منتجة كانت تشكل سلة غذاء فلسطين الى اراض قاحلة وشبه جافة بالكامل ، وفي ظل تفاقم ازمات المياه في العديد من مدن وبلدات الضفة الغربية .
لذلك فأن الفلسطينيين بأمس الحاجة لدعم عربي حقيقي ملتزم في مجال تطوير مصادر المياه قد يشمل : محطات لتحلية مياه البحر في قطاع غزة ، تطوير مصادر المياه الجوفية في الضفة الغربية من خلال حفر المزيد من الأبار العميقة ذات ألأنتاجية العالية ، بما في ذلك تطوير وتأهيل العيون والينابيع الرئيسية وبناء السدود والحواجز المائية على بعض الأودية الموسمية ، تحلية مياه الينابيع المالحة لمجموعة الفشخة على البحر الميت ، الضغط على اسرائيل لتنفيذ مشروع قناة الغور الغربية لنقل المياه من بحيرة طبريا الى مناطق الأغوار الفلسطينية، بألأضافة الى إقامة مشاريع لتوليد الطاقة الشمسية خاصة في مناطق قطاع غزة وغور وادي الأردن بطاقة انتاجية عالية لغرض الأستخدام الصناعي ، او على ألأقل لتخفيف الأستهلاك القائم للطاقة التقليدية المشتراة من اسرائيل ، كذلك مشاريع معالجة مياه الصرف الصحي للتجمعات السكانية الكبرى وغير ذلك من مشاريع المياه العذبة ومرافق خدمات التزود بالمياه والتي تعتبر عاجلة وذات اولوية بالنسبة للفلسطينيين .
المهندس / فضل كعوش