لا بد من التوضيح اولاً باننا نسعى الى تحقيق أمن إعلامي فلسطيني يحمي المجتمع وثوابته في اطار القانون والدستور, وبما يتم التوافق عليه من ضوابط بين المعنيين بما فيهم كافة الكتل الصحفية, وخاصة في ظل الانقسام والتصارع ليس السياسي فقط , بل وحتى الإعلامي ايضا , وبان العلاقة بين الامن والإعلام في هذا الاطار هي علاقة تكاملية تحقيقاً لمجتمع آمن ودون جريمة, فالإعلام بوسائله المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئية يُعد رديفاً لعمل الأجهزة الأمنية والشرطية فهو يلعب دوراً بارزاً ويؤثر بفعالية في دعم نشر المعرفة الأمنية وتعزيز ثقافة الوعي لدى كافة نخب المجتمع الفلسطيني لمحاربة الجريمة بكل انواعها وقبل وقوعها وبما فيها جرائم الاعلام ,وبذلك فان كل من الامن والإعلام هما بمثابة جناحي الاستقرار لمناطق السلطة الفلسطينية , وان من يقرر حدود تلك العلاقة وسقفها هي المصلحة العليا للشعب الفلسطيني التي يحددها قانون الاعلام والدستور ,وبما اقرته المجالس الوطنية والمجلس التشريعي, فلماذا يصر البعض وخاصة من الاعلاميين المتميزين في النظر الى الأمن على انه وسيلة قمع واعتقال ؟,ولماذا يعتقد هؤلاء دوما بان الامن والاعلام لا يلتقيان؟, وان العلاقة فيما بينهما علاقة صراع ومحاولة احلال لكل منهما الاخر ؟, فهل يمكن لنا ان نحقق اعلام ديمقراطي قوي وفعال دون ضوابط ومحددات قانونية لوسائله المقروءة والمسموعة والمرئية؟ ,وهل يمكن لنا ان نحقق مرتكزات لإعلام ديمقراطي شفاف وفعال دون امن وحماية لتلك المرتكزات ؟.
لا يمكن لنا ان نحقق استراتيجية اعلامية دون امن لمرتكزات ما يتم التوافق عليه من قوانين ومبادى ومنطلقات وعليه , فانه لا يمكن تحقيق أمن اعلامي بكافة اشكاله دون استراتيجية إعلامية واضحة لمواجهة محاولات الغرب في الترويج لقيم إعلامية لا علاقة لها بالمجتمعات العربية ,ولا صلة لها بقضاياه المصيرية ,كما انه لا تنمية مستدامة كما ذكرنا سابقا دون إعلام قوي يعكس قيم ومبادئ وعادات وتقاليد المجتمع مع مراعاة ضوابط تنظيم استخدامات وسائل الاعلام بمقتضى القوانين والانظمة الخاصة بالمطبوعات والنشر داخل حدود الدولة لضمان عدم تورط الوسائل الإعلامية في ايجاد حالة تتعارض مع قيمنا وثوابتنا وفقا لما حدده الدستور وما يمكن الاتفاق عليه تعاقديا ولنبدأ بمناقشة ذلك من حيث حرية الصحافة كمبدأ ,وما يستوجب من حدود وذلك في اطار وعينا المشترك لتطوير الوليد الفلسطيني والانتقال به من سلطة الى دولة.
صحيح بان كافة القوانين والمواثيق الدولية قد كفلت حماية حرية الراي والتعبير, وفي مقدمة ذلك الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة, وكذلك ما اوضحته م(19) من مشروع الدستور الفلسطيني بانه" لا مساس بحرية الرأي، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير ,وفيما نص عليه ايضا قانون المطبوعات والنشر الذي اوضح بان" حرية الراي والتعبير مكفولة بنص المادة الثانية منه ,كما ان حرية الصحافة هي احدى صور حرية الراي والتعبير وهي مكفولة ايضا بنص المادة الثالثة من نفس القانون .
وصحيح ايضا بان م(27)من نفس القانون الاساسي نصت على حرية وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والطباعة مع تأكيد المادة نفسها على ضمان "حرية النشر والتوزيع والبث، وحرية العاملين فيها، وهي مكفولة وفقاً لهذا القانون الأساسي والقوانين ذات العلاقة, الا ان المشرع جاء ليكرس هذه الحرية من خلال تنظيم وضبط المبادئ الأساسية التي تقوم عليها حرية الصحافة بوضع خطوط حمراء لكل من تسول له نفسه المساس بحرية الأفراد والنظام العام للدولة . وهنا علينا ان نطرح بعضا من التساؤلات ليس تشكيكا بقدرات المشرع ,ولا حتى تصويبا لما نص عليه من قوانين وما وضع علي نصوصها من قيود ايضا ,وانما يأتي ذلك في اطار المناقشة لبعض النصوص والمشاركة في وضع البرامج والاستراتيجيات قصد الوصول الى اعلام حر وشفاف ملزم قانونيا وتعاقديا تفاديا لارتكاب مخالفات اعلامية قد ترقى الى مستوى جرائم اعلام يعاقب عليها قانون العقوبات.
صحيح بان المشرع الفلسطيني قد كرس من خلال القوانين الموضوعة بشان الاعلام مبدأ هاما حيث وازن من خلاله بين حرية الصحافة وضرورة المجتمع ، وحماية الحياة الخاصة للأفراد ، غير أن حرية الإعلام لا يمكن أن تكون إلا من خلال السلطة القضائية التي تؤمن لها الانسجام في العمل ، لأن بين الإعلام والقضاء علاقة من خلالها يقوم القاضي برقابة لاحقة تتمثل في المسائلة الشخصية لكل من الصحافي ومدير التحرير من جهة وإتباع تدابير أمنية للمؤسسة الإعلامية في حالة تجاوزها قانونيا من جهة أخرى , وهذا لا يعني بانني ادعو اجهزة الامن ان تكون في حالة رقابة لوسائل الاعلام وتقييد للعاملين في مجال الاعلام , بل الى التأكيد على ان لا يتدخل القانون مطلقا في عملهم إلا إذا تجاوزوا حدود ما ابيح لهم من حرية حتى لا تنطلق هذه الحرية لتصبح فوضى أو تنفلت فتصبح عبثا ، فالقانون هو الذي يقي فكرة النظام العام من أن تناله حرية الإعلام أو تهدده بما تنشره أو تذيعه أو تبثه , وهنا لا يجب ان تكون للصحافة حرية كاملة ,بل يجب ان تكون مقيدة وفقا لأحكام القانون ,ولكن بعيدا عن أشكال الرقابة الأمنية والعسكرية ,أو ما تفرضه السلطة التنفيذية من قيود, أو أي من مؤسساتها الرسمية. فهل تنسجم المبادئ الأساسية لنقابة الصحفيين مثلا مع مبادئ وأهداف الميثاق الوطني الفلسطيني، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقرارات الإجماع الوطني بما يحقق المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني في ظل المجتمع الفلسطيني وواقعه المرير وواقع الاعلام وسطوة الاحزاب المتنافسة ؟,وهل تنضوي كافة الكتل الصحفية تحت لواء نقابة الصحفيين تجمعهم اصول المهنة وشرفها ولا تفرقهم عليها لعنة التنظيمات والولاء اليها؟.
وهل تتيح حرية الصحافة مثلا لمن يرغب ودون قيود اصدار جريدة دون موافقة من جهات الاختصاص مع احقية تلك الجريدة مثلا بتلقي اموال دعم او تمويل مشبوه من دول عربية وغربية في ظل امتدادات الاحزاب وارتباطاتها الاقليمية ؟,وهل يجوز ان يتم ترك الباب مواربا لإدخال الاموال المشروطة منها وغير المشروطة للصحافة دون ان يقيد المشرع الفلسطيني ذلك مع ضرورة العمل على منع الصحيفة من تلقي معونات او مساعدة تحت أي حجة او تسمية؟.
ان الفوضوية في امتلاك الوسيلة الاعلامية والتزام هذه القناة وتلك الصحيفة او المحطة الإذاعية باستراتيجيات من يمتلكها, او بسياسة من يمولها ودون ضوابط , لا تعد حرية رأي وتعبير, بل انه من الانقياد نحو التصادم مع الامن الوطني لما فيه من تناقض حتمي مع خطط وبرامج واستراتيجيات الجهة المالكة او الممولة وما بين قانون البلد واستراتيجياته؟ .
ان خصوصية الحالة الفلسطينية نظرا لاعتماد الشعب على مساعدات الغير, وخاصة على مساعدات الغرب فيما يخص وسائل الاعلام يتطلب منا الحذر تفاديا من الانزلاق نحو التبعية للغير والولاء لأهدافهم ,وهذا ما يؤكد على اهمية عدم تجاوز ما نص عليه القانون او التحايل عليه , فلا يمكن لنا وما زلنا في مربع السلطة او الثورة, ولم نصل بعد الى مرحلة الدولة حتى نجيز لوسائل الاعلام ان تتلقى المعونات والهبات من اية دولة عربية كانت ام اجنبية ؟.
وهنا يحق لنا كمواطنين ان نتساءل, وللإعلاميين ضرورة النقاش ,فهل يمكن القول فعلا بان وسائل الاعلام الفلسطينية تعتمد على مصادر مشروعة معلنة ومحددة وتتقيد بما حدده القانون من عدم تلقيها أي دعم مادي أو توجيهات من أية دولة أجنبية الا بحدود القانون؟,الاجابة ستكون حتما بالنفي ليس استباقا للأحداث او تجاوزا للموضوعية ,ولا حتى من باب اطلاق التهم جزافا, بل استنادا الى واقعنا الصحفي وفي ظل ما نسمع او نشاهد حول التساؤل عن مصير ما تلقته هذه الوسيلة او تلك من اعانات وهبات والتشكيك بذمم ماليه لهذه الجهة او تلك, فلماذا لا يقوم الصحفي بالامتناع عن قبول تلك الهبات ؟,وهل تقوم وسائل الاعلام الفلسطينية فعلا بالإعلان عن الإيرادات من التبرعات والمساعدات والمنح المالية والمادية وكذلك المعنوية التي يكون مصدرها المجتمع الفلسطيني أو الآتية عبر الاتفاقات أو التفاهمات مع المؤسسات العربية أو الدولية أو الأشخاص بصفتهم الفردية , أو الإعتبارية أو أي جهة مهما كانت سمتها وخصوصيتها ؟.
من حقي كمواطن أن أتساءل هنا, ومن واجب وسائل الاعلام ان تجيب, ومن حق المجتمع على اجهزة الامن ان تشرف وتتابع أي وسيلة اعلام وفقا لأحكام القانون ,وهو اذا ما كانت وسائل الاعلام تتلقي الدعم من جهات خارجية او لا ؟,وان كان لجهات الاختصاص علم بهذا الدعم وبما يتوافق مع مقتضيات القانون او لا ؟,واذا ما تم منحها ايضا الموافقة على هذا الدعم قبل الحصول عليه في حالة اثباته او لا ؟, واذا ما كان هناك عقوبات يتم تطبيقها على من يخالف ما ذكرناه سابقا او لا؟ , وما هو التكييف القانوني لهذه المخالفات؟, فهل اوضح المشرع الفلسطيني ما اذا كانت ترقى الى مستوى جرائم او انه وضعها في اطار المخالفات الادارية لان الحرية ونطاقها لها مدلولات تختلف من بلد لأخر فهل راعى المشرع الفلسطيني ذلك وازال كل ما من شأنه ان يُحدث التباسا؟.
صحيح بان "للصحافة الفلسطينية الحق في ممارسة مهمتها بحرية في تقديم الأخبار والمعلومات والتعليقات مع الاسهام في نشر الفكر والثقافة "ولكن علينا التأكيد بانه لا يجوز ان يطلق العنان للإعلام لانتهاك الحريات والحقوق والواجبات العامة وعدم احترام حرية الحياة الخاصة للآخرين وحرمتها مع التغاضي على استمرار البرامج والتقارير الاخبارية التي تهدف الى احداث بلبلة في الراي العام رغم ما يؤدي ذلك الى حالة من الفلتان الامني في ظل التخبط والتصارع الحزبي عبر الاعلام بكافة وسائله, فما هي الحريات الأساسية التي كفلها القانون نصا ,وما هي تلك الحريات الواردة في المواثيق والاتفاقيات في ظل الانقسام ,وفي ظل الاختلاف ايضا على مفاهيم العدالة والحرية والاستقلال. ؟
هل تلتزم لأحزاب السياسية والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والنقابات في ظل التداخلات والتبعية ووفقا للمولين اوالتقاء الافكار مع الغير من الداعمين بحق التعبير عن الرأي والفكر والإنجازات في مجالات نشاطاتها المختلفة من خلال قانون النشر والمطبوعات؟, ام انها في حالة تناقض مع كافة القوانين الواجبة الاتباع ,وبما لا يحقق المصالح العليا للشعب الفلسطيني وسياسة سلطته المرسومة وفقا للمجالس والهيئات المنتخبة ؟,وهل ما نلاحظه اليوم ونشهده من وسائل الاعلام فيها إرساء لدعائم الحوار كمنهج للحياة وتقديم الصورة النموذجية لأصول وآداب الحوار وعقلانية الطروحات؟.
ان الصحافة مهنة لها شرفها وآدابها و أخلاقياتها ,وعلى العاملين في المجال الاعلامي الحفاظ على اخلاقيات المهنة والإرتقاء بها في اطار القوانين والانظمة الضامنة لعدم تجاوز تلك الاخلاق ,او من خلال المجلس الاعلى للإعلام الذي ندعو الى تحقيقه من اجل مراقبة الاداء الصحفي والذي يحدد العقوبات المتعلقة بمخالفات المهنة في نصوص هذا القانون ,وبما يحوي المبادئ الأساسية لمهنة الصحافة وآدابها وتطوير قوانينها، والحفاظ على إنسجامها مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وتأكيد الحقوق والواجبات للعاملين فيها تحقيقا لمبدا حرية الاعلام والنشر ,وهنا لا بد من التأكيد ايضا بانه وكما للصحافة الفلسطينية حرية نشر, فان عليها محظورات ايضا ,فما هي قانونية هذا الحظر, وهل هناك ما يستوجبه؟, ولماذا؟.
ماجد هديب
كاتب وباحث فلسطيني
[email protected]