خلال النصف الأول من شهر رمضان المبارك قمت وفريق العمل بتفقد وزيارة عشرات الأسر الفلسطينية التي تعيش تحت خط الفقر المدقع، كنتُ كلما دخلت بيتاً ظننت أني لن أرى أصعب من الحالة التي بين يدي فإذ بالتي تليها أصعب، تخجل وأنت تقدم لهم المساعدة التي ستكفيهم لأسابيع قليلة وتتساءل ماذا بعد!.
عائلات تعيش في ما يشبه المنازل التي لا تصلح لعيش إنسان، وقصص صعبة تحتويها جدران آيلة للسقوط، ومآسي يحتضنها سقف من الأسبست الذي لا يقي حر صيف ولا برد شتاء، في كل ركن وزاوية ألم، ومع كل يوم يُصارع الفقر أفراد العوائل الفلسطينية في غزة مفتكاً بعدد ليس بسيط منهم.
فتلك السيدة اضطرت أن تُزوِّج ابنتها البكر لرجل يكبرها في السن بفارق كبير علّه يكون سنداً للعائلة المكونة من ست فتيات وشاب معاق دون معيل، فإذ بالرجل يُطلق الفتاة بعد فترة وهي حامل، ليُضاف فرد جديد للأسرة ويُضاعف المعاناة.
ومجموعة من الإخوة متزوجون لم يجدوا غير مخزن يتقاسموه بين عوائلهم يبيتون فيه ويفصل بين العائلة والأخرى جدار من قماش، دون تهوية ودون بيئة صحية ودون أدنى مقومات للحياة.
وسيدة أخرى رُزقت بطفلها الوحيد بعد أن أنجبت خمس فتيات فتعرض للحرق والتشوه ويحتاج علاج لمدة 12 عاماً قبل إجراء أي من العمليات الجراحية ولا تستطيع تغطية نفقات علاجه.
ثلاث قصص من عشرات القصص التي رأيتها، وكأن تسونامي الفقر يضرب غزة فلا يُبقِي فيها ولا يذر، أنهك جسد غزة الحصار والعدوان المتتالي، وتخلّى الأخوة والجوار، وتُركت وحيدة في عين عاصفة الفقر، تنزف تتألم تسقط صريعة المرض والفقر دون تدخل حقيقي لإنهاء المعاناة.
في تقرير صادم صدر عن البنك الدولي أفاد بأن نسبة البطالة في قطاع غزة وصلت إلى 43 %، وهي الأعلى في العالم، في حين ارتفعت البطالة في صفوف الشباب إلى ما يزيد عن 60% بحلول نهاية عام 2014
ويحصل نحو 80 % من سكان القطاع على شكل من أشكال الإعانة الاجتماعية ولا يزال 40 % منهم يقبعون تحت خط الفقر، فيما تبلغ نسبة الفقر 65%.
ويُعاني ما يُقارب 57 % من سكان قطاع غزة من انعدام الأمن الغذائي ويشتكي 80% من سكان قطاع غزة من عدم قدرتهم على تحصيل الخدمات الأساسية من صحة ومياه وكهرباء وتعليم.
أرقام قاسية وصادمة تشي بمستقبل مليء بالإحباط ويدعو إلى اليأس، ولا يترك مجالاً للأمل في مستقبل يستوعب الأيادي العاملة الجديدة، أو أن يكون هنالك تحسين في مستوى العيش لآلاف الأسر الفلسطينية.
إن تسونامي الفقر الذي يجتاح غزة، مردّه الاحتلال والحصار بالدرجة الأولى، إلا أن غياب الأولويات وضعف التنسيق يؤديان لعدم وجود حلول ناجعة للحالة الإنسانية الكارثية الماثلة في قطاع غزة.
تُذهل حين تعرف أن هنالك ما يقارب من 1000 جمعية خيرية محلية في قطاع غزة ومايُقارب من 100 مؤسسة دولية، أي أنه يفترض وجود جمعية تخدم 1630 مواطن على افتراض خدمة مليون وثمانمائة ألف مواطن محتاج، ولكن يزول الاستغراب إن علمت أن معظم هذه المؤسسات مجرد نسخة مكررة من أخواتها لا هدف تنموي أو تأهيلي، والمعظم يُصارع من أجل الاستئثار بمصادر التمويل وإرضاء المانحين دون أن يكون هنالك تنسيق حقيقي بينهم في التدخلات أو تحديد الأولويات بناء على الحاجات المرتبطة بالسكان هدف وجودهم.
فيما تغيب الرؤية الحكومية للتعامل مع تسونامي الفقر ويُترك قطاع غزة ونتيجة التجاذبات السياسية رهينة التدخلات العشوائية وغياب الرقابة الحقيقة ودون الإجابة عن سؤال من يفعل ماذا أين ومتى؟
ناهيك عن ارتفاع الأسعار في قطاع غزة نتيجة موجة الجباية وفرض رسوم وضرائب مالية تنعكس سلباً على قدرة المواطن الشرائية نتيجة غياب دور وزارة الاقتصاد في رقابة الأسعار ويتم تحميل المواطن قيمة الضرائب المدفوعة دون أن يتم تحسين الخدمات أيضاً.
قطعاً لا يمكن أن تزول المعاناة الكبيرة في قطاع غزة ولا يمكن أن تُحل الكارثة الإنسانية في القطاع إلاّ بزوال الاحتلال ورفع الحصار وتنقّل أفراده بحرية دون عوائق، إلاّ أن الحكومة والمؤسسات الدولية المانحة والمؤسسات المحلية مطالبة برفع مستوى التنسيق وترشيد إنفاق المساعدات بما يُحقق أولوية وحاجة المواطن.
وعلى الشركات الكبرى والبنوك أخذ زمام المبادرة والوقوف أمام مسؤولياتها الاجتماعية، كما أن رجال الأعمال المغتربين في الخارج مدعوين للوقوف مع أبناء شعبهم في قطاع غزة، فمن المحزن أنه وحين التواصل لجلب التمويل لمشاريع في قطاع غزة يكون رد بعض الجهات لما لا يقوم رجال الأعمال الفلسطينين المغتربين بالمساعدة وهم يملكون من الأموال التي لو صُرفت زكاته فقط لتم تعمير غزة دون حاجة لتدخل أممي.
وهنا أنقل لكم صوت الفقراء في قطاع غزة فمن خلال معايشة واقع مئات الأسر منهم في قطاع غزة فإن الأولوية لديهم للمسكن وفرص العمل، لابد من تلبية احتياج الأسر الفقيرة التي تسكن في ما يشبه البيوت وتحتاج بيوتها إلى ترميم، وهنالك حاجة لإنشاء بنك الفقراء على غرار البنك الذي قام بإنشائه محمد يونس في بنجلادش شرط وجود إدارة ناجعة وتمويل المشاريع الصغيرة وفق دراسات معمقة تؤدي لنجاحه.
ناهيك عن ضرورة التسريع بإعمار ما دمره الاحتلال أثناء عدوان صيف 2014 الأمر الذي سيوفر آلاف فرص العمل ويُعيد لآلاف الأسر بناء منازلهم المدمرة.
بقلم م. محمد يوسف حسنة.