بعيدا عن أى توجهات يعبر عنها البعض بضرورة اتخاذ مواقف مضادة تجاه قطاع غزة، فى ضوء الأحداث المؤسفة المتلاحقة التى تشهدها أرض سيناء الحبيبة, وبغض النظر عن وجود توجهات مقابلة تتبنى فكرة الدفاع عن القطاع وترفض مبدأ تعميم الاتهامات, فإن الأمر يتطلب منا تحييد هذين الجانبين فى التقييم, والتوجه نحو التركيز على التعرف على طبيعة الوضع فى غزة وصولا إلى كيفية التعامل مع القطاع خلال المرحة المقبلة. من المهم أن نتعرض إلى بعض الحقائق فى إطار العلاقات بيننا وقطاع غزة , وهى حقائق متعددة ولكن نوجز أهمها فى أن غزة يدخل ضمن ما نسميه الدائرة الأولى للأمن القومى المصري، فى ضوء وقوع القطاع على الحدود مع مصر لمسافة تصل إلى نحو 14 كم, ولا يسعنا المقام هنا للخوض فى معطيات التاريخ التى تشير إلى أن معظم الغزوات والتهديدات التى تعرضت لها مصر انطلقت نحونا من هذه المنطقة الشرقية أو الشمالية الشرقية . كما أن مصر تحملت مسئولية القطاع وإدارته منذ عام 1948 وحتى يونيو1967، عقب نتائج الحرب الإسرائيلية العربية عام 1948, وقد أثبت التاريخ المعاصر أن مصر قد تركت أطيب الآثار لدى سكان القطاع الذين يتحدثون حتى الآن عن فترة الإدارة المصرية بشكل إيجابى للغاية. وتعتبر مصر المنفذ الوحيد (المتاح تقريبا) لسكان القطاع الذين يقترب عددهم لنحو مليونى فلسطينى إلى العالم الخارجى من خلال معبر رفح , أخذا فى الاعتبار أن المعبر الآخر ( معبر إيريز) يعد معبرا إسرائيليا تخضع فيه عملية العبور لقيود عديدة، ولا يعبر منه سوى أعداد قليلة من السكان, ناهيك عن حقائق جذور التواصل العائلى التاريخى والثقافى والعلمى بين السكان فى كل من مصر والقطاع . أضف إلى ذلك أن مصر هى الدولة الوحيدة أو الرئيسية التى أشرفت على خطة الانسحاب الإسرائيلى ( العسكرى والمدني) من قطاع غزة فى سبتمبر عام 2005, واتخذت موقفا متطورا بالمبادرة بإرسال وفد أمنى رفيع المستوى وُجِد فى غزة لمدة سنتين للإشراف علي مراحل ما قبل وفى أثناء وبعد الانسحاب الذى تم بنجاح تام, وبذلك أسهمت مصر فى تسهيل تحرير أرض غزة من الوجود الإسرائيلي. هناك مجموعة من التحديات والمخاطر التى تواجه مصر ارتباطا بتطور الأوضاع فى قطاع غزة، نشير أبرزها استمرار سريان حالة الانقسام الفلسطينى منذ سيطرة حركة حماس على السلطة فى القطاع منذ يوليو 2007 حتى الآن, وبالرغم من تشكيل حكومة فلسطينية جديدة، فإنها لم تستطع ممارسة مهامها المنوط بها فى القطاع، فى ظل مواصلة حماس سيطرتها الفعلية على مقاليد الأمور هناك . الحاصل أن التيارات المتشددة والمتطرفة تنامت بصورة لم يسبق لها مثيل, ووضوح وجود قدر من التواصل والتنسيق الفعال بين هذه التيارات والجماعات الإرهابية فى سيناء, الأمر الذى وفر لهذه الجماعات دعما لوجستيا لعملياتها ضد القوات المصرية الموجودة فى سيناء. كما أن استمرار سياسة حفر الأنفاق من داخل القطاع عبر المنطقة الحدودية إلى داخل الأراضي المصرية لعب دورا خطيرا, مع استخدام هذه الأنفاق في عمليات التهريب أساسا, ومن البديهى أن يشمل التهريب المواد المحظورة، خاصة الأسلحة المختلفة الأنواع والمتفجرات والأفراد. علاوة على عدم استبعاد احتمال انفجار الوضع الأمنى والعسكرى بين إسرائيل وحركة حماس لمرة رابعة قادمة, بالتالى تظل حالة التهدئة الراهنة مجرد حالة مؤقتة يحكمها مدى تقييم كل من الطرفين لتوقيت المعركة القادمة التى قد يسعى إليها كل منهما أو أحدهما تحقيقا لأهداف محددة. ولاشك أن إحدى سلبيات العمليات العسكرية السابقة، ما أدت إليه من حالة دمار واسع فى المنازل والمدارس والمؤسسات وتشريد آلاف الفلسطينيين داخل القطاع, ومن المؤكد أنه سوف تستمر معاناة هؤلاء لسنوات طويلة مقبلة . الواقع أن كل الأمور التى تم توضيحها تفرض على مصر أهمية النظر فى التعامل مع الأوضاع فى غزة خلال المرحلة القادمة فى إطار مجموعة من المحددات أو المتطلبات, وقد يكون من المناسب أن نقوم بتنفيذها بشكل متكامل أو على مراحل طبقا للظروف والمتغيرات التى تتمشى مع مصالحنا, وأهمها التأكيد فى كل المحافل أن القطاع يشكل مع الضفة الغربية وحدة جغرافية واحدة لا تنفصل وهما يشكلان سويا الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها, وفى هذا المجال من الضرورى أن ترفض مصر وبشدة بل عليها مواجهة كل الأفكار والتوجهات التى تثار حاليا من داخل القطاع ومن بعض الأطراف على المستويين الإقليمى والدولى بالتوجه لبلورة هدنة طويلة الأمد بين إسرائيل وحركة حماس, ذلك أن مثل هذا الاتفاق (إن صح ما يثار بشأنه ) يمثل إنهاء لكل الآمال لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضى عام 1967، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار. واستمرار سياسة مصر الناجحة إلى حد كبير فى إغلاق الأنفاق على الحدود مع القطاع باعتبارها أحد مهددات أمننا القومي, بالإضافة إلى اتخاذ مصر أقصى درجات العقاب والحزم والحسم ضد أى أفراد أو جماعة أو فصيل تثبت محاولته المساس بأمن مصر, فهذا خط أحمر يستوى فيه الجميع دون مجاملة أو مهادنة . كذلك استئناف الجهود المصرية لإنهاء الانقسام الفلسطينى والعمل على تنفيذ اتفاق المصالحة الشاملة الذى وقع فى القاهرة فى 4 مايو 2011 وشارك فيه الرئيس أبو مازن وكل الفصائل الفلسطينية دون إغفال صعوبة هذا الملف, مع التذكير بأن حركة حماس وقعت على الاتفاق وأكدت عزمها على تنفيذه, الأمر الذى لم يحدث حتى الآن, ونشير فى هذا المجال إلى أن مصر مفوضة من الجامعة العربية للقيام بهذا الدور . من الضرورى تنشيط الجهود المصرية خلال الفترة المقبلة فى مجالي، عملية السلام وإعادة اعمار القطاع الذى نجحت مصر خلال مؤتمرى شرم الشيخ عامى 2009 و2014 فى تجميع نحو 10 مليار ات دولار من المجتمع الدولى دون أن يتم تنفيذ أى من هذه الالتزامات الدولية حتى الآن. وفتح معبر رفح لعبور سكان القطاع على فترات غير متباعدة لاعتبارات إنسانية, على أن يرتبط فتح المعبر بشكل دائم عقب عودة السلطة الشرعية التى يمثلها الرئيس أبو مازن إلى قطاع غزة. وبلورة وتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية فى شمال سيناء خلال فترة زمنية معقولة , الأمر الذى يزيد من حالة الاستقرار هناك, ويحول فى الوقت نفسه دون استثمار التيارات المتطرفة فى غزة للأوضاع الاقتصادية السيئة فى سيناء كبيئة لنشر أفكارهم الهدامة وما يترتب عليها من نتائج سلبية. فى ضوء ما سبق فإن التعامل مع القطاع أمر لا مناص منه أنه يرتبط بمحددات الأمن القوم , وفى هذا الشأن أرى أن ينقسم هذا التعامل إلى شقين رئيسيين الأول تكتيكى ويركز على اتخاذ كل الإجراءات لضمان استقرار الأوضاع الأمنية على الحدود المشتركة بيننا وهو ما سوف ينعكس بالقطع على هدوء الأوضاع فى سيناء, والثانى إستراتيجى ويهتم بكيفية أن تكون غزة مع الضفة الغربية قوام الدولة الفلسطينية القادمة , حتى يكون هناك استقرار حقيقي ليس بيننا وفلسطين فقط ولكن على مستوى المنطقة كلها, ولا يفوتنى هنا ضرورة أن تثبت السلطة الحقيقية الحاكمة فى القطاع وأعنى بها واقعيا حركة حماس أنها بعيدة عن المساس بأمننا القومي، قولاً وعملاً. وهذا هو المحك الرئيسي, فمصر لن تسمح لأى جهة كانت أن تعبث بمقدرات أمور دولة كبيرة بدأت تضع قدميها بقوة على المسار الصحيح لتنهض وتتقدم, وستنهض وتتقدم إلى آفاق عظيمة بمشيئة الله .
اللواء. محمد إبراهيم
وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية