المصالح من أهم علاماتها الأساسية وأشملها وأعمقها تأثيراً هو الحقل الثقافي. فكثير من النظريات، تؤكد على أن المصدر الرئيسي للصراع في المستقبل سيكون مصدراً ثقافياً، وليس أيديلوجياً أو اقتصادياً. فالثقافات، هي الإطار المسيطر على العلاقات الدولية، وتأكيداً على هذا النهج يمكن العودة إلى تصريح الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في مؤتمر اليونسكو عام 2001 حيث قال:"القرن التاسع عشر شهد صراع القوميات والقرن العشرين شهد صراع الأيديلوجيات، أما القرن الحادي والعشرين فسيشهد صراع الثقافات". وبناء عليه، يجب عدم أغفال العوامل الثقافية كقوة مؤثرة ودافعة لتحقيق المصالح، سواء على صعيد الرؤية الثقافية للدول الكبرى لمنطقة الخليج، أو على صعيد الواقع الثقافي بحد ذاته لتلك المنطقة، والذي يعتبر عاملاً مساعداً للدول الكبرى لتحقيق أهدافها. فلعبة المصالح لا تقف عند أيّ حاجز، في علم السّياسة والعلاقات الدّوليّة.
وانطلاقاً من ذلك، فأن معيار البعد الثقافي في تحليل واقع مصالح الدول الكبرى في الخليج، يمكن لنا مقاربته من خلال شقين :
1- العلاقة بين الغرب والإسلام .
2- العلاقة بين التيارات الإسلامية .
الشق الأول: العلاقة بين الغرب والإسلام.
يوجد مصالح استراتيجية سياسية واقتصادية وأمنية للدول الكبرى في المنطقة. ولكن تبقى في الحقيقة،الرؤية الثقافية للغرب حول العالم الإسلامي والخليج جزء منه هي التي تحدد اتجاه هكذا استراتيجيات – على الرغم من تمايزها في بعض الأحيان- للسيطرة على المنطقة وذلك لعدة أسباب منطقية. وهي كالآتي :
أ- الإرهاب: اعتبار منطقة الخليج هي مصدر الإرهاب فكرياً ومادياً. وبالتالي، فالعامل الثقافي هو الذي يحدد هذة الرؤية.
ب- الطاقة : وهي أساس الاعتماد المتبادل بين دول العالم بأبعادها الاقتصادية والأمنية .
ت- إشكالية علاقة العرب والمسلمين مع إسرائيل: وهذه المعضلة لها تداعيات خطيرة على الأمن العالمي، والدول الكبرى ملزمة التعامل مع هكذا مسألة معقدة .
ث- الجيوش الأجنبية: لا يمكن بقاءها في الخليج للأبد. فمن هذا المنطلق، يجب بناء أنظمة جديدة للأمن والأمان.
فالشكوك والمخاوف واضحة للعيان، عندما يتم التكلم عن تصور الدول الكبرى للمنطقة بأكملها، بما فيها الخليج العربي. ومشاريع الشرق الأوسط بأسمائه المختلفة(ومنها الربيع العربي) تحمل في طياتها، تصور كامل للمنطقة من جغرافي، سياسي، اقتصادي،أمني. وهو قائم على حزمة من التغييرات التي يراد تعميمها، والتي تحمل في مضمونها أبعاد ثقافية ومذهبية مقيتة. وهذا ما يطلق عليه حروب الهويات والثقافات في الشرق الأوسط. فالغرب أصبح مقتنعاً واقعياً، بأنّ الأوضاع المتأزمة في العراق وسوريا واليمن والسعودية ولبنان والبحرين، لا يمكن إيجاد حلول لها، إلا عن طريق التعاون والتفاهم مع إيران تحديداً. ولذلك، لا مفر أمام تلك الدول سوى البحث عن مسار للتلاقي مع الجمهورية الإيرانية.
ويبدو أن الغطاء الفكري لهكذا تقارب، قد يكون مرتكزاً على التسليم والاقتناع، بأنّ الخطر الإرهابي السّني (الوهابي) أشدّ وطأةً وفتكاً،ً من النفوذ الإيراني في المنطقة. وبالتالي، قد تكون القوة الإيرانية هي الوحيدة عملياً، القادرة على الأرض، مواجهة هذا الإرهاب الإسلامي السّني العربي ( ويمكن القول أن الدعم الإيراني الحالي المقدم للدولة العراقية في مواجهتها لإرهاب داعش يأتي في إطار التقاطع في المصالح، وأن كان بطريقة غير مباشرة). وبناء عليه، ينظر إلى إيران على الأقل كواقع يجب إعطاءه هامش للتحرك ولو بالحد الأدنى. وهذه السّياسة تساعد على نقل الصّراع والمواجهة من بين الغرب والإسلام، إلى المواجهة فيما بين النفوذ الشيعي والنفوذ السّني. وهذا ما يستدل عليه من خلال القراءة الإستراتيجيّة لكيفية تعامل الغرب، مع أزمات العراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين.
الشق الثاني:العلاقة بين التيارات الإسلامية.
تكمن الخطورة في هذا الشق، بأن تستطيع الدول الكبرى تحقيق مصالحها من خلاله. فالمشهد الإسلامي، تتجاذبه وتتصارع داخله تيارات مختلفة. والواقع الخليجي والعربي يعكس كل تلك المتناقضات، المتنوعة والمتضاربة. والتي يمكن توضيحها، على الشكل التالي :
أ- فكرياً:
هنالك من ينادي بالإصلاح والتحرر، وهناك من ينظر للتحولات بمنظار تقليدي، ويوجد الأرهابيين الذين يحاولوا الخروج عن كل ما هو مألوف وإنساني. وهذا الحراك السياسي والاجتماعي، يلقي بظلاله على إمكانية الدول الخليجية وقدرتها، في الحفاظ على كياناتها ومصالحها.وفي المقابل يسمح للدول الكبرى التدخل تحت غطاء أمني وإنساني. ذلك من أجل تحقيق هدفين،الأول:الضغط على تلك الدول لتحقيق أهدافها تحت شعار الاستقرار والحفاظ على الأنظمة. الثاني: استغلال هذا الحراك لبناء نموذج حضاري ثقافي جديد يخدم تطلاعاتها.
ب- مذهبياً:
الخلاف الديني والطائفي في العالم الإسلامي(سني، شيعي، علوي، وهابي، حوثي، يزيدي، درزي، ماروني، قبطي..الخ) دخل في عمق وجوهر أصول القناعات الدينية. فهناك سعي نحو فرز واصطفاف يلعب فية الموروث الطائفي، دوراً حيوياً في تثبيت ركائز ما هو قادم في المستقبل. فواقع المجتمعات الحالي،في السعودية والعراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين ومصر، يبدو نموذجاً صارخاً لهكذا منطق.
وهذا الواقع يستغل ويتم التلاعب على تناقضاته من قبل الدول الكبرى على صعيدين:
1- داخل كل دولة على حدة كالخلافات المذهبية داخل اليمن، البحرين، الكويت، السعودية، إيران، العراق، مصر، لبنان، تركيا، سوريا...الخ.
2- فيما بين الدول: كالعلاقات العربية الإيرانية أو العربية العربية. وهذا ما كان قد عبر عنه بعض الزعماء العرب حول ما يسمى الهلال الشيعي أو رفض مبادرة أمين عام الجامعة العربية السابق عمرو موسى عام 2010 التي تدعو لإجراء حوار استراتيجي مع إيران. ونستطيع القول أن الحرب السعودية على اليمن تأتي في نفس هذا السياق الفكري أيضاً.
ومن الجلي، أن هنالك رؤية فكرية سياسية قائمة على أحداث تغيّرات استراتيجيّة في المنطقة، لم تعد قائمة على مفهوم مصالح الدّول. فالآن نحن، أمام نفق لم تعد الصّورة واضحة المعالم فيه. إذ تشير المعطيات في العالم العربي وتحديداً في منطقة الخليج، إلى أننا أمام نظام جديد وخطير للغاية، يشبه واقع الدّول الأوروبيّة ما قبل توقيع معاهدة وستفاليا 1648. فالرّهان على الوقت، قد لا يمكن أن يستمرّ طويلاً في ظل البيئة الاستراتيجيّة الخطرة، التي تعاني منها المنطقة بأسرها، والتي تسيطر عليها كل من الحركات الإرهابية المتطرفة، كالقاعدة وجبهة النصرة، وداعش والجيش السوري الحر(الجناح العسكري للأخوان المسلمين) المدعومة من قبل بعض الأنظمة الخليجية وتركيا وإسرائيل والغرب، لمواجهة النفوذ الإيراني والسوري وحركات المقاومة على المستوى الإقليمي، والنفوذ الروسي والصيني على المستوى العالمي.
فالمنطقة أمام تناقض خطير جداً. عربياً أصبح هناك وبلحظة ما، من يرغب بنقل الصّراع في الشرق الأوسط (بل بالفعل تم نقل هذا الصراع) من صراع عربي إسرائيلي استراتيجي، إلى صراع عربي إيراني. ومن المؤسف والمؤلم جداً، أن تتخذ العلاقات العربيّة العربية، أو العلاقات العربية الإيرانيّة، طابعاً مذهبياً مقززاً. ومن المستغرب هذا التحوّل في النظرة العربيّة لمصالحها الإستراتيجيّة. وهذه المعضلات والمعطيات، يمكن ملامستها من خلال طرح الإشكاليات التالية:
1- هل تستطيع (أو بالأحرى هل استطاعة) الدول الغربية من استغلال المخاوف العربية الثقافية والقائمة على أبعاد مذهبية لتحقيق أهدافها في المنطقة من تقسيمها لدويلات وفرق مذهبية؟ وهل تستطيع بالتالي تأمين حماية أمن الدولة العبرية؟
2- هل يُعقل أن ترتكز قاعدة واستراتيجية الأمن القومي العربي على أبعاد طائفية؟ ممّا يجعلنا نطرح تساؤلات إستراتيجيّة حول المصالح العربية القومية وأولويّات تحديد الأخطار وكيفيّة مواجهتها؟ فما هي منطلقات ودوافع تلك المصالح غير المتفق عربياً عليها أصلاً؟
لقد أصبحت التطورات في العالم العربي صاحب الخلل في موازين القوة مصدراً للقلق والتوتر. وهي بحاجة لرصد وبحث ومراقبة، لمحاولة إيجاد مقاربة فكرية تعيد التوازن الإستراتيجي المفقود عملياً منذُ زمن بعيد. هذه المقاربة، لا يمكن أن يكتب لها النجاح، إلا في حال كانت عملية إعادة التوازن مبنية على منطق تبادل المصالح. كما هو واقع الحوار والتفاهم الإيراني الغربي حول الملف النووي أو الوضع في العراق. والذي قد يكون بمثابة صورة ونموذجاً حقيقياً وعقلانياً عن مستقبل تلك المنطقة.
ولكن، يبقى التساؤل المؤلم والمقلق: أين العرب من كل هذا الواقع؟ وعلى أية قاعدة يمكن لنا بناء الأمن القومي العربي؟ القاعدة المذهبية المقيتة؟ أم قاعدة توازن القوى المفقود حالياً؟ أم قاعدة تبادل المصالح؟ فتحديد تلك القاعدة قد يمكن التماسها فقط، من خلال إعادة النظر بي موروثنا وواقعنا الثقافي، من قبل كل من القيادات والنخب والشعوب العربية. قبل أن يُصبح عالمنا العربي بين خياران لا ثالث لهما:أما القاعدة وأما داعش، وربما غداً أما طالبان وأما بوكو حرام؟
سلام الربضي: مؤلف وباحث في العلاقات الدولية اسبانيا
www.salamalrabadi.blogpost.com