شهر رمضان الفضيل سنة عن سنة يتحول من شهر عبادة الى عادة وطقوس اجتماعية.....بدون نفاق ودجل لا تسامح ولا تعاضد اجتماعي،بل مشاكل و"طوش" فردية تندلع على خلفية أسباب واهية،ترتفع وتيرتها وتزداد حدتها لتتحول الى حروب وشجار جماعي يندفع فيه الناس للإشتباك والمشاركة الكل منهم منتصراً لقبيلته او عشيرته او جماعته،وعلى قاعدة أنه هو صاحب الحق وغير مخطىء حتى لو كان هو المبادر للمشكلة "الطوشة" او المحرض عليها، لا تنفع كل الآيات ولا الأحاديث النبوية ولا الخطب الرنانة او الشعارات المرفوعة أو ما هو موجود في الكتب أو منشور على صفحات التواصل الاجتماعي وفي الصحف والمجلات او على شاشات التلفزة أو ما يبث على الأثير من مواضيع ودروس وحكم وعِبر في لجم ووقف هذا الإحتراب الدموي المدمر.
والشهر بالأساس عدا كونه شهر عبادة ومغفرة وتقرب العبد لخالقه وشكره على نعمه،وتجسيداً لوحدة وتعاضد المجتمع بأكثر من طريقة ووسيلة،والدعوة لشعور من الأغنياء مع الفقراء ....الخ،فنحن في سياق الترجمة والتطبيق العملي نجد بأن مثل هذا الكلام أثره وتأثيره قليل وغير ملحوظ في المجتمع،ومع كل شهر فضيل نشهد ونلحظ بأن هناك تغيرات مجتمعية تحدث لجهة التغير في التراتبية المجتمعية وتسيّد المشهد الفلسطيني عامة والمقدسي خاصة،والتغيرات هنا مرتبطة بتغير الواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي،ففي القدس على سبيل المثال لا الحصر قبل إحتلال عام 67،كانت التراتبية الإجتماعية قائمة على سيطرة البرجوازية الصغيرة من تجار وأكاديميين وتربويين وفئة الأطباء والمهندسين والمحامين والمعلمين وغيرهم،لتنتقل السيادة في هذه التراتبية شيئاً فشيئاً الى الحركة الوطنية بعد الإحتلال،ولتبلغ ذروتها بقيام الإنتفاضة الشعبية الأولى،إنتفاضة الحجارة في كانون أول/1987،حيث شكلت الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف مكوناتها ومركباتها السياسية ،اركان حرب لتلك الإنتفاضة،وكان واضحاً بعد توقيع اتفاق أوسلو بأن الحركة الوطنية يتراجع دورها وحضورها لجهة تسيّد السلطة الناتجة عن اتفاق اوسلو لقيادة المشهد المقدسي،ولكن ضعف أداء السلطة وما نتج من معارضه جماهيرية وشعبية لهذا الإتفاق،وخاصة أنه أبقى القدس قضية مؤجلة الى أجل مسمى،وكذلك تراجع دور الحركة الوطنية الفلسطينية وضعف أدائها لجملة من العوامل والظروف جزء مرتبط بها،وآخر برغبة السلطة بالإستحواذ والهيمنة وإضعاف وتهميش الحركة الوطنية،ناهيك عن تصاعد حدة القمع الصهيوني لها ولكل أشكال العمل في المدينة من السياسي والوطني وحتى الاجتماعي الإغاثي،كل هذا ساهم في خلق تراتبية اجتماعية جديدة كانت تبذل كل جهدها من اجل أن تقف على قمة المشهد المقدسي،وهي تراتبية يقودها رجال ولجان الإصلاح والعشائر،حيث تصاعد الخلافات والمشاكل الإجتماعية،وتنامي دور العشائرية والقبلية والمليشياتية،وشعور الناس في القدس بأنه من اجل الدفاع عن حقوقهم وممتلكاتهم ولمنع التعدي عليهم او ممارسة "البلطجة " والزعرنه" أو تدفيعهم للخاوات، لا بد من الإنسحاب نحو العشائرية والإستقواء بها،ومع بروز دور العشائرية والقبلية في المجتمع الفلسطيني عامة والمقدسي خاصة،وما لعبته وتلعبه لجان الإصلاح في التخفيف من حالة الإحتقان والإحتراب المجتمعي،كان يجري عمل على جبهة أخرى لكي لا يكون هناك عودة لتسيد الحركة الوطنية لهذا المشهد أو التراتبية،المنظمات غير الحكومية المتسلحة بالمال الأجنبي كانت هي الأخرى تريد أن تقود المشهد عبر تطويع الحركة الوطنية،من خلال التوظيف لكادرات الحركة الوطنية ومفاصلها الأساسية،أو من خلال خلق روابط وعلاقات مع قيادات تلك القوى والأحزاب، وهنا يجب التشديد على أن تدفق المال وحرية العمل الأوسع مع الجماهير والفئات المجتمعية،وعدم قدرة الفصائل والقوى على التعاطي مع احتياجات وهموم الجماهير،كان يدفع باتجاه سيطرة تلك المنظمات غير الحكومية واستحواذها على دور الفصائل،وبالمقابل كانت تجري تحولات اخرى في المجتمع،مع بروز الدور الإقتصادي والمجتمعي للقطاع الخاص ورجال الأعمال،هذا القطاع أراد أن يعبر عن توظيفه لقدراته الإقتصادية في التحكم في مفاصل العمل الأساسية في المدينة،من خلال ضخ أمواله لتشكل خادم مستقبلياً له ولرؤيته ومنهجه في العمل من خلال الإستثمار في المؤسسات الشعبية والجماهيرية والعمل الإغاثي والوقوف على رأس مؤسسات لها حضورها وسمعتها بين الجماهير جمعيات ،أندية لجان،صناديق باسم القدس وغيرها،وهذا القطاع يريد قيادة هذا المشهد المقدسي وتسيده عبر مد جسور العلاقات مع القوى المجتمعية الأخرى،لكي تكون مساندة وداعمة له في ذلك،قوى واحزاب،عشائر ،مؤسسات مجتمعية وغيرها،ولعل التجلي والتعبير عن ذلك يكون أبرز واوضح في شهر رمضان الفضيل،حيث تجد كيف يجري الإستثمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للشهر الفضيل من قبل القطاع الخاص ورجال الأعمال،وحتى السلطة والقوى والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني،وما يجري من أنشطة وفعاليات مجتمعية تتكثف في شهر رمضان،افطارات رمضانية،أنشطه ثقافية وتراثية،أنشطة فنية،إقتصادية،إعلاميه ودينية وغيرها، يمولها ويشرف عليها القطاع الخاص ورجال الأعمال أو المؤسسات غير الحكومية مؤشر على تغير التراتبية الاجتماعية في فلسطين،حيث ينجح القطاع الخاص في تطويع الحركة السياسية لكي تصبح لاهثة خلفه مسبحة ومهللة لسلطانه ووجاهته،وبالمقابل الجماهير تسحق وتطوع عبر ثقافة الشحدة والتسول وإمتهان الكرامة من خلال المؤسسات التي تقوم بالشحدة من مؤسسات عربية وإقليمية ودولية،كلها تصر على أن تجري عملية التصوير لمن يتلقون الخدمة من خلالها،ونحن نتفهم أن يكون حديث عن الشفافية والخوف من الفساد ونهب المواد والأموال المتبرع بها،ولذلك يجري توثيق عمليات التوزيع او التبرع،ولكن ما يجري يتخطى حدود ذلك بكثير،حيث نشهد وشهدنا كما جرى ويجري في المسجد الأقصى في الوجبات التي توزع على الصائمين،حيث المشاهد للمشاهد المنقولة هناك يتصور بأننا في أيام "سفربلك" أو المجاعة الكبرى، وبما يعطي صورة سلبية وقاتمة ومؤلمة عن شعبنا، ولذلك يجب أن تكون طرق وآليات في عمليات توزيع الوجبات الرمضانية، لا تسيء لقدسية المسجد الأقصى ومكانته،ولا تمس بكرامات الناس،ولا تخلف أكداس من أطنان القمامة بعد الإفطار.
الحياة الإجتماعية كما هي الطبيعة لا تحتمل الفراغ،وكذلك هو حال واقعنا المقدسي،الذي هو بحاجة لتضافر كل الجهود وتوحدها،قوى واحزاب وفصائل ومؤسسات ولجان اصلاح وعشائر ومؤسسات دينية وتربوية،توحد يفضي لقيادة مقدسية تعبر عن هموم أبناء شعبنا الاقتصادية والإجتماعية وتصون وتدافع عن حقوقهم وثوابتهم الوطنية وتحفظ للمدينة سلمها الأهلي والمجتمعي وحريتها الدينية في إطار العيش المشترك ووحدة الهدف والهم والمصير.
بقلم/ راسم عبيدات