غزة وسيادة حالة الأبراتاهيد الاقتصادي !!
شهد العالم في العقود الأخيرة العديد من أنظمة الحكم الاستبدادية والتي مارست أبشع عمليات التمييز العنصري والتطهير العرقي منها الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب أفريقيا والحركة الصهيونية في فلسطين , حيث أشارت أحدى الدراسات لباحثة جزائرية أن أبرز عمليات الإبادة والتطهير العرقي الأعظم في العالم والأطول في تاريخ الإنسانية , ما تعرض له الهنود الحُمر , حيث تشير أحدى الوثائق أن معظم الهنود الحُمر الذين هربوا بأطفالهم إلى الغابات والجبال الوعرة وصاروا بسبب هوياتهم الهندية الحمراء, يعيشون فيما سمي آنذاك " أملاك الولايات المتحدة الأمريكية " , وتحولوا بموجب القوانين الأمريكية إلى لصوص معتدين على أموال الغير, مما أدى بالجنس الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية بممارسة الإبادة الجماعية ضدهم, ولقد تم إهداء أغطية مسمومة بجراثيم الجدري لهنود المندان في فورت كلاك, وُنقلت تلك الأغطية المسمومة في 20-06-1837 من محجر عسكري لمرضي الجدري في سان لويس على متن قارب بخاري, فحصدت في أقل من سنة أكثر من 100 ألف قتيل , قبل غزو كولمبوس للقارة الأمريكية عام 1492 م كان عدد الهنود ( السكان الأصليين للقارة الأمريكية) 112 مليون شخص , ولم يبقى منهم في العام 1900 م سوى ربع مليون, وخلال تلك الفترة شن الغزاة 93 حرباً جرثومية قضت على 400 شعب من الشعوب الهندية الحمراء, ولغاية الآن لم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بعدد ضحايا الهنود الحُمر الذين أبيدوا في الشمال الأمريكي, وفي سياق قريب رفعت الحركة الصهيونية قبيل احتلالها لفلسطين شعارات احتلال العمل, قدسية العمل, المحبة اليهودية, احتلال الأرض, الإنتاج العبري, محبة صهيون(الوطن), وتمكنت بذلك خلق اقتصاد يهودي قوي ويمتلك جُل الموارد الطبيعية ويحتكر الإنتاج وأهمها الكهرباء والصناعة مقابل اقتصاد عربي ضعيف يعتمد على الزراعة التقليدية وصناعة الصابون والزيوت, ولا يخلق قيما اقتصادية كبيرة مع فرض قيود على نموه, انعكس ذلك في التفاوت بين العرب واليهود من حيث الدخول والأجور.
في الأراضي الفلسطينية وتحديداً قطاع غزة هناك أشبه ما يمكن أن يُسمى بحالة الأبراتاهيد الاقتصادي, حيث أن الانخفاض المستمر في الإنتاج والارتفاع المتنامي في معدلات الفقر والتراجع في مستويات اللا عدالة في التوزيع قد تسبب في خلق مجتمعاً يعاني من فصلاً اقتصادي, ويتضح ذلك من خلال أن العديد من المرافق لا يستطيع الفقراء وذوي الدخول المنخفضة والمتوسطة دخولها أو التمتع بخدماتها والسبب عدم القدرة وعدم توفر دخل كافي لذلك, حالة الأبراتاهيد الاقتصادي ( الفصل الاقتصادي) , تعني أن نسبة كبيرة من الأسر الفلسطينية في غزة لا تتمتع مثلا بخدمات المطاعم والمحلات التجارية والمرافق الصحية والتعليمية والترفيهية, فمثلا هناك من يعمل بالقطاع الزراعي بأجرة يومية تُقدر ب 5 دولارات ( وإذا أراد أن يتناول وجبة الغذاء في بعض المطاعم بغزة والتي تعتبر شعبية قياسا بأخرى فإنه يحتاج لأجرة 6 أيام , عمل أسبوع كامل فقط من أجل وجبة غذاء لثلاثة أشخاص, أي 42 ساعة عمل متواصلة وشاقة مقابل وجبة غذاء واحدة, وبنفس المحل التجاري يعمل طفل بالسخرة لا يتجاوز عمره 10 سنوات أجرته اليومية لا تكفي لربع وجبة, المطعم شبه الشعبي مثالا حي لذلك, إضافة إلى أن أسعار الإيجارات و العقارات , اللحوم, الدواجن, الفاكهة , الأماكن الترفيهية , رسوم الدراسة الجامعية , الحسابات البنكية , معارض الملابس والأجهزة الكهربائية والالكترونية , النوادي, الكفتريات , عيادات الأسنان , والعيادات التخصصية الأخرى, التمتع باستراحات البحر كونه المكان الوحيد الترفيهي لقطاع غزة , جميعها تخضع لحالات فصل اقتصادي, فمثلاً في بحر منطقة الواحة شمال غزة تضطر بعض الأسر ونسبتها لا تقل عن 25% من زوار البحر, أن تفترش الأرض وداخل الأبنية المدمرة والسبب عدم مقدرتهم على دفع إيجار الاستراحات التي لا يزيد رسومها عن 5 دولارات للغرفة الواحدة ولمدة يوم كامل, وهي مبلغ لا يُقارن بمناطق أخرى بغزة وتحديداً الشيخ عجلون حيث تبلغ أجرة الغرفة حوالي 10 دولارات, أما الصيدليات؛ فإن عدد كبير من المرضى لا يستطيعون توفير مستلزماتهم الطبية منها واعتمادهم على مراكز الحكومة وبعض المراكز الصحية الخيرية وفي حالة عدم توفرها من تلك الأماكن, فإن الوضع يكون أكثر تعقيداً وتحديداً لمرضي السكر والضغط والغدد الدرقية وغيرها من الأمراض المزمنة وأدوية علاج العقم والتأخر في الإنجاب, حيث أن بعض الأسر الفقيرة تبلغ فاتورة العلاج لديها شهرياً 50 دولار في حين لا يوجد لديها دخل سوى 100 دولار شهريا وهو عبارة عن شيك الحماية الاجتماعية؛ بمعني أن فاتورة العلاج تستقطع 50% من شيك الشؤون الاجتماعية , أحدى الأسر يحتاج أحد أفرادها علاجاً شهريا بقيمة 100 دولار وهي عبارة عن حقنة للنمو ( عمر المريض 13 سنة) ووفقا للأطباء فأنه يحتاج لحقن علاجية لمدة 4 سنوات ( حتى يصبح عمره 17 سنة), تلك الأسرة جُل أولوياتها هي توفير تلك الحقن والنتيجة لا جدوى, حيث دخلها أصلا لا يزيد عن 100 دولار شهرياً وتسكن ببيت متواضع ولا يتوفر به أثات ولا بنية تحتية مناسبة والجدران متهاوية وآيلة للسقوط, , كما أن ارتفاع أسعار اللحوم بحدود 2 دولار للكيلو الواحد في الفترة الأخيرة قد أربك مئات العائلات والنتيجة غياب تلك السلعة المهمة من بيوت وموائد تلك الأسر لفترة طويلة, بعض الأسر لا تشتري تلك اللحوم سوى مرة أو أتنين بالعام وهذا ما قد انعكس بارتفاع درجة نقص وانعدام الأمن الغذائي للأسر الفلسطينية بغزة لنسب هي الأعلى عربيا وهي 67%, كذلك حتى الزواج وبناء البيت الزوجي يدخل ضمن الأبراتاهيد الاقتصادي حيث أن ارتفاع أسعار المهور والشقق السكنية وإيجاراتها ومستلزمات الأفراح من صالات وبدل العرائس والحفلة ووجبة الغذاء والأكسسورات والملابس النسائية وغيرها, وعدم توفر دخل يقف عائقاً أمام آلاف الشباب الذين بدءوا يعزفون عن الزواج والسبب الفصل الاقتصادي وتردي الوضع الاقتصادي والذي سببه الحصار والانقسام السياسي وأخطاء السياسات الاقتصادية المتتالية للسلطة والحكومات الفلسطينية , وهذا ما تدلله الإحصاءات المتعلقة بارتفاع نسب الطلاق وتراجع الزواج وخصوصا في العام 2014 حيث وصلت أعداد حالات الطلاق إلى 2627 حالة بينما بلغت حالات الزواج 16128 حالة وذلك بناء على الإحصائية التي أصدرها ديوان القضاء الشرعي بغزة في حين بلغ عدد النساء غير المتزوجات حوالي 125 ألف؛ لم يقتصر الأمر على ذلك , لقضية أخرى وهي أنه حتى من يدخل بتجربة حب ورومانسية ( الشاب في مرحلة الخطوبة أو الجامعة) قد يمنعه هذا الفصل الاقتصادي من أن يكون ولو لمرة واحدة من رواد مطعم أو محل للأيس كريم أو مكان هادئ في مدينة غزة, حيث أن تكلفة شرب فنجاني قهوة لا تقل عن 5 دولارات بالمتوسط ,وينطبق الأمر كذلك على الأيس كريم والعصائر وغيرها, وإذا أراد أن يتناول وجبة غذاء , يصبح جُل تفكير هذا الشاب (غالباً طالباً جامعياً ولا يعمل) هو العمل لأسبوع كامل لكي يستطيع توفير تكاليف ذاك اليوم الجميل, يوماً يستنزف جيب هذا الشاب ويرهقه, ومن أسوأ حالات الأبراتاهيد الاقتصادي هي المتعلقة بقطاعي الصحة والتعليم, حيث أن ارتفاع أسعار رسوم ساعات الدراسة بالجامعة والتي تتراوح من 20دولار لكليات التربية والحقوق والاقتصاد والعلوم إلى 100 دولار لكليات الطب لبرامج البكالوريوس, تلك الرسوم المرتفعة نسبيا منعت عدداً من خريجي الثانوية العامة من الالتحاق بالجامعات,( إدارة الجامعات تقول أن تلك الرسوم لا تلبي مصاريف الجامعات وبسبب ذلك تعاني من أزمات مالية متواصلة أدت إلى عدم قدرتها على دفع رواتب الموظفين ومنها الجامعة الإسلامية التي باتت تدفع حوالي 60% من قيمة الرواتب لموظفيها منذ قرابة عام), أما قضية الصحة فهي الأكثر مأساوية حيث الارتفاع في معدلات الإصابة بأمراض السكر والسرطان والضغط, ونظراً لمحدودية المستشفيات والنقص في المعدات وبعض التخصصات النادرة في قطاع غزة ( محافظة رفح تعداد سكانها 250 ألف وبدون مستشفى), تلجأ السلطة الفلسطينية للاهتمام بالتحويلات العلاجية للخارج والتي تقترب سنوياً من 100 مليون دولار, ورغم اهتمام السلطة المتزايد بالتحويلات إلا أن هناك قصور واضح وملاحظات متعددة منها عدم إنشاء مستشفى للأمراض التخصصية أو مدينة صحية متطورة بطواقم محلية وعربية من جهة, وتردي الوضع الصحي في المستشفيات القائمة حيث أن عدداً من المرضى لكي يدخل غرفة العمليات يحتاج لحجز ساعة للعملية وينتظر مقابل ذلك لفترة طويلة قد تصل أحياناً إلى 6 شهور, ولا يستطيع مئات المرضى الذهاب للعيادات الخاصة بسبب حالة الفقر الشديد, وعلى صعيد آخر لم تولي السلطة اهتماماً واضحا بقضية إرسال بعثات للخارج للحصول على التخصصات الدقيقة التي يحتاجها العمل الصحي الفلسطيني أو لم تفكر باجتذاب علماء وأطباء من الخارج كمصر تحديداً للعمل بغزة, حيث أن تكاليف العلاج بالعيادات الخاصة مرتفعة نسبياً ولا تلاءم المستوى الاقتصادي العام في قطاع غزة ومنها طب الأسنان الذي يستحوذ على نسبة كبيرة من دخل الأسر وبسبب ذلك يقوم المريض بتأجيل زياراته لعيادة الأسنان حتى تصل حالته لحد لا يستطيع بعده التأجيل, قبل أيام في أواخر شهر رمضان صرخ رب أسرة وأثناء وجبة الإفطار " نصوم 16 ساعة وبالآخر نفطر على دمعة" , تحاكي هذه العبارة أوضاع الآلاف من الأسر الفقيرة والتي يفصلها عن شراء الأساسيات من الأسواق وضعا اقتصادياً أوجده نظام الأبراتاهيد الاقتصادي بشكل أو بآخر, هذه القضايا قد أوجدت سيادة حالة من الأبراتاهيد الاقتصادي ليس سببه وجود أعراق مختلفة أو اختلافات في اللون واللغة والدين, الأبراتاهيد الاقتصادي ليس بسبب وجود بيض وسود أو هنود حمر وأمريكان بيض , وليس بسبب وجود يهود شرقيين وغربيين , ولكن فصلاً اقتصادياً بسبب طبيعة الاقتصاد الغزي الذي يعاني من اختلالات هيكلية وبنيوية واسعة , تلك الظروف المتداخلة قد شكلت مجتمعاً يميل للتعقيد مع الزمن وإلى حالة اللا عدالة في التوزيع ولاتساع حدة التفاوت بين الشرائح الاجتماعية, مجتمعاً يتجه إلى تعميق مشكلة المرض الهولندي ( الفقر المجتمعي مقابل الثراء الفردي), ويتضح ذلك في ارتفاع الأسعار وزيادة متطلبات الحياة وتعقيداتها , حيث أن نسبة كبيرة من الموظفين والعاملين وتقترب من 70% مستويات معيشتهم تتراجع وتنزلق لتصبح مع الزمن ضمن الطبقة الفقيرة, حيث أن سلم الرواتب للسلطة الفلسطينية والحد الأدنى الذي تم إقراره( لم يطبق حتى الآن) لا يتناسب مع حد الفقر الشديد للأسر والتي تبلغ 1732 شيكل (460 دولار) في حين أن حد الفقر النسبي يبلغ قرابة 2800 شيكل (745 دولار), ومع الارتفاع في الأسعار والانكماش في الاقتصاد , والذي تسبب في ارتفاع معدلات البطالة والفقر, فإن ذلك قد أوجد مجتمعاً يتكون في جله من الفقراء مع نسبة محدودة جداً من الأغنياء وبذلك تكونت عملية للفصل الاقتصادي أو الأبراتاهيد الاقتصادي في قطاع غزة تميل مع الأيام للتعقيد بشكل يستعصى على الحل في المدى القصير والمتوسط!!!
بقلم/ حسن عطا الرضيع