طلبة فلسطين في فنزويلا يفتحون الصندوق الأسود لفساد الخارجية والتعليم والسفارات

بقلم: محمد أبو مهادي

كتبت هذا المقال قبل أكثر من ستة أشهر، وترددت في نشره حرصاً على عدم إضفاء طابعاً شخصياً على موضوع عام، رغم أن القضية الشخصية المذكورة تعتبر مثال حيّ على حالة عامة يعاني منها آلاف الطلبة الفلسطينيين كل عام، وبعد طول تردد حفزتني فضيحة الفساد التي نشرتها وسائل إعلام مختلفة فيما يتعلق بمنحة الشهيد ياسر عرفات المقدمة من الحكومة الفنزويلية لطلبة فلسطين في العام الماضي 2014، فهو حدث يدفع للكتابة وطرح التساؤلات قديمة جديدة حول المنح التعليمية التي تقدمها مؤسسات وحكومات صديقة للشعب الفلسطيني، وكيفية إختيار المستفيدين منها والجهات التي تقوم بالإختيار، ومستويات النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص في الحصول عليها، وإنعاكاسات هذا الإختيار على مستقبل الطلاب المتفوقين الطامحين في فرصة جيدة للتعليم تناسب درجة تفوقهم وتلبي طموحهم.
خلال الحرب على غزة التي كانت في أوجها، قامت وزارة التربية والتعليم بإعلان نتائج الثانوية العامة في فلسطين 2014، وحرمت آلاف الأسر الفلسطينية من الفرحة بنجاح أبنائهم بفعل الحرب، فالجريمة الإسرائيلية كانت تنفذ ومشاهد الموت والدماء غطّت على كل شيء، والناس غارقة في البحث عن إشلائها، وعن ما تبقى من أفراد عوائلها، والحظ لم يسعف المئات من طلبة التوجيهي من معرفة حصاد جدّهم ومثابرتهم بعد أن صادر الإحتلال الإسرائيلي حياتهم بقذيفة طائرة أو مدفع دبابة ليترك غصّة لن يمحوها الدهر في قلب كل وطني فلسطيني.
رغم أن الإعلان الأول عن نتائج الثانوية العامة الذي قررته وزارة التعليم تم تأجيله بعد سلسلة إحتجاجات على الوزيرة لأنه لم يراع الظروف الخاصة بقطاع غزة، إلا أن ذلك حصل بعد التأجيل الأول، وعقب ذلك قامت وزارة التربية والتعليم العالي بإصدار سلسلة إعلانات عن منح وبعثات طلابية على بوابتها الإليكترونية غير مكترثة بالظروف الإستثنائية الخاصة بقطاع غزة في حينها، فقد كان جميع الطلبة لم يتسلموا شهادات النتائج بعد، ولم يستطع عدد كبير منهم الإيفاء بشروط التسجيل الكثيرة المعلنة على موقع الوزارة، مثال شهادة حسن السيرة والسلوك ووثيقة جواز السفر وشهادة خلو من الأمراض وغيرها، ومدة التسجيل قصيرة جداً، مما يوحي بأن الوزارة تقوم بفعل مقصود لا يستجيب للواقع وسيؤدي لحرمان عدد كبير من طلبة قطاع غزة من فرصة التنافس على هذه المنح التعليمية.
لاحقاً وتحت الضغط، قامت وزارة التعليم بتمديد عملية التسجيل على بوابتها الإليكترونية لعدة أيام مع علمها أن جملة الوثائق التي تطلبها تحتاج لأكثر من شهر من أجل إستخراجها من الجهات الرسمية هذا في حال إنتهاء الحرب وإنتظام البريد ما بين غزة والضفة لأن أغلب الوثائق تستصدر من رام الله وتستغرق وقت أكثر من اللازم في علمية بيروقراطية مجهدة لكل من يرغب بالتسجيل للمنح الدراسية.
ما تقدم أعلاه قضية، تأتي في سياقها تجربة شخصية مررت بها لمساعدة إبن أخي "أمجد عبد الهادي ديب أبو مهادي" الحاصل على معدل 93.3% في الفرع العلمي، بعد مسيرة طويلة من النجاحات لم يسجل فيها مرة واحدة أنه حصل على الترتيب الثاني، بل كان له شرف الحصول على الترتيب الأول على المدرسة خلال كل مراحل الدراسة ( الإبتدائي والإعدادي والثانوي) ويمتلك من شهادات التقدير والجوائز ما يجعله الأكثر تفاؤلاً في الحصول على منحة دراسية يكمل بها مسيرته التعليمية دون أن خلل أو خذلان من الجهات الرسمية الفلسطينية ، مع العلم أن معدله هذا لا يعكس مستواه التعليمي، فقد فاجأه القدر أثناء التقدم لإمتحانات التوجيهي بمرض والده ونقله إلى مستشفى "كمال عدوان" في حالة الخطر الشديد ومن ثم إلى مستشفيات إسرائيلية مكث في عنايتها المركزة قرابة شهرين، ليعود مصاباً "بالفشل الكلوي" ناتج عن إهمال في علاجه داخل مستشفى الشفاء في قطاع غزة، حيث كان يتلقى علاجاً لمشكلة أخرى في قدمه التي بترت أجزاء منها، هذا الحدث الصعب الذي أعاق أمجد عن بذل جهد أكبر في دراسته يؤهله لأن يكون في قائمة العشرة الأوائل في فلسطين كما راهن عليه أساتذته الذين عرفوه وشاركوه النجاحات السابقة وراهنا عليه، فالحدث أشغله وأشغل العائلة بكاملها، ليصبح همّه همّنا شفاء أخي وعودته حياّ إلى أحضاننا.
بعد جهد كبير في الحصول على الوثائق المطلوبة بتعاون مع أصدقاء كثر في غزة ورام الله، قام أمجد بالتسجيل على بوابة التربية والتعليم العالي إليكترونياً، وتمكن من التسجيل ورقياً في دائرة "المنح والبعثات" التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وسلمت جميع الأوراق والبيانات شخصياً باليد للسيد "إسماعيل" مدير الدائرة، لكي يرسل الملف كاملاً إلى رام الله، ولحسن الحظ أنه كان رقم "14" على قائمة المسجلين في منحة "فنزويلا" لكلية الطب البشري، إلى أن تسربت أخبار أن أسماء المقبولين للمنحة الدراسية موجودة في مقر دائرة "لمنح والبعثات" في غزة، وأن إسم أمجد غير مدرج فيها، فقام بالإتصال بالدائرة ليتأكد من صحة التسريبات، وبالفعل كان ذلك صحيحاً ولم يكن إسمه موجوداً، فذهبت بنفسي إلى الدائرة وقرأت الأسماء الواردة فيه، لأجد أن ما أشيع صحيح، وأن أكثر من "15" منحة من أصل "40" خاصة بقطاع غزة هم دون معدل "أمجد" ومعدلاتهم أدنى من 87%، وسألت أحد العاملين في الدائرة عن هذا الخلل، فأقسم أن أمجد كان في صدارة أسماء المرشحين للمنحة ولا يعلم كيف تم إستثناء إسمه ومصادرة حقه فيها، وان جميع كشوفات الأسماء قد تم تحديدها بناءاً على رغبات السفيرة الفلسطينية في فنزويلا التي قامت بوضع معيار "الحالة الإجتماعية" ليتسنى لها إختيار من تشاء حسب رغباتها !
قمت بإجراء إتصالات مع عدد من نواب المجلس التشريعي وبعض الوزراء وموظفين من وزارتي الخارجية والتعليم، لأبحث معهم هذه القضية، جميعهم كان يجهل ما حدث، لا علم لهم عن ما فعلته السفيرة ليندا صبح، بعضهم هدد بفضحها، وآخرون وعدوا أن يتم إصلاح الخطأ في الدفعة الثانية، والأكثر تفاؤلاً قال لي إنتظر، وأرسل لي الأوراق فهناك منح قادة في بلدان أفضل وستكون فرصته أكبر، طال الإنتظار ولم تأت الفرصة حتى الآن لأمجد !
بعد الفضيحة والأزمة التي حصلت مع الحكومة الفنزويلية، لم يعد بإمكان وزير الخارجية الفلسطيني تعليل ما جرى ببيان صحفي يحمّل فيه طلبة فلسطين مسؤولية الحدث، ويلبسه ثوباً سياسياً أو جنائياً، فالتبريرات الواهية لن تعالج مشكلة فساد خطيرة أضاعت ألف فرصة تعليمية مجانية لطلبة فلسطينيين، وأضرّت بالعلاقات الدبلوماسية مع بلد داعم لقضايا الشعب الفلسطيني، وكان لزاماً على قيادة تحترم نفسها تشكيل لجنة تحقيق فورية مع السفيرة الفلسطينية في فنزويلا ليندا صبح، ومع وزيري الخارجية والتعليم الفلسطينيين اللذان يتحملان مسؤولية أولى ومباشرة عن هذه الأزمة وأزمات مشابهة ستظهر طالما إستمرت حالة الفساد وغياب المساءلة، لجنة تحقيق تبحث كل موضوع المنح الدراسية المعلنة وغير المعلنة التي يستفيد منها عصابات متشابكة داخل السلطة الفلسطينية، على حساب مستحقيها من أبناء الشعب الفلسطيني.
أمجد أبو مهادي حالة من مئات الحالات التي تحطم طموحها على عتبات الفساد في السلطة الفلسطينية، حالة وجدت من يكتب عنها والمئات يكظمون الغيظ بفعل الظلم وقلّة الحيلة، مئات الحالات حرموا من فرصة التعليم خارج الوطن وعلى نفقة المانحين، لكي يستمر "الهباشين" داخل الوطن في سرقة أموال المانحين، ويبتعثوا أبنائهم خارج الوطن لإستكمال عمليات اللصوصية وعلى نفقة المانحين أيضاً.
هذه الواقعة تحدثت عنها مع أحد الأصدقاء في هيئة مكافحة الفساد، فطلب حينها مني رسالة بالموضوع، تفضل يا صديقي رسالتي ولدي الكثير، لمن يرغب في الإستزادة، سواء كانوا في هيئة مكافحة الفساد أو غيرهم من منظمات حقوقية تعنى بقضايا الفساد، أو أيّ جهات رقابية أخرى.
بقلم: محمد أبو مهادي
[email protected]