قطاع غزة من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم, وأكثرها فقراً وارتفاعاً في معدلات البطالة وفقاً لتقارير البنك الدولي, رغم مساحتها الصغيرة (365 كيلو متر مربع) التي لا تُذكر مقارنة مع مدن ومناطق أخرى بالعالم , إلا أنها شهدت الكثير من التحولات وكانت ضمن أهم الأحداث المنشورة في الوكالات والصحافة عبر العالم, بسبب شن إسرائيل لعدة حملات عسكرية في السنوات الأخيرة, وأهمها عدوان الجرف الصامد والذي استمر 51 يوماً وخلف وراءه قرابة 2200 شهيد و11100 جريح وتدمير الآلاف من الوحدة السكنية إضافة لخسائر اقتصادية فاقت أل 3 مليار دولار (بلغ الناتج المحلي الإجمالي في قطاع غزة عام 2014 حوالي 2,48 مليار دولار), أثناء هذا العدوان كانت هناك أقاويل يرددها الغزيين وهي أن من هُدم بيته سيُعاد بناءه كما كان وأفضل, من تعرضت مزرعته أو محله التجاري أو مصنعه سيتم تعويضه مباشرة وسيعود للعمل بشكل أفضل, حتى أن بعض الغزيين كان يردد من هُدم منزله المكون من طابق واحد سيُبنى له منزلاً من طابقين ومجهز بالكامل, لقد قيل قبل عام من الآن أن المعابر ستُفتح بالكامل وسينفك الحصار بشكل كامل وسيتم حل معضلتي البطالة والفقر وإعادة إعمار قطاع غزة ببعده الإغاثي والتنموي, تنمية لم ولن ترى النور في ظل الأوقات الراهنة, ولكن بعد عام من توقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة, حيث لا إعمار حدث , والأزمات الإنسانية تفاقمت بوتيرة أسرع, المعابر مغلقة والبيوت المهدمة لا زالت تراوح مكانها وعشرات الآلاف من الغزيين يعتبروا من المشردين منهم من يسكن بكرفانة لا تلبي أدنى مقومات الحياة ومنهم من يسكن بحاصل لا يتعدى أل 40 متر وبأسعار أجرة سياحية ( تساوي أجرة سعر شقة مجهزة بالكامل قبل الحرب) وينتظرون الدفعات النقدية من وزارة الأشغال العامة (بدل الإيجار) لدفع تلك المبالغ لأصحابها, وحتى الإيجارات ( وتتراوح من 250-200 دولار للشهر الواحد) لم تُدفع بشكل منتظم مما زاد من أعباء تلك الأسر , وخلا ل العام الماضي خرج للإعلام وزراء حكومة التوافق الوطني ليؤكدوا أن عملية الأعمار وإنهاء الحصار بات قاب قوسين أو أدنى, خلال العام الماضي شهدت غزة عدة مشاغبات وفي مضمونها جميعاً تؤكد مأساوية ما وصلت إليها أوضاع الأسر الفلسطينية في غزة , هذه المشاغبات لا توجد إلا في قطاع غزة, حيث تتسم بها وتنفرد بها خلافاً لغيرها من بقاع وأرجاء المعمورة, حيث أنها المنطقة الوحيدة التي تعاني من أزمة الستات (ومنها 6ساعات وصل للكهرباء يومياً ), وكذلك الكرم المتزايد والمتنامي والذي يعبر عن طبيعة الشعب الذي يعتبر مثالاُ حي يُقتدى به في الكرم والجود والنخوة, حيث انه ونتيجة لذلك عمت ظاهرة رفع شعار "شكراً" لمن قدم دولار لغزة, رفُعت تلك العبارة في يافطات في شتى ميادين غزة الرئيسية, حيث أ ن شكر الغزيين للآخرين قد تعدى الداخل والإقليم ليصبح الشكر عالمي, حيث أن ذاك الشكر كان لقطر وإيران والأمارات ومصر والسعودية , ثم وصل إلى أن يشكر سويسرا وليس انتهاء بشكر ألمانيا( التي تحمل مشروع سياسي وهو الأمن مقابل التنمية الاقتصادية) , وشكر وصل كذلك للأمراء الخليجيين الذين مولوا مهرجانات الخصوبة ( أعراس الزواج الجماعية), عندما تسمع أن هناك أفراح من قلب الحصار فاعرف أنك في غزة لأنها الوحيدة بالعالم تفرح من قلب الحصار, حيث شهدت غزة تدشين العديد من الأعراس الجماعية و توزيع مساعدات نقدية لكل عريس تتراوح من 800 -4500 دولار حسب الجهة المانحة , وقد يتساءل البعض لماذا تزايدت تلك المبادرات في أشد حلقات الحصار وتحديداً في الشهور الست الأخيرة, السبب هو تحويل القضية الرئيسية في غزة وهي المطالبة بالتغيير ونبذ الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية وإعادة القضية المتهالكة والنازفة إلى مجدها إلى قضية شبه إنسانية عبر اعتماد أكثر من ثلثي قطاع غزة على المساعدات الإغاثية وبرامج الحماية الاجتماعية ( تقدم وزارة الشؤون الاجتماعية كل 3 شهور مبلغاً نقدياً لآلاف الأسر الفقيرة والمهمشة تتراوح من 450-200 دولار) وتوزيع الطرود بشكل مستمر , دون أدنى تفكير بإنشاء مشاريع للأسر الفقيرة والمهمشة تخرجها من دائرة الفقر , حيث أن الاعتماد المتنامي على المساعدات الإغاثية هدفه منع أي عملية إصلاحية أو تنويرية تقضي على قيم القتل والفساد والسرقة والثراء الفاحش ولكي لا تحل محلها قيم الإنتاج والإبداع والعمل , حيث تهدف للقضاء على قيمة العمل والإنتاج والتي تنبع من الفلسفة التالية أنا أفكر إذن أن موجود, أنا أعمل إذن أنا إنسان, بعض الجمعيات المنظمة لتلك الأعراس تحمل عناوين العمل الإنساني والنهضة والإغاثة والتنمية في حين أن جُلها بعيداً بعد السماء عن الأرض , وبعد الرأسمالية الاحتكارية عن العدالة بخصوص تدشين مشاريع تنموية, وتبقى برامجها اغاثية بحتة وقد يشوبها المحاباة والابتزاز كضرورة أن تكون حفلة العرس غير ماجنة (أي غير تقليدية) , حفلة تكون برعاية القهوة السادة والحلوى وبدون موسيقى إطلاقاً وألا يكون العريس مدخناً مثلا !, واعتماد الانتماء السياسي كأساس للحصول على المساعدة , كذلك هي المنطقة الوحيدة التي يوجد بها قرابة 1000جمعية خيرية وتنموية ( جمعية لكل 1800 فرد , جمعية لكل 250 أسرة )وتزداد باستمرار وفي نفس الوقت الفقر يرتفع بنسب كبيرة تفوق نسب زيادة المنح والمساعدات والتي تحصل عليها تلك المؤسسات ( موازنات تلك المؤسسات تفوق موازنة حكومة غزة) , رغم ذلك فإن هذه العبارة المتعلقة بالفقراء غائبة في غزة وهي أن "عطاياهم تُنال بلا سؤال", كذلك فقط في غزة أعضاء المجلس التشريعي "البرلمان الفلسطيني" يدخل العضو المنتخب في دورة ثالثة في حين أن الانتخابات قد مر عليها عقداً كاملاً, وفي سياق آخر فإن نواب غزة هم الوحيدون في العالم الذين يدافعون عن فرض ضرائب للتكافل الاجتماعي تستنزف جيوب الفقراء , هم الوحيدون الذين يرفعون شعار " أنا مع التاجر ضد المواطن", قالها أحد النواب موجهاً كلامه للتاجر ( حيث أن التاجر كان مع المواطن وضد فرض ضرائب رغم انه سيحملها للمواطن), أنت شو خسران , حملها على المواطن , المواطن هو من سيدفع !, رد التاجر : المواطن ميت , وما بنفع الذبح بالميت! , هم الوحيدون الذين يعتبرون اللحوم والفاكهة والدواجن ومشتقات الألبان والأجبان والتمور والمشروبات الغازية والملابس والأسمنت ومواد البناء وحتى الخدمات الحكومية ( رسوم دخول المستشفى, رسوم الطلاق والزواج) سلعاً كمالية ويجب أن تفرض عليها ضرائب تتراوح ما بين 10-1%, هم الوحيدون الذين دافعوا بقوة عن فرض ضرائب تكافل اجتماعي على 400 سلعة أساسية وبذلك قد رسخوا الحقيقة الحاضرة في غزة وهي أن فقراء غزة باتوا يمولون أغنياءها, وكأن لسان حال النواب أنه إذا أردت أن تقضي على الفقر فقم بإبادة الفقراء!, تلك الإبادة تتم فعلاً بفرض مزيداً من الضرائب في ظل عدم وجود إنتاج وطني وغياب فرص للعمل, فقط في غزة الثابت وغير القابل للتغيير هو الانتصار, حيث وخلافاً للمقولة الرائجة وهي أن ساقي القوم أخرهم شرباً , وكبير القوم خادمهم, فإن نواب الشعب انتصروا لتعميم أن كبير القوم أكثرهم مالاً وسلطة وفساداً , أكثرهم وطنياً كما يرون وحباً لاستمرار المعاناة, وأخر من يفكر بالفقراء والمهمشين, وأول من يدافع عن التجار وضد المواطن بالعالم, انتصروا وباتوا نواب بلا فترة زمنية , نواب بلا جلسات تُعقد ! في غزة يفرح الجميع عند مجي التيار الكهربائي , رغم عدم وجود كهرباء إلا أن الموضة في غزة في موسم العيد كانت بنطلون جينز كهربة, فقط في غزة وفي المساء ومع انقطاع التيار الكهربائي تجد الشوارع مضيئة والسبب مرور شباب وصبايا يلبسون بنطلون جينز كهربة, فقط في غزة يحمل شبابها مهنتي البحث والتفكير, فكل شاب هو باحث ومفكر!, باحث عن فرصة للعمل , مفكر بالهجرة, وكلا الأمنيتين غير موجودة أو بالأحرى شبه معدومة , الشاب يبحث ويرغب بفرصة عمل وبأدنى أجر ولا يجدها, ويفكر بالهجرة ( وهي القرار الصعب) ولا يستطيع السفر والسبب إغلاق المعابر وأزمتها المتفاقمة من جهة وعدم توفر تكاليف هذا السفر والذي تزداد باستمرار بسبب استغلال حاجة المسافر الُملحة من قبل البعض, فقط في غزة البطالة كالإرهاب لا دين لها, حيث تحمل غزة لقب المنطقة الأكثر ارتفاعا في معدل البطالة إذ بلغت 43% أواخر العام 2014 , ومع دخول العام 2015 ونظراً لتأخر الأعمار واستمرار الركود الاقتصادي فهذه المعدلات في طريقها للارتفاع, كذلك يعتبر الوقت والنظام عوامل محايدة في التفكير الغزي الفلسطيني العربي, وهي سمة رئيسية وتُضاف إليها كذلك سيادة تلك العبارة في بيئة العمل وهي " كلاً من عليهاً مديراً وقائداً ومفتياً ", غزة الوحيدة التي يقول شبابها أحيانا وعلى شبكات التواصل الاجتماعي الفيس بوك" من يكذب ربنا راح يحطه بغزة", بسبب الفقر الشديد وغياب الأفق السياسي وتفاقم الأزمات الإنسانية هناك من راح يعتبر غزة بأنها نار وبسبب ذلك يفكر نسبة كبيرة من شبابها بالهجرة ومنهم من هاجر عبر قوارب الموت ومات غرقاً , غزة كذلك تمتلك سمات المرض الهولندي وسيادة الأبراتاهيد الاقتصادي ولكن بمزايا وخفايا وتناقضات متداخلة فقط حكراً للغزيين, في غزة وبعد تداول أخبار وأمال ببدء الأعمار, تسارع بلدياتها بالمطالبة من المتضررين عمل تراخيص وبخصم يصل إلى 40% ( رغم التدمير الكلي تلجأ البلديات لجباية رسوم قد تصل لبعض المتضررين إلى 800 دولار, ورسوم عمل خريطة المنزل لا تقل عن 500 دولار), غزة الوحيدة التي تعاني من انقسام سياسي استمر 8 أعوام رغم عدم الاختلافات الجوهرية في النظام السياسي والاقتصادي لكلا المتخاصمين, يرى البعض أن قيام حماس بالسيطرة عسكرياً على قطاع غزة في الرابع عشر من حزيران 2007 هو بداية ثورات الربيع العربي حيث شهدت غزة صراعا بين حماس وفتح لتقاسم الثروة والسلطة( ولاحقا تقاسم مستحقات الفقراء والمُحاصرين النقدية والعينية بغزة لتغذية كروش القطط السمان لكي تشبع كونها لا تشبع), وبذلك تكون غزة المنطقة الأولى عربيا من حيث وجود قناصة على أسطح المنازل والأبراج والعمارات العالية أثناء تلك الصدامات , يذهب آخرون إلى أن اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري في 14-2-2005 هو بداية الربيع العربي, يذهب آخرون إلى أن بداية الربيع العربي كانت بشن إسرائيل لحربها ضد الجنوب اللبناني, حيث يمكن اعتبار أن حرب إسرائيل في لبنان تموز 2006 هي حرباً أمريكية بدماء يهودية لتفتيت الدول العربية إلى دويلات متناحرة تمتد لصراعات طائفية في حين تبقى إسرائيل واحة الأمن والأمان والمكان الأكثر جذباُ لرأس المال وللاستثمارات الغربية في الشرق الأوسط مما يؤهلها لتحفيز نموها الاقتصادي واستمرار السيطرة على الغاز على سواحل المتوسط في دول الجوار والمياه والموارد الطبيعية الأخرى وتحديداً مزارع شبعا التي تمتلك أكبر مخزون مياه في الشرق الأوسط , كذلك في غزة الانتشار الواسع للجامعات والكليات التعليمية حيث يبدأ كل عام دراسي جديد بإعلانات عن افتتاح جامعات بتخصصات نوعية ونادرة وعند تخرج الطلاب من تلك التخصصات النادرة لا يجدون عملاً والسبب عدم وجود فرص عمل تناسب تلك التخصصات النادرة, بمعنى أن التخصصات وفرص العمل نادرة, وبذلك فغزة المنطقة الوحيدة التي تفتتح جامعاتها وكلياتها تخصصات نادرة لأسواق عمل نادرة لتلك التخصصات, في غزة يتم الإعلان عن توقف التوظيف في الحكومة لأعوام قد تصل إلى 5سنوات قادمة, وفي المقابل افتتاح جامعات جديدة وخريجين جدد بالآلاف وتُعقد مؤتمرات لدراسة كيفية التوصل لنماذج من شأنها تقليل الفجوة المتنامية في الموائمة بين مخرجات التعليم العالي وسوق العمل الفلسطيني ولكن دون جدوى , وفي غزة فقط هناك بعض الجامعات تستخدم أسلوب التوزيع الزمني للفصل بين الطلاب والطالبات ( 3 أيام للطلاب, و3 أيام أسبوعيا للطالبات جامعتي الأقصى والإسراء نموذجاً, أما الجامعة الإسلامية فتستخدم الفصل المكاني؛ للطالبات مباني وللطلاب مباني خاصة بهم وهناك مباني مشتركة يتم تقسيم الزمن بينهم ومنها مبني الإدارة والمكتبة المركزية), فقط في غزة هناك اشترك الآلاف من الخريجين في خدمة جوبس للوظائف, حيث أن رسائل نصية قصيرة تصل لآلاف الخريجين تتحدث عن فرص للعمل وضرورة التسجيل عبر موقع جوس للوظائف مثلا, يسجل لكل فرصة عمل المئات في حين لا يعمل سوى خريج واحد!, وفقط في غزة يأتي جدول وصل الكهرباء في حين انقطاع جدول وصل المياه والعكس, ونادراً وقد يكون مستحيلاً أن يتوافق وصل الكهرباء مع وصل المياه والنتيجة أزمات متتالية أربكت الآلاف من الأسر في غزة ! , وفي الختام فإن تلك القضايا التي تعتبر ميزة لا يملكها سوى الغزيين ( ظاهرة الستات, شكراً, المرض الهولندي, الانقسام السياسي, توقف التوظيف الحكومي لسنوات, بنطلون الكهربة, القناصة , عدم الأعمار, مهنتي الباحث والمفكر لكل شاب , الأعراس الجماعية, ضرائب التكافل الاجتماعي التي تستنزف الفقراء, غياب الانتخابات التشريعية , الأبراتاهيد الاقتصادي), لا زالت تتعمق أكثر فأكثر مع تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية, وبذلك وبعد عام من انتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة , فإن لسان حال الأسر الفقيرة والتي هدمت منازلها ( أوطانها الصغيرة) ولم يتم أعمارها بسبب المراوغة والكذب التي يمارسونه الساسه ومحاولتهم مأسسة قضية الأعمار, فإنها تقول وبصوت عالي " العمى أرحم بكثير, كله بكذب على كله" كما قالها الفنان المصري القدير أحمد آدم في فيلم صباحو كذب, فحجم المعاناة المستمرة للمشردين والمتضررين من الحرب تؤكد بأن ما يجري في غزة هو كذب وأن العمى لتلك الأسر هو أفضل بكثير من أن يرون تلك الحقيقة الغائبة والحاضرة وهي أنه لا إعمار وتبقى آهاتهم وعذاباتهم وسيلة للمساومة دون النظر للبعد الاقتصادي والاجتماعي لاستمرار أزمة تأخر الأعمار, حيث لا مبرر إطلاقاً لهذا التأخير.
بقلم / حسن عطا الرضيع
باحث اقتصادي_غزة