في ظل الانقسام وبذريعته ينتشر الفساد وتغيب المسؤولية والمساءلة في بعض المؤسسات الحكومية في غزة والضفة ،وحال المؤسسات غير الحكومية أو ما يسمى (المجتمع المدني) لا يقل فسادا وبُعدا عن الشفافية عن فساد السلطة أو السلطتين ،حيث يتم توظيف الانقسام للتغطية على أشكال من الفساد في قطاعات حيوية في المجتمع . كما أنه في ظل الانقسام ينهار ليس فقط النظام السياسي بل تنهار منظومة القيم ويتفكك النسيج الاجتماعي ويتعاظم الفساد ويتكاثر الفاسدون ،ويتسلل كثير من الانتهازيين والمنافقين لمراكز ومواقع مهمة ليمارسوا ما يحلو لهم دون حسيب او رقيب.
نسمع روايات كثيرة عن الفساد والمفسدين وعن معاناة المواطنين بسبب ذلك ، كثير منها صادق وتأكدنا منها بالمعاينة والمشاهدة ،وبعضها مُختَلق أو مبالغ فيها ،حيث تتوارى الحقيقة أحيانا وراء المناكفات السياسية والرغبة في تشويه الخصم السياسي .
من تداعيات الانقسام وغرائبه أن الأمور تداخلت خصوصا في قطاع غزة ،واختلط الحابل بالنابل وضاعت مصالح الناس ما بين (طرفي الانقسام)، حيث لا أحد يعرف إن كانت متطلبات واحتياجات قطاع غزة من مسؤولية حركة حماس باعتبارها سلطة الأمر الواقع والحكومة الفعلية ،أم من مسؤولية السلطة الوطنية وحكومة الوفاق ؟ أم من مسؤولية الأونروا والجهات المانحة ؟ أم من مسؤولية إسرائيل كدولة احتلال ؟ ولمن يشتكى الناس عندما تُنتَهك حقوقهم وكرامتهم ؟ .
المشهد في الضفة الغربية مختلف نسبيا عما هو في قطاع غزة ، ففي الضفة الغربية هناك سلطة وحكومة فلسطينية واحدة تتحمل المسؤولية وهي المرجعية الوحيدة لكل سكان الضفة ، هذا لا يعني أن الأمور في الضفة نموذجية والحقوق مُصانة ، ولكن المقصود عدم وجود ازدواجية في السلطات الفلسطينية ، مع عدم تجاهل سلطة الاحتلال التي تعلو على السلطة الفلسطينية ،أما في قطاع غزة فـ (الطاسة ضايعة) كما يقول المثل ، ففي القطاع ينتج عن غياب الحاكم والحَكم والمرجعية الواحدة التي يمكن للمواطنين الالتجاء لها ، ضياع للحقوق ،وتعطيل لمصالح الناس ،واستقواء البعض على البعض الآخر ، حيث يرمي كل طرف – السلطة وحماس - المسؤولية عن معاناة الناس على الطرف الآخر، أو يبرر سلوكه الخطأ بالسلوك الخطأ للطرف الآخر ، وأحيانا يتم تحميل إسرائيل مسؤولية كل ما يجري في قطاع غزة .
كثيرة هي القضايا والمشاكل التي إما معلقة وفي حالة انتظار المصالحة الحقيقية لحلها ، أو يتم التعامل معها بالتحايل على القانون أو باجتهادات الأحزاب والمخاتير أو على قاعدة (كل مَن في أيده له). التعليم وخصوصا الجامعات والمعاهد والمدارس العليا ،فمناهج التدريس والتخصصات والتراخيص والتعيينات الخ تشهد انهيارا خطيرا بل تحولت الجامعات لمشاريع تجارية تمنح شهادات بلا مضمون وبدون أية قيمة علمية ،ولا أحد يعرف إن كانت جامعات ومعاهد قطاع غزة تخضع لرقابة وزارة التعليم في الضفة أو وزارة التعليم في غزة أو يتم إدارتها إدارة ذاتية دون حسيب أو رقيب ، هناك أيضا كل ما يتعلق بالأراضي ، مثل ملكية الاراضي والطابو وتراخيص البناء والأراضي الحكومية الخ ، التعدد والتداخل في الضرائب ورسوم الجمارك على السلع ومراقبتها، القطاع المالي والمصرفي ، شركة جوال وشركة الكهرباء ، وأخيرا وليس آخرا سلطة المعابر والشؤون المدنية والسفر من معبر بيت حانون – إيرز- .
ندرك جيدا أن حل كثير من القضايا المُشار إليها مرتبط بإنجاز المصالحة وإنهاء الانقسام ، ولكن هناك قضايا من اختصاص السلطة والرئاسة ،وما يعتريها من أوجه الفساد والخلل تقع مسؤوليته على السلطة الفلسطينية . كثيرون كتبوا عن الفساد وغياب الشفافية في القطاعات السابقة ، إلا اننا سنتطرق في هذا المقال إلى ما يجري على المعابر وفي سلطة المعابر ومديرية الشؤون المدنية في قطاع غزة .
قصة سلطة المعابر والحدود أيضا الشؤون المدنية ليست بجديدة والجميع يتذكر ما كان يجري في هاتين المؤسستين في بدايات تأسيس السلطة الوطنية وكيف أن بعض الأشخاص شكلوا سلطة داخل سلطة نتيجة الأموال التي كانوا يحصلوها من خلال تحكمهم بالداخل والخارج من سلع وأشخاص عبر المعابر الفلسطينية والعلاقات المتميزة التي نسجوها مع سلطة الاحتلال . واليوم وللأسف فإن ممارسات شبيهة تجري .
نعلم أن إسرائيل هي التي تتحكم بكل ما يدخل او يخرج من وإلى القطاع عبر منافذ القطاع مع إسرائيل ، وهي التي تمنح تصاريح المرور عبر معبر بيت حانون سواء للعمل أو للزيارة أو للمرور إلى الأردن أو للتجارة ، ونعلم جيدا الأهداف السياسية من وراء التسهيلات في منح التصاريح في الفترة الاخيرة سواء لأهلنا في الضفة أو غزة ، كما نعلم المضايقات التي تصدر أحيانا من أمن حركة حماس على معبر بيت حانون ، ولكن الغريب والمثير للغضب غياب الوضوح والشفافية في الشؤون المدنية الفلسطينية ،سواء على مستوى آلية تقديم التصاريح للإسرائيليين أو على مستوى آلية إعلام ذوي الشأن بالموافقة الإسرائيلية عند صدور الموافقة الإسرائيلية على التصريح .
أقاويل كثيرة تدور عن شُبّه فساد لها علاقة بإدخال الاموال والسلع الخاصة بالإعمار ،وفي العام الماضي أمر الرئيس أبو مازن بتشكيل لجنة تحقيق بهذا الشأن مع اشخاص على شبهة الفساد وبعضهم لهم سوابق في الفساد ، ويبدو أن لإسرائيل كلمتها في تعيين بعض الأشخاص في بعض الوظائف الخاصة بالتنسيق معها ، بل تدافع عنهم وتتمسك بإبقائهم على رأس عملهم . أيضا هناك استياء من حصول مئات الحالات على تصاريح دون أن يكونوا من ذوي الاحتياجات الملحة بل حصلوا عليها نتيجة علاقات خاصة مع نافذين في الشؤون المدنية الفلسطينية سهلوا عليهم عملية الحصول على التصاريح ، بل هناك شبهة دفع رشاوى مقابل تسهيل إجراءات الحصول على تصريح ونوعية التصريح ومدته . كل ذلك بسبب غياب آلية واضحة لتنظيم عملية الحصول على تصاريح السفر ، ويبدو أن هناك من يتعمد عدم وضع هذه الآلية حتى يمارسوا فسادهم وتلاعبهم بمصالح المواطنين .
كثيرون تعرضوا للابتزاز والتسويف والتلاعب بالتسهيلات التي تمنحها إسرائيل للفلسطينيين للسفر عبر معبر بيت حانون إلا أنهم لا يستطيعون توصيل شكواهم للمسئولين ،أو يخشون من تعطيل إجراءات حصولهم على تصاريح السفر مستقبلا إن عَلِم المشتكى به بالأمر . يبدو أن ما يجري على معبر بيت حانون يشبه ما يجري على معبر رفح وخصوصا في الطرف المصري ،حيث إن شدة حاجة الناس للسفر وقلة عدد المسموح لهم بالسفر ، مع تقصد عدم وجود آلية رسمية وواضحة للسفر ،أدى لظهور الفساد والمحسوبية والرشوة.
صحيح ،إن الراغبين بالسفر يتقدمون بطلباتهم لدائرة الشؤون المدنية في غزة أو في الضفة ،لكن لا يتسلم المواطن إيصالا يُفيد بإيداع الطلب ،ولا توجد ضمانات أو ما يؤكد أن الطلبات المُقدمة يتم ارسالها بالفعل للجانب الإسرائيلي ،وهناك من يقول بأنه تتم فلترة الطلبات أو مراجعتها من بعض الأشخاص في الشؤون المدنية الفلسطينية ، ليس لاعتبارات وطنية ولقطع الطريق على إسرائيل لتوظيف تسهيلات السفر لخدمة أغراضها السياسية والأمنية ،بل لأغراض مشبوهة ، إما تجاوبا مع ما تريده إسرائيل أو لابتزاز المواطنين . أيضا لا توجد سجلات بأسماء من تتم الموافقة الإسرائيلية على منحهم تصاريح ،بل تُرسل إسرائيل الأسماء للشؤون المدنية ، ويُفترض أن تقوم الشؤون المدنية بإعلام كل الذين تمت الموافقة على طلباتهم ، وهذا ما لا يحدث ، وكل ذلك يفتح المجال للحديث عن غياب الشفافية والفساد .
أليس من المُعيب والمثير للغضب أن إسرائيل توافق على إصدار تصاريح للبعض من ذوي الاحتياجات الملحة ويتم تعطيلها من نافذين في الشئون المدنية في قطاع غزة من خلال عدم إعلام المعنيين بالأمر ؟! فإلى متى سيستمر التلاعب بأهالي غزة وابتزازهم ما بين معبر رفح ومعبر بيت حانون ؟ وهل يعلم السيد الرئيس أبو مازن والوزير حسين الشيخ بما يجري على معبر بيت حانون ؟.
د/إبراهيم ابراش