لا تخلو أي جلسة حوارية أو حلقة فكرية, أو حتى نقاشاً بين زوجين أو بين عدداً من الأصدقاء وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك من التطرق لقضايا إنسانية بحتة التي من المفترض والعقلانية عدم التحدث بها لاعتبارها ضمن الحاجات الضرورية والأساسية لكل إنسان , ولكن في قطاع غزة الوضع يختلف تماماً, حيث باتت تلك القضايا تستحوذ على جزء كبير من التفكير وإشغال العقل وباتت تأخذ مساحات واسعة من أي حوار , ومع مرور الوقت أضحت مشكلات انقطاع التيار الكهربائي , وغاز الطهي وتراجع أداء خدمات الإنترنت والاتصالات والانقطاع المستمر للمياه وعدم وصولها لنسبة كبيرة من الأسر الفلسطينية الغزية, وإغلاق المعابر, و عدد الشاحنات التي تدخل غزة عبر معابر إسرائيل الخمسة المغلقة مع قطاع غزة , وسعر كيس الإسمنت والحديد ومواد البناء , موعد صرف شيكات الحماية الاجتماعية للأسر الفقيرة والمهمشة, موعد صرف مستحقات المتضررين من الحرب الأخيرة, موعد صرف بدل الإيجار للنازحين والمشردين, موعد صرف رواتب السلطة الفلسطينية وسُلف حكومة حماس السابقة, موعد صرف المساعدات الإغائية ولكم مرة ستُصرف هذا الشهر , إضافة للبنية التحتية شبه المعدومة؛ تستحوذ على نسبة كبيرة من التفكير, في الكثير من الجلسات والنقاشات التي تحدث حتى مع جمهور المثقفين والكتاب ورواد الفيس بوك فإن نسبة لا تقل عن 25% من الحديث يتطرق لأزمة انقطاع التيار الكهربائي والتي تؤدي إلى تفاقم أزمات القطاع ومنها زيادة القلق واليأس والتوتر , وتدهور الوضع النفسي لنسبة كبيرة من أهالي غزة( تبلغ كشفية الأخصائي النفسي للمريض في غزة 25 دولار وذلك مقابل ساعتين), حيث رافق أزمة الكهرباء العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية كتباطؤ الإنتاج وحالة التعقيد الشديدة التي تشهدها شتى مجالات الحياة , حيث أن معظم الأنشطة الإنتاجية كالزراعية والصناعية والتجارية تعتمد على الكهرباء, وحتى الخدمات الصحية والتعليمة والبنية التحتية ( بسبب انقطاع التيار الكهربائي هناك تفاقم مشكلة مياه الصرف الصحي والبعوض في عدة مناطق بغزة, أدى ذلك إلى زيادة تكاليف المعيشة فكل أسرة تتعر ض لهجمات البعوض باتت تفكر قبل كل شئ بشراء بعض الروائح من الصيدليات لتقليل أضرار تلك الحشرات , حيث تبلغ سعر العبوة الواحدة قرابة 5دولارات وقد لا تكفي تلك العبوة لبعض الأسر الممتدة سوى ليومين أو ثلاثة), إضافة للحديث عن موضوع الكهرباء هناك قضايا أخرى تستحوذ على جزء أخر من التفكير وجميعها تمثل درجة من الحرمان التي تعاني منه الأسر الفلسطينية, والهدف الرئيسي من ذلك هو تعرية وتجريد العقل الفلسطيني من مضمونه الوطني والتنموي ليصبح أسيراً للقمة العيش التي بات الحصول عليه من الصعوبات الكبيرة لجُل الأسر الغزية, ولقد انعكس ذلك بأداء الاقتصاد من حيث التراجع المتنامي في حجم الإنتاج وسيادة حالة الركود الشديد في شتى مجالات الحياة, وتثير تلك القضايا تساؤلات عديدة وأهما هل يوجد عاقل بالمدينة يفسر لماذا يُكبر ويصفق الغزيين عند مجي التيار الكهربائي , ولماذا تبتسم إمراة أو رجل عند استلام مساعدة اغاثية رغم أنهما كانوا باستطاعتهم توفيرها سابقا بعمل ساعة واحدة أو أقل ! و لماذا تستحوذ تلك القضايا على حيز كبيراً من التفكير, لماذا يتم إشغال العقل بقضايا لا تستحق مجرد التفكير بها, ومن أسباب ذلك هو تجريد العقل وتعريته من السبب الحقيقي الذي وُجد من أجله وهو التفكير ومحاولة النقد والتغيير, فحجم المعاناة في غزة تقتضى إحداث تغيرات جوهرية في طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي والذي أصبح عائقا للتنمية بمفهومها الشمولي وعبئاً على حياة الفلسطينيين , كيف لا وقد تم التأثير على قضيتي التفكير والعمل, حيث أن جُل التفكير اليوم في قضايا إنسانية بحتة دون التطرق لقضايا أكثر أهمية تتعلق بنبذ الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء الأسباب الرئيسية للانقسام السياسي وللفقر وللاحتلال وتحقيق مستويات معقولة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتي تكفل حياة كريمة للغزيين تليق بتضحياتهم وبآدميتهم وإنسانيتهم, أما العمل وقدسيته وعظمته تتراجع بسبب حالة الركود الاقتصادي الشديد وعدم توفر فرص عمل والتي ضربت آخر مضاجع الاقتصاد الغزي؛ والاعتماد المتنامي على ثقافة الحصول على المساعدة والإغاثة من المؤسسات العاملة في قطاع غزة, وبذلك فتم بشكل أو بأخر تخدير وكبح جماح إمكانية ديمومة الفكرة القائلة أن أفكر إذن أنا موجود, أنا أعمل إذن أنا إنسان, واستبدالها بأن أفكر بالمساعدة الإغاثية إذن أنا بدي أعيش, أنا لا أعمل إذن أنا سأتقاضى مساعدة عينية ونقدية فأنا موجود, كل ذلك يؤكد أن قطاع غزة بات على وشك الانهيار الاقتصادي والانزلاق لمنحدر شديد الخطورة, حيث يعتبر مستشفى للأمراض كافة, تتفاقم به الأمراض بسرعة كبيرة منها الأمراض الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث ارتفاع معدلات البطالة والفقر لنسب هي الأعلى عالمياً, إضافة لارتفاع معدلات الجريمة والتسول والطلاق والعنوسة والنصب والاحتيال وبوسائل متنوعة جديرة بالبحث والدراسة , ويبقى الركود الاقتصادي هي السمة الأكثر تأثيراً حيث تعاني الأسواق الغزية من تراجع كبير في حجم الطلب وهو ما أظهرته تقارير العام 2014حيث شهد الناتج المحلي الإجمالي في غزة انكماشاً بحدود 15%, حيث تسبب ذلك في خفض متوسط دخل الفرد بحدود 13% عن العام 1994م, ورغم ذلك إلا أن هناك ارتفاعاً في أسعار الأراضي والعقارات, وازدياد انتشار معارض السيارات الحديثة والأجهزة الكهربائية والالكترونية الحديثة والمولات الاستهلاكية الكبيرة والفنادق والصالات والاستراحات والمنتجعات على شواطئ غزة رغم انعدام السياحة أصلاً ومكاتب الصرافة وبيع الأراضي والعقارات, وفي سياق آخر انخفاض في أسعار الخضروات بشكل ملحوظ ورغم انخفاضها هناك تراجع في الطلب عليها وحدوث أزمة ركود حقيقية في الأسواق منها إفلاس الكثير من المزارعين وانخفاض الإنتاج الزراعي بشكل ملحوظ وبسبب ذلك توقفت العديد من الأسر الغزية عن العمل بالزراعة والاعتماد على الإغاثة كضرورة وكأمر مُلح وواقع , حالة الركود جعلت الحصول على لقمة العيش ورغيف الخبز والحاجات الأساسية والأكثر إلحاحا صعبة المنال, تلك الأسر تنحت الصخر للحصول على ذلك دون جدوى حيث تعاني من انعدام الحصول على فرص العمل , وخلافاً لذلك تتجول في شوارع غزة أحدث أنواع السيارات الحديثة كسيارات الرمش مثلاُ والتي يفوق سعرها 25 ألف دولار وتعمل بالأجرة, هذه التناقض الكبير الموجود وتحديدا التغير في أنماط الاستهلاك للغزيين يعود لعدد من الأسباب ومنها سيادة ديكتاتورية رأس المال والعائلة والجغرافيا في قطاع غزة , حيث أنه وراء كل صراع على السلطة والثروة , ووراء كل غنى فردي وفقر مجتمعي, وراء كل كساد اقتصادي , وراء كل عمليات إفلاس التجار والمنتجين,ووراء ركود الأسواق , ووراء كل تمايز طبقي في قطاع غزة تعود أساساً لنفاذ مفعول تلك الديكتاتورية, وتدور تلك الديكتاتورية في وجود مكاسب لوجود الانقسام الفلسطيني, حيث تعتبر غزة في منظور الساسة بقرة حلوب ومكان جاذب للأموال وضخ الملايين من الدولارات لبقاء الوضع كما هو , أي أنها تجارة لن تبور ! وكذلك وجود تحالف المال غير الشرعي مع السلطة , وهيمنة الاحتكارات على شتى مجالات الحياة بدءا بمواد البناء وتجارة الأراضي والعقارات مرورا بتجارة السلع الغذائية وليس انتهاء بخدمات الاتصالات والأنشطة المالية, وهيمنة بعض الأقليات سواء عائلات أو أفراد أو حفنة من الشركات على مقاليد ومفاصل الاقتصاد وحياة الناس بغزة ومن تلك الحالات أنه إذا أردت أن تبيع قطعة أرض فستلاحظ أن المشتري يقوم بدفع ثمن تلك الأرض يمنحك قطعة أرض أخرى أو شقة أو سيارة حديثة كجزء من المبلغ ويدفع الباقي نقداً, مما يعني أن الأموال مكدسة على شكل ممتلكات وبضائع وليس نقداً سائلاً, وهذا على المدى الطويل ومع تفاقم الركود سيتسبب في أزمة مالية من صورها انخفاض أسعار الأراضي والعقارات ( الأسعار الراهنة للأراضي والعقارات تعتبر خيالية ولا تعكس القيمة الحقيقة أي أنها فقاعة سعرية).
وفي الختام فإن ما يجري في قطاع غزة من إشغال العقل والتفكير والحديث بقضايا إنسانية بحتة كالكهرباء وأزمة تأخر الأعمار والمساعدات الإغاثية , هو بمثابة عصا موسي والتي تحاول التهام كل العصي الأخرى ( القضايا الأكثر أهمية كإنهاء الانقسام والفقر والاحتلال والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز قيم التنوير والحداثة) , وتبقى تلك العصا هي المهيمنة والمسيطرة على المشهد ( الكهرباء وغيرها من القضايا الإنسانية الأخرى), وبذلك فإن ذلك يعني استثمار قضية غير أساسية كالكهرباء وأن تصبح جُل تفكير الغزيين على حساب قضايا اقتصادية وسياسية واجتماعية أخرى أساسية وأكثر أهمية , وهذا ينبع من الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية والتي تحاول إطفاء النور على قضية ما ( مطالب الشعوب العربية الإنسانية والاجتماعية كالعدالة الاجتماعية والحريات العامة والرفاه الاقتصادي) على حساب قضايا أخرى أكثر أهمية ( قضية النفط الأزرق "المياه" , الموارد الاقتصادية كالنفط والطاقة, التنمية الاقتصادية والتطور, السيطرة على المنافذ والأسواق, فوائض تلك الدول , التكامل الاقتصادي والنقدي)!!
وفي سياق قريب من ذلك ؛ أعجبتني مقولة للكاتب الفلسطيني باسل خضر: كل شخص أو مؤسسة أو حزب يقف وراء أزمة الكهرباء فهو بالتأكيد يعمل لتحقيق الغاية الإسرائيلية التي تهدف الى أن يكره الفلسطيني أرضه ووطنه!!
بقلم/ حسن عطا الرضيع
باحث اقتصادي_ غزة