على عكس ما كنا نتوقع ونعتقد دائماً، من أن ملف القدس، وأن المواجهة في القدس، ستكون وبالاً على الإسرائيليين، نظراً لمكانة المدينة المقدسة، وخاصة حرمها الشريف، لدى جميع الفلسطينيين أولاً ومعظم العرب والمسلمين ثانياً، على ذلك يبدو أن التحول والمتغير في الواقع لم يعد يقول بهذه الحقيقة، على الأقل بالشكل التام والتلقائي، فمنذ وقت، بات زمام المبادرة بيد الجانب الإسرائيلي، بحيث انه هو من يقوم بين فينة وأخرى "بتسخين" ملف القدس، لتحقيق أهداف ميدانية مباشرة، ومن ثم سياسية، على المدى الطويل.
قبل عقد ونصف، كانت زيارة مستفزة لرئيس الحكومة السبق أريئيل شارون، ولم يكن حينها لا رئيسا للحكومة ولا حتى وزيراً فيها، للحرم القدسي الشريف، سبباً في اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000، وفي العام الماضي، كادت احتكاكات ومواجهات في القدس تشعل انتفاضة ثالثة، حين أقدم المستوطنون الإسرائيليون / اليهود على حرق وقتل الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير، لولا أن هربت منها الحكومة الإسرائيلية بشن حرب ثالثة على غزة، استمرت أكثر من خمسين يوماً متواصلة، حرقت خلالها كل اخضر ويابس في قطاع غزة من البشر والشجر والحجر.
في نفس التوقيت الآن، تعيد إسرائيل الكرّة مجدداً، مستخدمة أسوأ ما لديها من عناصر الاستفزاز والجريمة، ونقصد بذلك المستوطنين المستعمرين أولا والمتعصبين منهم ثانياً، والمجردين من الإنسانية ثالثاً، الذين لا يحترمون حرمات ولا مقدسات ولا حياة الآخرين، فليس امرأ عديم المعنى أن تقوم وسائل الأعلام الإسرائيلية بالترويج لمستوطنة مجرمة قامت بشتم محمد رسول الله، وذلك بهدف إهانة الفلسطينيين، فيقوم الإعلام الإسرائيلي برسم صورة لها وكأنها "بطل قومي".
الحكومة الإسرائيلية، إذن، لم تعد تخشى مواجهة حاسمة وأخيرة في القدس، تحقق من خلالها مكاسب آنية وفورية مباشرة، لها علاقة بفرض الدخول الديني اليهودي لداخل الحرم القدسي الشريف من خلال السماح في نهاية المطاف للمصلين اليهود فيه، بما يعني عدم وجود ما هو خاص بالمسلمين الفلسطينيين حتى داخل الحرم وليس فقط داخل المدينة القديمة، القدس الشرقية المحتلة.
كذلك تضيف نقاطاً على طريق تحقيقها الهدف السياسي وهو إخراج القدس من معادلة الصراع على الأرض، ولا نظن أن اليوم الذي يمكن لإسرائيل أن تطالب فيه، باعتراف فلسطيني بالقدس الموحدة كعاصمة أبدية لإسرائيل، إضافة ليهودية الدولة، ضمن أي حل نهائي للصراع السياسي بين الجانبين!
ما يسهّل على إسرائيل القيام بهذا الأمر، هو ما عليه الحالة الفلسطينية الداخلية من ترهل وضعف وانقسام، وما عليه الحالة العربية وحتى الإسلامية من افتقاد لزمام المبادرة، بل وعدم القدرة على الرد، فضلا عن الردع .
اللحظة إذن مناسبة جدا، والوقت مثالي للجانب الإسرائيلي، حتى وهو تقوده حكومة لا تتمتع بقاعدة برلمانية عريضة، على عكس ما كانت عليه الحكومات السابقة، بل ربما من اجل هذا يريد اليمين أولاً أن يؤكد الدعم القاعدي اليميني للحكومة، ومن ثم تحجيم المعارضة وإحراجها، فيما لو حدثت مواجهة في القدس، كذلك ربما الرد على فشل اليمين الإسرائيلي في منع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من عقد اتفاقية النووي مع إيران، واستثمار صمت واشنطن وأوروبا عن ممارساتها الاستيطانية في هذه اللحظة.
عملياً تضع إسرائيل الفلسطينيين كافة وخاصة منهم السلطة الرسمية في "مقلاة " وتمارس أقصى درجات الضغط على رئيس السلطة الفلسطينية، حين تفتح عليه بوابات الضغط من أكثر من جانب، فهو إن قام بفتح قبضته قليلاً، يمكن أن يكون ذلك سبباً في مواجهة عنيفة، ليست سلمية كما يشتهي، وان اكتفى بالإدانة ومطالبة العرب والمجتمع الدولي بوضع حد للممارسات الإسرائيلية سيطالبه المجتمع الدولي بمقابل، من نمط التوقف عن متابعة ما يزعج إسرائيل على صعيد متابعة ملفات إدانتها بالمحاكم الدولية، ثم ها هو نتنياهو يفتح قناة ضغط إضافية تتمثل بالتلويح بجزرة هي بمثابة الطعم لحركة حماس، فيما يسمى بميناء عائم أو ممر مائي من قبرص لغزة، في الوقت الذي منح فيه قبلة الحياة أيضا لـ "حماس"، بعد فتح ملف تبادل محتمل لجثث قتلى الحرب السابقة التي جرت قبل عام.
كل هذا يعني أن حصار غزة لن ينتهي غداً أو بعد غد، لكن كل ذلك يعني منع "حماس" من الانهيار، والأهم منعها من تسليم مفاتيح غزة لأبو مازن و"فتح"، ذلك أن تبادل الأسرى جثثاً أو أحياء يحتاج التوصل إلى صفقة بشأنه أعواماً (احتاجت صفقة شاليت أكثر من 5 سنوات)، كذلك الميناء يحتاج وقتاً، للمفاوضات ومن ثم للتنفيذ.
وما كل هذا إلا أدوات ضغط على الرئيس الفلسطيني، حتى يضعف في إصراره على المطالبة بالمشروع الوطني، إقامة دولة الضفة والقدس وغزة، وحق اللاجئين والقدس، وفي اللحظة التي يرفع فيها أبو مازن الراية البيضاء، وهذه لن تكون إلا على شكل التنحي أو حل السلطة، لأنه هو لن يوافق على إنهاء حياته السياسية بما هو أقل من البرنامج المرحلي، فإن الانقسام سينتهي فوراً، وحصار غزة سيتوقف فوراً، وحكما ذاتيا فعالا للضفة بما في ذلك إجراء انتخابات سيجري فوراً، وبالتالي فان إسرائيل تفضل حكومة وحدة وطنية تجمع كل الفصائل تعقد معها اتفاقاً يعيد مركز السلطة لغزة، لإقامة كل مظاهر الدولة فيها، بما في ذلك إدارة الشؤون المدنية للضفة، كما كان الحال قبل عام 2000، بعد إقرار بتأجيل حل ملفات القدس والحدود واللاجئين، على أقل تقدير.
رجب أبو سرية
28 تموز 2015