غزة وديكتاتورية السوق !!

بقلم: حسن عطا الرضيع

تشهد قطاع غزة البقعة الجغرافية الفلسطينية الصغيرة والمثيرة للدهشة والاستغراب سيادة عدة ديكتاتوريات أهمها ديكتاتورية السوق "قوى العرض والطلب" ( قانوناً توفاه الله قبل ميلاده وأخُمد وألجم في المهد, حيث أن السائد مضاربات وتمرد لرأس المال وهيمنته بشكل غير مسبوق على المجتمع الفلسطيني الغزي) , وديكتاتورية العائلة (القبيلة) ( حيث يوجد بغزة آبا وات وأعيان أوجدت علاقات اقتصادية أشبه ما تكون بعلاقات الإقطاع أو علاقات الأعيان بالحرافيش, ويتضح ذلك من خلال هيمنة بعض الشخوص على إدارة غزة سواء برئاسة كبرى جمعيات المجتمع المدني أو البلديات أو المؤسسات المالية المتنفذة بالاقتصاد أو تشكيل الحكومات الفلسطينية المختلفة, وإذا اختلف النظام السياسي القائم فسرعان مع تواكب تلك الديكتاتورية نفسها, فديكتاتورية البر هي نفسها ديكتاتورية البحر, ديكتاتورية العائلة التي واكبت سلطة الانتداب البريطاني هي نفسها التي واكبت عهدي السلطة وحماس, وهي من ستواكب أي فترة قادمة حتى لو ساد قانون ساكسونيا بغزة , وسيكون لها نفس الدور القيادي والسلطوي , حيث تبقى فلسفة السيطرة والهيمنة الاقتصادية هي الأساس من منظورهم وهذا يحدث في غزة منذ قرابة قرناً من الزمن), وديكتاتورية الجغرافيا ( على الرغم من الحداثة وقيم التنوير واللحاق بركب التقدم ووجود حصار إسرائيلي مس بآثاره الكارثية التدميرية جُل أهالي قطاع غزة وتردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي وانزلاقه نحو القاع, إلا أن وجود تلك النعرة والنظرة الدنئية والمادية لا زالت موجودة رغم تراجعها الكبير عن سنوات سابقة وتحديداً منذ التسعينات من القرن العشرين؛ ومن تلك النظرات هي ضفاوي وغزاوي, إبن الشمال وابن الجنوب, ابن بلد و ابن معسكر , فلاح و مواطن و بدوي, فلاح و لاجئ معاً: تقدم شاب خريج جامعي لخطبة أحدى صبايا مدينة غزة رفضت والدتها قبول طلب العريس والسبب كما رددت هي "أنه لاجئ وفلاح كمان") , وفي كثير من الأحيان تتداخل تلك الديكتاتوريات معاً لتشكل وضعاُ خطيراً وله تداعيات على الواقع المعيشي في قطاع غزة, تلك الديكتاتوريات المُتطرفة في بعض أطرافها لا زالت تحتاج لتحليل فكري وفلسفي لما لذلك من أهمية في فهم طبيعة المجتمع الغزي وكيفية وضع حلول لمشاكله المتنامية بشتى أنواعها من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وكذلك أزمة الفكر الحر والتحرر وثقافة قبول الأخر والإيمان بأسس الدولة المدنية الديمقراطية ومدى تحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية بمفهومها الشمولي , وبعيداً عن أبعاد كل ذلك, سيتم التطرق بهذا المقال لسيادة ديكتاتورية السوق في قطاع غزة كأهم ديكتاتورية جديرة بالبحث والدراسة في هذه الأوقات التي يشهدها الاقتصاد الغزي حيث التراجع الكبير في نمو الإنتاج المحلي والارتفاع الحاد بالتناقضات القائمة بين قوى ووسائل وعلاقات الإنتاج التي تميل لدرجات أكثر تعقيداً ووحشية مع مرور الوقت, هذا التعقيد ينبع من تنامي التناقضات في الاقتصاد الغزي, حيث أنه وعلى الرغم من تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية كحدوث انكماش اقتصادي بحدود 15% في العام 2014 وتراجع متوسط دخل الفرد بنسبة 13% عن العام 1994م, وتراجع معدلات الزواج بحدود 1500 حالة في العام 2015 عن العام المنصرم, واعتماد قرابة 80% من الغزيين على المساعدات, في مقابل ذلك هناك ارتفاع في أعداد الخريجين ( يتخرج سنوياً 32 ألف طالب في الأراضي الفلسطينية), إلا أن هناك سيادة حالة من الأبراتاهيد (الفصل) الاقتصادي تعود لأسباب منها ديكتاتورية السوق , هذه الديكتاتورية التي أوجدت فصلا اقتصادياً ومنعت جٌل العائلات والأسر الفلسطينية الغزية من الحصول على احتياجاتها الضرورية والأساسية لعدم توفر دخل من جهة ولقدرة رأس المال على التمرد وخلق أنماط استهلاك مشوهة في قطاع غزة, هذا التشوه يظهر بنواحي كثيرة, ويمكن الاستناد لأحد الأمثلة الفردية والأكثر شهرة وتداولاً في قطاع غزة, وهي القصة التي تقول أن رجلاً سوداني جاء إلى غزة المُحاصرة وشاءت الأقدار_ ( وهنا أخطاء الحكومة مع أي وفد زائر , يأتي الزائر لمنتجع الموفمبيق و منطقة الجندي المجهول الأكثر رقياً في غزة, و سلسلة مطاعم معتوق دون أي تفكير بزيارة منطقة الزنة في مدينة خانيونس, وخربة العدس برفح وعزبة بيت حانون , مخيم الشاطئ المكتظ بالفقراء , مئات العشوائيات المنتشرة بغزة, منطقة الكرفانات بخزاعة شرق خانيونس )_ أن يتجول بسوق الزاوية وسط مدينة غزة, وعندما رأى بعينه أفخم أنواع التمور والحلوى والمكسرات والفاكهة بشتى أنواعها قال " اللهم حاصر السودان كما حاصرت غزة! ", وفي السياق نفسه تشهد غزة تشوهاً في أنماط الاستهلاك ومواكبة شعبها للموضة ولأنماط الاستهلاك الغربية والشرقية وهذا يتم ملاحظته بشكل كبير في أسواق غزة, ومن ناحية أخرى تظهر ديكتاتورية السوق في تنامي التناقضات التالية : سيادة الفقر المجتمعي مقابل الثراء الفردي بحدود تميل إلى اللا عدالة واللا إنسانية في كثير من الأحيان وتزداد تعقيداً باستمرار , منتجعات ومرافق راقية يقابلها كرفانات وعشوائيات وبأدنى خدمات إنسانية, باعة متجولين يقابلهم حيثان وأباطرة المال الذين يلتهموا الأخضر واليابس دون وجود عوائق قانونية أو أخلاقية تمنع ذلك, عربات متنقلة بالحيوانات يقابلها سيارات حديثة كسيارات الإسكودا رمش 2015, أبراج متعددة الأبراج والشقق والخدمات يقابلها بيوت مدفونة وبلا بنية تحتية وبلا خدمات أساسية في بعض مناطق غزة, رواتب لمدراء مؤسسات المجتمع المدني تقترب شهرياً من 10 آلاف دولار أحياناً وفقاً لتقارير بعض المراكز الحقوقية في غزة مقابل 100 دولار شهريا لأسرة فقيرة وممتدة يبلغ تعداد أفرادها سبعة كحد أدني وهي عبارة عن مستحقات الشؤون والحماية الاجتماعية, أنشطة اقتصادية مالية ومصرفية وخدماتية تبلغ أرباحها الشهرية ملايين الدولارات مقابل مئات المزارعين وصغار المنتجين والتجار باتوا ضحية لديكتاتورية السوق والعائلة والجغرافيا, ارتفاع درجة الحرمان و انعدام الأمن الغذائي لآلاف الأسر(67% من الأسر الغزية تعاني من نقص في الأمن الغذائي ) مقابل استهلاك نسبة محدودة من الأسر الثرية في أيام العيد الأربع بعض أصناف الحلوى والمكسرات والتي تواكب أنماط الاستهلاك بالخارج والتي تبلغ مصاريفها دخول أسرة لشهور متعددة, وفي صورة للتشوه ولمواكبة أنماط الاستهلاك غير التقليدية استهلك الغزيين قرابة 1000 طن من الشيكولاتة و600 طن مكسرات في موسم عيد الفطر , هذا الأبراتاهيد الاقتصادي الناجم عن ديكتاتورية السوق قد ساهم بازدياد معدلات الفقر والذي تسبب في تراجع الطلب الكلي وبذلك تعمقت الأزمة البنيوية والتي تظهر في فائض الإنتاج وعدم القدرة على الشراء ( المشكلة في اقتصاد قطاع غزة في وجود فائض سلعي وليس في نقص السلع والمنتجات , فالأسواق تشهد تكدساً بالبضائع ولا يقابلها طلباً والسبب عدم وجود دخل وتباطؤ الإنتاج المحلي وانهيار شبه كامل للإنتاج الزراعي والصناعي ), تلك الديكتاتورية قد أوجدت همجية في العلاقات الاقتصادية بين الشرائح المجتمعية ويتضح ذلك من خلال اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء بشكل يعكس المجتمع الغزي أقرب ما ينقسم مع مرور الوقت لشريحتين شديدة التناقض يقترب لواقع المجتمع المصري والذي تسوده عبارة عيشني اليوم وموتني بكراً, مجتمعاً يوجد به تناقضات تتداخل بشدة مع الوقت وهذا الشئ بات واضحا في غزة, ديكتاتورية السوق تهدف لبقاء نسبة كبيرة من الغزيين ضمن خط الفقر وبذلك يكون الفقراء وقوداً للأغنياء عبر قدرة الأغنياء على تمرير قوانين الضرائب وسياسات الحكومات المالية والتي تستهدف استنزاف جيوب الفقراء من جهة وتعزيز هيمنة رأس المال من جهة أخرى, حيث أن فرض ضرائب كالتكافل الاجتماعي مثلاً قد رسخت مبدأ رئيسي وحقيقة حاضرة وهي أن الفقراء يمولون الأغنياء( فقراء غزة وفي ظل الأبراتاهيد والفصل الاقتصادي يمولون الأغنياء في أبشع صور الاستغلال الاقتصادي ), كذلك لا زالت قوانين الضرائب والسياسات المالية المنتهجة فلسطينياً لصالح الأغنياء وكبار الشركات؛ وما يؤكد ذلك هو اعتماد السلطة الفلسطينية على نسبة كبيرة في تمويل موازناتها على الضرائب غير المباشرة (المقاصة مع إسرائيل) على حساب ضرائب الدخل المباشرة والتي أدت لتفاقم مشكلة الفقر وإفقار المجتمع الفلسطيني الفقير أصلاً( الضرائب غير المباشرة في الأراضي الفلسطينية "المقاصة" تبلغ 6 أضعاف الضرائب المباشرة ) , وهذا يعني أن هناك نفوذاً متزايد لرأس المال باستمرار, كذلك قدرتهم على إخفاء مشاكلهم المالية وعدم عقابهم عند مخالفتهم للقوانين في حالة تشبه إلى حد كبير سيادة قانون ساكسونيا والذي يُحاكم فيه ظل الأغنياء ( أن يُحاكم ظل الغني في المحكمة بدلاً من الغني نفسه وهنا عدالة ساكسونيا حيث أن سلطة القضاء ارتأت أن تكمن العدالة في محاكمة الظل) كما جرى في أوروبا في العصور الوسطى.

وفي الختام فإن التغير في أنماط الاستهلاك في غزة والتي ارتبطت بمفاهيم العولمة , لها وجه إيجابي يتمثل في وجود شق حضاري ومعالم مهمة في غزة , ومن تلك الشواهد مثلاً وجود منطقة الواحة والتي استهدفتها إسرائيل سابقاً, وتعدد الأبراج السكنية ووجود فيلا وقصور تضاهي بعض دول الإقليم, ووجود صالات وفنادق بخدمات مميزة وبعضها قد استهدفتها إسرائيل في تصعيداتها العسكرية المختلفة, فإضافة للبعد الأمني لتلك الاستهدافات فهناك بعداً آخر وهو تدمير كل من هو فلسطيني وتدمير كل مشهد يعبر عن وجود شق حضاري أو مواكبة اللحاق بركب التقدم أية كان, ولكن تبقى قضية الأبراتاهيد الاقتصادي المرتبطة بغياب العدالة الاجتماعية هي الحالة الأكثر ألماً ونزفاً في قطاع غزة .

بقلم/ حسن عطا الرضيع