تونس كانت قاطرة الثورات العربية،تلك الثورات التي أجهضتها واستغلتها وتسلقت عليها الجماعات المتأسلمة من حركة الإخوان المسلمين وغيرها من الحركات التكفيرية الأخرى "داعش" و "جبهة النصرة" كمتفرعات للقاعدة...ولتنجح امريكا بحرف مسار تلك الثورات عن خط سيرها واهدافها خدمة لمشروعها الإستعماري للمنطقة الفوضى الخلاقة،ولتكن تونس المحطة الأولى،حيث نجحت حركة النهضة بالسيطرة على السلطة هناك،وتونس كانت محطة هامة من محطات التآمر على سوريا،حيث كانت العاصمة التي إحتضنت مؤتمر ما يسمى ب"أصدقاء" أعداء سوريا،ومنها أيضاً انطلق ما يسمى ب "جهاد النكاح" صوب سوريا،والتزمت بقرار ما يسمى بالجامعة العربية التي تعبرنت على يد مشيخات النفط والكاز بقطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا.
محمد بوعزيزي أحرق نفسه وأشعل الثورة،ليس من اجل أن تأتي حركة "النهضة" كذراع لحركة الإخوان المسلمين،لكي تخدم مصالح واهداف تلك الحركة،وتنفذ مشاريعها ومخططاتها واجنداتها،وتغلب مصالحها واهدافها على حساب أهداف ومصالح الشعب التونسي،بل وممارسة الإقصاء الإخوانية بحق مركباته المجتمعية والحزبية الأخرى،والعمل على أسلمة السلطة والدولة والمجتمع.
تونس عريقة بمجتمعها المدني،وقواها الحزبية حية ولها قواعد شعبية وجماهيرية،وقطعت شوطاً كبيراً على طريق المدنية والتعددية الفكرية والسياسية،ولذلك خاضت قواها ومؤسساتها المجتمعية نضالاً شعبياً وجماهيريا ديمقراطياً ضد حركة النهضة والقوى المتأسلمة التي أخذت تعمل على نشر الرعب والخوف في المجتمع بممارساتها وسلوكها من بلطجة وزعرنة وتعديات وهجمات دموية،وفي سياق نضالها ومواجهتها لذلك، دفعت ثمناً باهظاً،حيث استشهد اثنان من قادة الجبهة الشعبية التونسية المعارضة للنظام،وبأيدي عناصر من رحم النظام،هما القائدين شكري بلعيد ومحمد براهمي،ولكي يثمر هذا النضال المتراكم عن اقصاء النهضة عن الحكم وبشكل ديمقراطي،لم يخلو من العنف.
التطورات الداخلية في تونس،من تشكيل حكومة إئتلافية الى التطورات والمتغيرات الإقليمية والدولية،وخصوصاً توقيع الإتفاق النووي الإيراني،وما يحققه الجيش السوري وقوى المقاومة الشعبية المدعومة من حزب الله على الأرض من تقدم وتغير جوهري في موازين القوى العسكرية مع القوى التكفيرية من "داعش" و"النصرة"،هي من لعبت الدور الحاسم في أن تعيد تونس النظر في قرار تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا،فعندما يتحدث وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش بأن قرار الجامعة العربية بتعليق العلاقات مع سوريا كان موقفاً خاطئاً،والتمهيد لإعادة فتح السفارة التونسية في دمشق،فهذا يحمل اكثر من رسالة ومعنى،فهو بداية فرط عقد التحالف المعادي ضد سوريا،وكذلك رسالة من حزب النهضة التونسي المشارك في الحكم بقيادة راشد الغنوشي الى المرشد في مصر بأن شعار" الجماعة فوق الجميع" لم يعد "سيد الموقف" ،وهو مؤشر الى تفسخ حركة الإخوان،وضربة اخرى في إطار الضربات التي تتلقاها الجماعة من سقوط حكم الإخوان في مصر،الى عدم فوز حزب العدالة والتنمية في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان لا بثلثي الأصوات ولا بالأغلبية المطلقة في الإنتخابات التركية،وكذلك ما حصل من إنقسام للحركة في الأردن،وأيضاً هذا يؤشر الى أن حركة النهضة التي كانت ضمن الحلف القطري- التركي المعادي والمقاتل ضد النظام السوري لم تعد كذلك.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن أي محلل سياسي لا تعوزه الفطنة او الذكاء او القدرة على التحليل ،لكي يستنتج بأن هذا الموقف التونسي،يأتي في ظل تغير كبير في الموقف الأمريكي من المسألة السورية،فامريكا في بداية الأزمة كانت من أشد الداعمين للخيار العسكري واسقاط النظام بالقوة،ووكذلك دعم الخيار والموقف التركي بإقامة مناطق عازلة وحظر في الشمال السوري،ولينتهي هذا الموقف بعد إقتناع امريكي بإستحالة اسقاط النظام عسكرياً،بسب ما يحظى به من دعم شعبي،ومن قوى إقليمية ودولية روسيا وايران وحزب الله إلى البحث عن حل سياسي للأزمة السورية وتحت راية الرئيس الأسد وبمشاركة حلفاء سوريا ايران وروسيا وحزب الله.
هذا الموقف الأمريكي "المتراجع" املته ظروف وشروط ومعطيات،منها الصمود السوري وتوقيع الإتفاق النووي الإيراني،تشظي وتشرذم ما يسمى بالمعارضة السورية،وتشكيل القوى التكفيرية والإرهابية "داعش" و"النصرة" نواتها الأساسية،وبما يخرجها عن السيطرة الأمريكية،والتي قد ترد سلباً عليها،وتشكل خطراً على مصالحها.
وليس فقط حدث تراجع وإستدارة امريكية من المسألة السورية،بل شهدنا مثل هذا التحول في الموقف التركي،فتركيا كان يحلم "خليفتها" أردوغان بإستعادة امجاد إمبراطوريته على حساب الدم والجغرافيا السورية،ولكن ما حققه الأكراد من انتصارات على "داعش" وطردهم لها من عدة مدن سورية،واضح انه بدأ برسم "مشهد سياسي مختلف"، أشعل نار الرغبة الكمينة في "العقل الكردي"، لخلق حالة كيانية شمال سوريا وجنوب تركيا،مشهد دق ناقوس الخطر عن الإدارتين الأمريكية والتركية،واحدث الإستدارة التركية،تلك الإستدارة بإعلان تركيا عن دخولها في الحرب على الإرهاب،أي على "داعش" ،هي كلمة حق يراد بها باطل،فتركيا هي من دعم ومول "داعش" ماديا وعسكرياً،وفتح لها الحدود لإدخال الآلاف الارهابين الى سوريا،ووفر لها المأوى والمعلومات الإستخبارية،ناهيك عن المتاجرة معها في النفط والآثار السورية المسروقة والمنهوبة،فهي ما تريده من هذه المشاركة،هو الخوف من المشهد المتكون،ليس لضرب سوريا ،بل لاحياء بناء دولة لم يكن مسموحا بوجودها، نشطت الحركة الشعبية لأكراد تركيا تتعاطف وتدعم "الأشقاء" في شمال سوريا ضد "داعش" ومن يساندها، وهو ما يشكل خطرا مباشرا على تركيا.
الخطوة التونسية بإعادة علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا،مؤشر جدي على إنفراط عقد التحالف المعادي لسوريا،وبأن سوريا بات قريبة جداً من إستعادة سيطرتها الكاملة على الجغرافيا السورية،وهزيمة ليس فقط الجماعات الإرهابية والتكفيرية،بل من يقف خلفها من عربان مشيخات النفط والكاز الخليجية وجماعة "التتريك" وسقوط مدو للمشروع والحلف المعادي الذي تقوده وتتزعمه امريكا في المنطقة.
راسم عبيدات
القدس المحتلة – فلسطين
29/7/2015
0524533879
[email protected]