الضحية تلبس ثوب جلادها وسارقها وقاتلها وحارقها، ومن أقاموا الدنيا ولم يقعدوها صراخا وعويلا لأن النازية أحرقتهم ها هم لا يجدون غير الحرق وسيلة للانتقام من الفلسطيني، فكل مستوطن يتجول في أزقة الضفة الغربية يبحث عن لحمنا ليحرقه في مشهد يجب أن يهز الضمير العالمي ويصلبه عاريا على خشبة التواطؤ والصمت والمؤامرة .. مؤامرة اللحم المشوي لأطفالنا من محمد أبو خضير حتى علي دوابشة الذي احترق مع وجبة حليبه.
إرهابيون بلا حدود لأن لا حد لإجرام هؤلاء المستوطنين، فطبيعة الجرائم التي يرتكبونها تعكس عقلا مسكونا بالإرهاب وثقافة القتل، إنه العقل المجنون بثقافة احتقار الآخر وقتل الفلسطينيين كما تقول النصوص التي تعيد تشكيل الوعي والثقافة الإنسانية الفطرية نحو ثقافة الخرافة وتحدد سلوكهم نحونا.
من الواضح أن دولة المستوطنين في الضفة الغربية لم يعد ما يردعها وهي ترى نفسها تتضخم سكانيا ومساحة وأرضا، وكذلك حكومة يمين تقود الدولة وتشكل حاضنة للفكر المتطرف وداعمة لها، وأن ما قاله رئيس الحكومة الاسرائيلية ليس سوى محاولة لامتصاص نقمة أو لحظة عاطفية أو لرد سهام الانتقادات الدولية التي يعيد العقل اليهودي اكتشاف نفسه عند كل جريمة يرتكبها، أما ما قاله الرئيس الإسرائيلي فيشكل اعترافا مهما حين قال: «إن شعبي اختار الإرهاب» هذا الاعتراف الذي يجب أن يكون مادتنا لمخاطبة العالم الساكت إلا من بعض بيانات الإدانة والتي تعطي مع الصمت الدائم الضوء الأخضر للجريمة القادمة.
ماذا يمكن أن نفعل وما هو الرد ؟ هذا هو السؤال المرافق لكل نوبة جنون للمستوطنين، وهو سؤال الذي يعرف أننا أمام دولة الجنون أيضا، وماذا يمكن أن نفعل في ظل انقسامنا وتشتتنا وقلة حيلتنا وتآكلنا الداخلي وفقدان الثقة ببعضنا، فالفعل يحتاج إلى قوة الجميع بينما كل منا يخوض معركته مزاودا على الجميع بانتظار إضعاف الآخر حتى أصبح الضعف سمتنا العامة وحين يحرقنا المستوطن أو يشن حربه علينا ويهدم بيوتنا نجد في اتهام ذاتنا ما يغذي خطابنا الحزبي ويريحنا من عبء الفعل.
لقد طال انتظار ربيع الضفة التي يحسب لها الإسرائيلي ألف حساب فيما لو تحركت الجماهير بعشرات الآلاف، ليس مطلوبا أن تدخل في صدام عسكري أصبح بحكم الواقع أشبه بالمغامرة الانتحارية ولكن دولة المستوطنين تتقدم بلا توقف وجيشها يصادر الأرض بلا توقف وحكومتها تنشر عطاءات البناء بلا توقف، ولن يوقف هذا الزحف سوى زحف الإرادة الشعبية التي أثبتت أنها أقوى من كل الجيوش هكذا قالت تجربتنا في الانتفاضة الأولى عندما ذهبت إسرائيل تبحث عن حل في أبعد العواصم.
ماذا يعني الإعلان عن محاكمة مرتكبي الجريمة في الجنائية الدولية ؟ هل يعني أن أمر المستوطن الذي لم يشارك فيها بريء من دمنا وأرضنا وقوت يومنا ؟إن محاكمة الفاعلين وحدهم هو حل بالتجرئة لن يحمي الفلسطينيين بل إن ما نحتاجه هو الحل بالجملة لأن كل مستوطن في الضفة الغربية هو مجرم حرب بالقانون الدولي وفي هذا يجد الفلسطيني دعما دوليا، وأن الحل العملي هو نقل ملف الاستيطان برمتة نحو الجنائية الدولية لأن الملف بالكليات هو جريمة وقضية رابحة بالنسبة لنا، وهذا تخشاه إسرائيل بشدة.
لقد أوقفت إسرائيل تحويل الأموال للسلطة لحظة أصبحت عضوا بالمحكمة خوفا من رفع قضية الاستيطان لأن القانون فيها واضح وخسارة إسرائيل للقضية أكثر وضوحا، تخشاها إسرائيل لأنها تمس الأساس العقائدي للفكر القائم على التوسع والاستيطان وتزعزع معتقدات اليمين الصهيوني والأيدلوجي والمتدينين والمستوطنين، وأغلب الظن أن إسرائيل كانت مطمئنة إلى أن السلطة تخشى نقل الملف وستتردد في فتحه.
هنا اللحظة التي يجب استغلالها فالقضية ليست جريمة حرق بل جريمة الوجود الاسرائيلي في الضفة لهذا أدان نتنياهو العملية بالتزامن مع نشر عطاءات الاستيطان حتى يفصل بين الجريمة الصغرى والجريمة الأكبر أو الصمت على الجريمة الكبرى بالمحاسبة على الجريمة الصغرى، وعنف المستوطنين هو حالة إجرام دائمة ووجودهم هو جريمة لم يعد بالإمكان السكوت عليها، ولدينا من المسوغات القانونية ما يمكن أن يحشر الدولة التي تنشر سرطان الاستيطان في أرضنا.
المكالمة التي أجراها نتنياهو مع الرئيس الفلسطيني مثيرة للاستفزاز حين تحدث عن إرهاب متبادل يجب محاربته، ففي ذلك يزيد من غضب الفلسطينيين المفجوعين بطفلهم وعائلته المحروقة فقد تحدث كأنه بريء من جريمة الاستيطان التي تنبثق منها كل تلك الجرائم الموزعة على امتداد مدننا وقرانا في الضفة، فقبل محاكمة مرتكبي المحرقة يجب محاكمة حكومة اسرائيل فهي من يدعم ويقف حلف المستوطنين مرة في القدس ومرة في دوما ويجب ألا تعمينا تلك الحادثة عن رؤية مجزرة الاستيطان.
اللحظة مناسبة لمعالجة الكليات لا الجزئيات، فماذا تعني محاكمة ستة مستوطنين ويبقى الاستيطان بل يجب استغلال المحرقة للذهاب بعيدا نحو حقوقنا الوطنية، لقد أرادت إسرائيل إغراقنا في الجزئيات .. الرئيس الإسرائيلي تحدث بعاطفة جياشة ورئيس الوزراء هاتف الرئيس عباس بعد زيارة العائلة، والجيش الإسرائيلي يعقد مؤتمرا صحافيا أمام المنزل كل ذلك يجب ألا يعمينا عن لحظة المواجهة الحقيقية ...مواجهة المشروع الاستيطاني فكل تلك التصريحات تهدف لنزع محرقة دوما عن سياق الوجود الاحتلالي في الضفة كأن الاحتلال بريء من الجريمة.
لقد بدأت أوروبا في السنوات الأخيرة ترفع صوتها ضد المستوطنات من مقاطعة بضائع وأندية ومؤسسات أكاديمية فيها، يجب أن يشتد الخناق أكثر على المستوطنين جميعهم بلا تمييز من ارتكب جريمة أم من ينتظر لارتكابها فلماذا لا تطلب السلطة الفلسطينية من دول العالم منع دخولهم إلى أراضيها باعتبارهم مجرمي حرب وفقا للقانون الدولي، فإن في حصار المستوطن وبقائه في إسرائيل ومنعه من دخول أية دولة ما يمكن أن يحول حياته إلى جحيم ويدفعه للخروج من المستوطنة والعودة لحدود إسرائيل وهذا ممكن إذا ما بدأنا بحملة إعلامية ودبلوماسية نطالب فيها العالم بالالتزام بالقانون.
وبعد ذلك الملاحقة بالمحاكم ..يجب مطاردة المستوطن ومواجهته بالإرادة الشعبية في الضفة وبالقانون الدولي وبالقوائم السوداء، هذا يحتاج إلى مشروع كبير وأدواته وهو ممكن والحذر من التوقف عند اللحظة العاطفية في محرقة دوما، المسألة أبعد وهي فرصة ..!
أكرم عطا الله
02 آب 2015