الصراع الفكري والعلمانية.. الحلقة الرابعة

بقلم: طلعت الصفدي

شهدت المجتمعات الأوربية التي أنجزت أسس المجتمع المدني الحديث العلماني العقلاني الديمقراطي، مراحل متطورة من أجل احترام حقوق الإنسان، وصيانة حرية الفكر والرأي والتعبير والمعتقد، وسيادة القانون، وخاضت نضالا طويلا من أجل تحريره من سطوة الكنيسة، والفكر الديني المسيطر عليها خلال عصور الظلام في القرون الوسطى، اشتعلت حروب وثورات، بهدف الوصول إلى المجتمع المدني الحديث. عشرات ألألوف من المفكرين والمبدعين، والعلماء الرافضين لسلطة الكنيسة، وتسييس الدين، واستغلالها للسلطتين الدينية والدنيوية، قاوموا رجال الكنيسة، ورفعوا شعارات لتحقيق العدالة والمساواة أمام القانون، وبضرورة عدم تجاهل وقائع الحياة المتغيرة والمتطورة، وإدانة تحكم رعاة الكنيسة بشئون حياة المواطنين، خصوصا بعد تشكل الدولة القومية الحديثة، ووقفوا ضد موقف الكنيسة العدائي من تطور العلوم والاختراعات التي غيرت وجه البشرية، ومنحت الإنسان سلاحا عقلانيا لمواجهة أخطار الطبيعة، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وكان نتاج الصراع الفكري والدموي، إقرار المجتمعات الأوربية والغربية، بفصل الدين عن الدولة.

كما كان للمفكرين العقلانيين عبر التاريخ، رؤى علمية متقدمة، تجسدت من خلال أفكارهم التنويرية مثل ( أنت لا تستحم في ماء النهر مرتين )، ( إن خصومنا على الأرض، يجب مواجهتهم هنا على الأرض، ولا يليق بنا أن نهرب من هذه المواجهة لنصنع لأنفسنا خصوما في السماء )، ( ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)، ( كل شئون الدين للكنيسة، وكل شئون الدنيا للبشر )، ( الدين لله والوطن للجميع) وهذا تأكيد للعلامة والفيلسوف ابن رشد في عبارته المشهورة ( التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل.

العلمانية ترتبط بالعلم والمعرفة، تعني خلاص المجتمع من الموروث المتخلف، وكسر التقاليد المنافية لهما، وتجاوز سلطة العشيرة والطائفة للوصول إلى المجتمع الحديث. إن احد أسس هذا المجتمع إلغاء كل أشكال التمييز بين أبناء الوطن، واحترام مواطنة الإنسان بغض النظر عن الانتماء الديني أو الطائفي أو المذهبي او العرقي او الحزبي، ومساواة الجميع أمام القانون. وعندما يطالب العلمانيون والمفكرون التنويريون، بفصل الدين عن الدولة لا يعني هذا العداء للدين، أو لرجال الدين، ولا يحمل أي استهتار بالدين، بل يسعون لتنزيه الدين من ألاعيب السياسة، وحماية لقيمه، ولا يعني أيضا فصله عن المجتمع، او التقليل من دوره الأخلاقي والروحي في حياة الإنسان الاجتماعية والحياتية . فالعلمانية في مفهومها الحقيقي هي الاهتمام بحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والديمقراطية، حرية الاجتهاد والإبداع ، حقه في المواطنة الحقيقية بعيدا عن التسلط والإكراه والاستغلال والجشع، والمتاجرة بالدين. ان العلمانية ليست فكرا يدعو الى إلغاء الدين من المجتمع، أو حرمان المواطنين من حرية العقيدة، فمقولة كارل ماركس " إن الدين عند الكثيرين هو النظرية العامة لهذا العالم، وهو مجموعة معارفهم الموسوعية، ومنطقهم الذي يتخذ شكلا شعبيا، وهو موضوع اعتزازهم الروحي، وموقع حماسهم، وهو أداة قصاصهم ومنهجهم الأخلاقي" (ماركس- نقد فلسفة القانون عند هيجل). انه تعبير واضح عن فهمه لطبيعة المجتمعات الشرقية، حضارتها وتطورها التاريخي وتراثها وعقيدتها.

ومع أن الإسلام ليس دينا كهنوتيا، إلا أن رجال الدين المتعصبين، يصرون بتحويله إلى سلطة قهرية مطلقة على البشر، مستندين لبعض فتاوى وتفسيرات بعيدة عن الواقع، ودون استيعاب للمتغيرات والتطورات في العالم، ودون فهم لروح الإسلام، وهذا التوجه مناف للإسلام وتعاليمه، ويتناقض مع قول الرسول " انتم أعلم بشئون دنياكم " . إن اخطر هذه الأفكار، ما عبر عنها سيد قطب في كتابه " معالم على الطريق " عندما اعتبر إن كل المجتمعات جاهلية كافرة حتى الأنظمة العربية الإسلامية : " لا رابطة سوى العقيدة، ولا قبول لرابطة الجنس والأرض، واللون واللغة، والوطن والمصالح الأرضية والحدود الإقليمية، إنما هي أصنام يعبدونها من دون الله"، مما يفرغ مضمون الدين الإسلامي، ويشرعن الصراعات الفكرية والجسدية الدموية، بين أبناء الوطن الواحد، ويؤكد رفضهم للوطن والقومية والديمقراطية والتعددية السياسية، وفرض رؤاهم بالقوة والإرهاب على المجتمعات العربية والإسلامية. وما صرح به شارون عند انسحابه الأحادي الجانب من قطاع غزة قائلا : "ان أحد أهداف هذا الانسحاب هو خلق حالة من الصراع، بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية العلمانية، وبين الأصولية الإسلامية، حيث سيتحول هذا الصراع بين الفريقين إلى صراع دموي، وعداء بدلا من أن يتحول صراعهم معنا".

كيف تفسرون، عند سماع آذان المسجد يهرع الناس لتأدية فريضة الصلاة؟؟ وعندما يحس أي مواطن بالألم والوجع فانه يسرع إلى أقرب مستشفى أو مستوصف للعلاج؟؟ .. وماذا يعني ذلك ؟؟ إن الناس يؤمنون ب ( أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا )، وبهذا المعنى والحكمة، فإنهم يتعاملون مع الواقع، ويبحثون عن حل لمشاكلهم السياسية والاجتماعية والديمقراطية والبيئية، عن طريق فهم الواقع، وكشف قوانينه وحركته من خلال العلم والعقلانية، فليس كل من يتبنى فصل الدين عن الدولة هو بالضرورة غير مؤمن أو غير مسلم، وليس كل متدين أو مسلم هو غير علماني، فالعلمانية تعني رؤية العالم، وتفحص الواقع، والتعامل معه بشكل موضوعي بعيدا عن الأحكام المسبقة والمطلقة، وهذا في جوهره لا يعني رفض الدين او القيم او الأخلاق او التراث او البعد الثقافي والروحي للإنسان، أو محاولة رفض الهوية الذاتية والقومية .

في العالم العربي، لا زال الصراع قائما، ولم ترس المراكب بعد في موانئ الاستقرار، فلا زال الصراع قائما بين دعاة الدولة الإسلامية، ودعاة فصل الدين عن الدولة، وتتصاعد الاتهامات ضد العلمانيين، وتكفيرهم وإباحة دمائهم، وتصفيتهم، مما أدت إلى مواجهات دموية وإبادات جسدية، وما يجري اليوم في العالم العربي، يؤكد خطورة التطرف الديني، والإرهاب الفكري على المجتمعات العربية والإسلامية. إن التمسك الحرفي بالأصول ومحاولات سحبها على الواقع الراهن، دون مراعاة للمستجدات والمتغيرات والتطورات العالمية والإقليمية والمحلية، وإخضاع الحاضر للماضي، وتبني تفسيرات بعيدة عن المنطق والاجتهاد، فإنها تتنافى مع العلم، وهي محاولات لي ذراع الحقيقة.

إن التجارب التاريخية، تؤكد أن الجماعات الأصولية، عندما تدعو إلى نظام إسلامي، ليس في حقيقتها سوى الاستيلاء على السلطة، والحكم باسم الدين، والهيمنة على المجتمع كليا، وهذا يعني المزيد من التخلف، وتدهور حياة المواطنين السياسية والاجتماعية والديمقراطية، وتعميق الأزمة، واستفحال الفقر والجهل والمرض، وتفكك المجتمع إلى قوى متصارعة، تؤول إلى العنف الفكري والجسدي. وتهدف من تشدد هجومها على دعاة العلمانية، ودعاة فصل الدين عن الدولة، وكافة القوى والفصائل السياسية والمجتمعية كأنها معادية للدين، تحاول تزوير الواقع، وتلفيق التهم بحقهم، وتأليب الشارع العربي عليهم، مستخدمين الصحافة، ووسائل الإعلام، والفضائيات، وبعض دور النشر والكتب الصفراء، ويلصقون التهم الباطلة بهم، وكأنهم أدوات بيد الامبريالية الغربية والأمريكية والصهيونية، ومركزا للاستغلال والاستعباد، وقهر إنسانية الإنسان، كما تهدف لاستغلال جهل المواطنين بأهدافهم، مستغلين الدين، لمنع العلمانيين من الوصول إلى السلطة، وإقصائهم عن تحقيق أهدافهم في بناء دولة مدنية حديثة.

إن بعض الجماعات الإسلامية، ربما تختلف في الأسلوب والطريقة مع دعاة الدولة الدينية، ولهذا تكتيكيا لا تمانع وتغض الطرف، من أن لا يتولى رجال الدين الحكم، بل رجال مدنيون محسوبون عليهم، يقومون بتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقا كاملا وشاملا في أجهزة الدولة، ومناحي الحياة في المجتمع سواء في التعليم أو في القضاء او الجامعات... الخ وبهذا تستولي على كل أجهزة السلطة وتضمن لنفسها السيطرة الكاملة على مؤسساتها كافة، وضمان تفردها في الحكم والسلطة لفترة طويلة، وبهذا تستطيع تحقيق أهدافها، تمهيدا لفرض رؤاها على مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والفنية والإبداعية، وتفرض القوانين التي تراها تدعم سلطتها الدينية. بينما تسعى العلمانية إلى تغيير العالم باستخدام آليات العقل والعلم، فالعقل هو أساس فهم الظواهر الكونية والمجتمعية، وفهم الواقع، وتولي اهتمامها ليس لنقض الدين، ولكن لوضع الآليات للخروج من أزمات المجتمعات والشعوب العربية، في مقدمتها فصل التعليم عن سلطة رجال الدين، وتبني النهج الديمقراطي في الحياة المدنية الحديثة، وحرية الرأي والتعبير والإبداع، والمساهمة الفكرية في تجديد الخطاب الديني بما يتلاءم مع متغيرات الواقع . والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة المثقفين والباحثين والمفكرين، ورجال الدين المتنورين... فما هي الأسباب الكامنة والعلنية التي أدت إلى هذه الحالة المتدنية، والتأخر الحضاري على الرغم من امتلاك الشعوب طاقات هائلة بشريا وماديا ؟ وما هو البديل الحقيقي للخروج من الأزمة المستعصية، والتخلص من الخرافة واللاعقلانية ؟؟ولماذا تزداد حالة الإحباط والقلق في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وخصوصا بين الشباب، وازدياد التطرف الديني والتخلف العقلاني والتوجه للانضمام بحماسة إلى منظمات إسلامية متطرفة إرهابية تكفيرية ؟؟ وهل البلدان العربية بحاجة إلى العلمانية للمحافظة على وجودها، واستقلالها السياسي والاجتماعي والديمقراطي ؟؟ وبالتأكيد فان العرب والمسلمين بأمس الحاجة الى دول مدنية حديثة يحكمها القانون.

بقلم/ طلعت الصفدي