كلمة حق في الأستاذ جرار القدوة رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية الأسبق

بقلم: نعمان فيصل

انصافاً لتاريخ رجل حارب الفساد بكل أشكاله.. أحبه البعض وكرهه البعض الآخر
كلمة حق في الأستاذ جرار القدوة رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية الأسبق

بعد تخرجي في صيف 1998م عيّنت مفتشاً في هيئة الرقابة العامة التي آلت أخيراً إلى ديوان الرقابة المالية والإدارية، وكان رئيسها رجلاً من خيرة الرجال، يُدعى جرار نعمان القدوة، ذكاؤه حاد، وهو دوماً في سباق مع الزمن، لأن لا وقت لديه يضيعه، كل شيء يجب أن يتم في حينه، إذ لا يجوز تأجيل عمل اليوم إلى الغد، وشعاره كن فيكون. عاملني أحسن معاملة، وكنت عند حسن ظنه بي، إذ قمت بعملي خير قيام، وحققت فيه نجاحاً مرموقاً، وأثبت للجميع مقدرة ومثابرة وإخلاصاً في العمل.
وأحب أن أشير بأن علاقتي معه لم تكن مبنية على المصلحة، وإنما هي علاقة صداقة ومحبة أخوية نابعة من تقديري للصفات والشمائل التي تميز بها، وفي مقدمتها حبه لوطنه وسخاؤه في الأعمال الخيرية والإنسانية، رغم أنه لم ينصفني وزملائي في ديوان الرقابة في الترقية طيلة عملي معه ثماني سنوات.
كان جرار القدوة، من قادة حركة الإصلاح في فلسطين - إن صح أن نسميها حركة - والغارسين لبذورها، يقول ما يجول في ذهنه بصراحة تتخطى المألوف، وكان يتمتع بمصداقية لدى الجميع، واستطاع أن يجعل من ديوان الرقابة المالية والإدارية عنواناً كبيراً يعرفه الجميع، فلم يتخذ من منصبه سبيلاً للثراء والجري وراء زخرف الدنيا على نحو ما تردى فيه نفر من معاصريه، ما جعله في مركز الصدارة بين عظماء المصلحين عن جدارة وقوة، لذلك كان رأيه في الأمور كلها صائباً مفيداً عندما يعطيه، وأثبتت الأحداث صدقه بما اشتمل عليه من فراسة وبعد نظر منقطع النظير.
ولقد ترك لنا جرار القدوة مدرسة فريدة وتراثاً رائعاً لا ينهض به إلا رجل يعيش عيشة الصالحين المنقطعين للعبادة عن طريق العمل، فقد تعلمت منه الكثير، وحري بي أن أقول في هذا الوقت العصيب الذي تمر به مدينة غزة من ظروف صعبة وحصار جائر: لو رأت آماله بعض النور، وسار قادة السلطة الفلسطينية قبل حزيران 2007م إلى تحقيق ما كان يدعو إليه من أهداف سامية ومبادئ نبيلة في الحفاظ على قدسية المال العام، لكان من شأنها أن تأتي بثمار خيرة، وتخفف من سوء النتائج التي حصل الغزيون عليها بعد أحداث 2007م، ولما وصل حالنا إلى هذا الحال، وهذا ما يدفعني إلى القول مع الشعور بعظم المسؤولية، مسؤولية الضمير والوجدان ومسؤولية المستقبل أن السلطة الفلسطينية لم تكن تحاسب أحداً من المتورطين في قضايا فساد، وكان الرئيس الراحل ياسر عرفات مشغولاً بهمومه السياسية مع إسرائيل، وتوطيد أركان السلطة في أرجاء الوطن، ولهذا كانت بطانته يؤلفون طبقة قوية من الرجال الفاسدين، وغير معنية بمصلحة المواطنين ويتطلعون فقط للإثراء الذاتي على حساب المصلحة الوطنية العامة.
ومن أبرز علامات ودلائل وجود الفساد تفشّي ظاهرة المحسوبية والقرابة في التعيينات والترقيات واستغلال وإساءة استعمال السلطة، وما ترتب على ذلك من إهدار المال العام، وإفراغ المناصب القيادية من مضمونها من خلال تعيين أشخاص غير مؤهلين لتولي زمام الأمور، وترقيتهم بطرق مخالفة للقانون، وكان من بينهم عدد كبير من أبناء وأقارب مسؤولين ووزراء، ما يعكس حجم استغلال الصلاحيات الممنوحة لهؤلاء المسؤولين، وإعطاء صورة سيئة عن أداء ومصداقية السلطة الفلسطينية لدى الشارع الفلسطيني.
وماذا أقول عن المال الذي يذهب هدراً على شكل رواتب لا يتقاضى مثلها أبناء الخليج؟ ورواتب لمن هو لا يؤدي عملاً، ولمن هو في الخارج ويعمل عملاً آخر؟ ولمن لا يزال يدرس في الخارج؟.. ألخ، والناس هنا لا تجد قوتها ليومها في مقابل ذلك تدني مستويات الأجور لدى قطاعات حيوية في المجتمع الفلسطيني مثل قطاع التعليم والمعلمين، وكانت آفة الآفات الضارة التي علقت بالحالة الفلسطينية ما اصطلح على تسميته (الإثراء بلا سبب) لبعض قادة السلطة، وتفشّي ظاهرة الفلتان الأمني، وبروز ظاهرة التحول من المنح إلى القروض التي تثقل كاهل الأجيال القادمة، وعدم الأخذ بملاحظات ديوان الرقابة المالية والإدارية، وتخصيص أراضٍ لمسؤولين كبار كـ (إنعاميات)، بينما كان عامة الناس يسحقون، ظلت هذه الطبقة تزداد غنى وثراء وجاهاً، وأبناء الشعب يتضورون جوعاً. هذه العلامات والدلائل أساءت للشعب الفلسطيني في المقام الأول، وكان الثمن الباهظ الذي دفعته السلطة وحركة فتح خسارتهما في الانتخابات التي جرت في العام 2006م، حيث رغب الناس في حدوث التغيير والإصلاح، ولكن خاب ظنهم!!..

بقلم الكاتب/ نعمان فيصل