تبقى المشكلة الرئيسية في الفكر والأداء السياسي الفلسطيني هي الوقوع في براثن الفخ الإسرائيلي وهو تجزئة المشروع الوطني الفلسطيني إلى متاهات عدة بعيداً عن بوصلته الحقيقية مشروع وطني فلسطيني يمثل شعب يريد حريته وتقرير مصيره واستقلاله وسيادته على أرضه. ما يطرح الآن هو التعامل مع قطاع غزة كجزء منفصل عن وطن أولاً، ثم كجزء من مشروع إغاثي إنساني وليس مشروعا وطنيا وقضية، وشعب ثانياً. ومن هنا تكمن الخطورة. فسنوات التهدئة سوف تكون من أجل تكريس الفصل بين الضفة وغزة، أو كما يقال تأبيد الانقسام، وثانياً هضم الضفة الغربية في المعدة الإسرائيلية وزيادة عدد المستوطنين والمستوطنات حتى ينعدم فكرة إقامة الدولة الفلسطينية. وبالتالي إغاثة غزة شكلياً مقابل قضم ما تبقى من مشروع وقضية ووطن. وبالتالي في ظل غياب رؤية فلسطينية موحدة، وبرنامج وطني فلسطيني توافقي سندخل في متاهات الفخاخ الإسرائيلية ولا ننسى أن أوسلو كانت فخ استراتيجي إسرائيلي، وفك الارتباط مع غزة فخ إسرائيلي استراتيجي، والآن تأبيد عزل غزة عن الوطن استراتيجيا هو فخ إسرائيلي وأوسلو جديدة. غزة يجب أن تبقى حاضن مشروع وطني سياسية، وهوية سياسية وليست حالة إنسانية يتم التعامل معها ضمن منطق حالات العسر الشديد.
فهناك إشكالية في الأداء الفلسطيني وذلك في كونه ليس أداء تراكمياً وليس أداء تكاملي. فمن الواضح أن اتفاق أوسلو قد حقق المطار وكان في طريقه لتحقيق الميناء وذلك بالرغم نت تحفظنا الكبير على اتفاق أوسلو وانعكاساته وغير ذلك. وعندما جاءت انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000 هي جاءت لتطوير شروط اتفاق أوسلو بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في صيف 2000م، أي أنها جاءت لتحقيق إضافات في الإنجاز السياسي، ولكن بالرغم من كل التضحيات الكبيرة التي قدمت في الانتفاضة الثانية فإن النتائج كانت عكسية حيث فقدنا أعز ما نملك كشعب تحت الاحتلال وهي وحدتنا الوطنية، وتراجعت الإنجازات، بل تم الإجهاز عليها من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وعلى رأسها حكومات شارون. ومن هنا فإن الأداء الفلسطيني للأسف اتصف طيلة الحركة الوطنية الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين، والحركة الوطنية المعاصرة في النصف الثاني من القرن العشرين بأنه أداء التقدم خطوة للأمام وخطوتين أو ثلاث خطوات للخلف. ولم يشكل حالة تراكمية في الإنجاز السياسي.
أما الجانب المؤسف الآخر فإن الأداء الفلسطيني ليس تكامليا بمعنى إن إنجاز فصيل معين يشكل حجر بناء في المشروع الوطني يجب أن يتم التكامل معها بل كان الأداء تناقضيا وتضاضيا بمعنى أن كل فصيل فلسطيني كان يغرد لوحده بعيدا عن رؤية وطنية موحدة تقوم بحالة تكاملية لكل النضالات الفلسطينية السياسية والعسكرية والإعلامية. وكل فصيل يحاول أن يقلل ويقزم من إنجازات الفصيل الآخر. وحيث إن المشروع الصهيوني يشكل حالة استثنائية في مجال التحدي فإن فصيل بعينه لن يستطيع مجابهة المشروع الصهيوني لوحدة. فالمشروع الصهيوني شكل حالة تراكمية تكاملية بين مكونات المشروع ثم لاحقاً الدولة العبرية. ونحن للأسف لم نستفد من تجارب الحركات الوطنية العربية والإقليمية والدولية، ولم نقم بدراسة المشروع الصهيوني وإنجازاته وتراكماته بالرغم من أنه يشكل التحدي لنا ويشكل النموذج الذي يمكن الاستفادة من خبراته التي جمعت بين تطوير الأداء السياسي والفكري الصهيوني وبين توظيف المجتمع الدولي لخدمة المشروع. ولذلك فإن ما تم إنجازه من قبل حركة حماس على الصعيد العسكري في العدوان الإسرائيلي الأخير لم يتم توظيفه في المشروع الوطني الفلسطيني من قبل حركة فتح وقيادتها بل تم تقزيمه والتقليل من شأنه بل حتى استبعاده من الأداء الفلسطيني الرسمي. وفي المقابل فإن إنجازات الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى قد تم تقزيمه من قبل حركة حماس والتقليل من شأنه، ومن هنا فقدنا عنصر التكاملية في الأداء المقاوم والأداء السياسي.
ولذلك فإن ما تم تحقيقه على صعيد محاولات تثبيت دولة فلسطينية في المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والذي يجب تثبيته على الأرض من خلال حركة مقاومة فلسطينية بكل الوسائل الممكنة لتثبيت الدولة الفلسطينية كواقع سياسي على الأرض، وذلك من خلال عملية تراكمية تكاملية في شقي الوطن يتم الإجهاز عليه الآن من قبل مفاوضات حركة حماس غير المباشرة مع الكيان الصهيوني. حيث يتم تثبيت وضع قطاع غزة كجزء منفصل عن باقي المشروع الوطني، والتعامل معها بعيدا عن فكرة مشروع وطني ودولة بل منطقة جغرافية تحتاج لإغاثة إنسانية وفتح معابر لها. وهذا يشكل ضربة كبيرة للمشروع التحرري الفلسطيني لا تتحمل مسؤوليته حماس فقط بل السلطة الفلسطينية في رام الله التي تعاملت للأسف مع قطاع غزة لجزء عبىء زائد عن الحاجة بالرغم من أن قطاع غزة هو الذي يمثل واقعا الحاضن للهوية والمشروع الوطني في ظل تذبذب الولاءات وتشظي الهويات في الضفة الغربية.
ولذلك فإن العدو الصهيوني يحقق اختراقات جديدة وقوية في تصديع الجبهة الفلسطينية سياسيا وعسكريا، فهو مقابل إجراءات إنسانية يحيد قطاع غزة عن المعركة الحقيقة القائمة وهي تهويد القدس والضفة الغربية في محاول قوية وممنهجة لوأد أي أمكانية لقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس. بحيث يتم معظم الضفة الغربية وإن لم يكن كلها في بطن الدولة العبرية. وبالتالي يتم تحييد قطاع غزة عن هذا النهج الذي يحتاج لبضع سنوات أخرى للإجهاز على ما تبقى من القدس والضفة الغربية. وبالتالي تكون حركة حماس قد دخلت في فخ إسرائيلي يتمثل في تقديم إجراءات إنسانية دون وجود تراكم سياسي لحركة حماس. وهنا فإن حركة حماس تكون قد دارت في فلك الأحابيل الإسرائيلية بإبقائها متنفذة في قطاع غزة، وخلق أجواء مريحة لاستمرار سيطرتها على قطاع غزة مقابل قتل كل مشروع سياسي وطني تحرري فلسطيني
بقلم أ.د. خالد محمد صافي