غزة .... تحت رحمة الكهنة والزمن

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

غزة المدينة الفلسطينية العتيقة ، فواحة بعطر البساتين ، ورائحة المجد التليد ، اسألوا التاريخ عنها يجبكم بأخبار إن تبدُ لكم تسركم وتشرح صدوركم . كانت غزة واسطة العِقد الفلسطيني في صدر بلاد الشرق ، مدينة عريقة ورائعة ، قد تغير حالها فأضحت واقعة تحت رحمة الكهنة والآفات والزمن في بلاد تعبد آلهة غرباء ، وتعتنق دينا بلا مؤمنين ، تراها دائمة الحزن والكآبة ، بواباتها الكبيرة مغلقة كالجفون المسدلة على أعين باكية ، تُحلق فوق قبابها غربان الفناء ، ترسف في أغلال الذل والأَسْر . فإلى متى تظل الضحكة مغتصبة تجفو الشفاه ؟، وإلى متى يظل أهلوك يركعون لِظُلاَّمك المستبدين وناحري البسمة التي كانت تضيء وجهك الصبوح ؟. ولماذا ينبغي على ساكنيك أن يمجدوا أولئك الذين لم يظفروا بحب الناس ، فلقد أثبتت وقائع أفعالهم وسلوكياتهم أن كثيرا منهم أهل فُحش وسوء ، لم يُقدِّرهم الناس حق قدرهم ، فانخدع الناس بهم حين عميت البصائر وغشيت الأبصار زيف الرؤية ، فتاهت عن الحقيقة حين أدركهم ضعف الفرز والاختيار، ولم يلحظوا سوْءاتهم وعوراتهم .
في إسبرطة المدينة المحاربة ، نشأ المجلس ( الإفوري ) يضم خمسة قضاة ، لهم سلطة الهيمنة على تصرفات الملك نفسه ، ورَدِّه إذا حاد عن المصلحة الوطنية العليا للبلاد والعباد ، وكان كل عضو في ذلك المجلس يُسمى ( إفور )ephor . وكانوا في مجموعهم ناصحين مخلصين للملك ، أوفياء لشعبهم ، فحيثما تكون المصلحة الوطنية العليا للبلاد يكون التشريع . ولكننا في بلادنا فلسطين نجد أنواعا من المجالس وألوانا من اللجان العشرية والمئوية تحت مسميات مختلفة ، وكلها تشرِّع وتنفِّذ ما يستهوي الحاكم ويرغب فيه وبما يحقق مصالحه الشخصية والمصالح الذاتية للوردات والجنرالات من حملة عرشه ، الذين يتسابقون على استحلاب المال من ضرع البقرة الفلسطينية الحلوب ، فحيثما تكون المصلحة الذاتية والنفع الخاص لأولئك اللوردات وطبقة الجنرالات ؛ يكون التشريع وسن القوانين ، فما يوافقهم فهو شرعي ، وما لايوافقهم أو يهدد مصالحهم فهو غير شرعي وابن حرام ، وكلهم يُغرِقون الحاكم ويُغرِقوننا معه ، ظانين بصعودهم جبل صهيون أنهم معتصمون بحبل أمريكا وصهيون .
السياسة سوسة تنخر أعمدة المجتمعات ، والترف والبذخ والإسراف والبطر الذي تعيشه الصفوة الحاكمة من اللوردات والنبلاء والجنرالات هو الخنجر الذي تنتحر به البلاد . وتصديقا لما سبق فإننا نرى القادة قد توقفوا عن القيادة ، وتراجعوا عن كونهم المفترض : أسوة حسنة ، فلجأوا إلى ممارسة العسف والظلم تارة ، وإلى إفشاء الفساد وإهمال العباد تارة أخرى . فاتسعت الهوة بين الحُكَّام والمحكومين ، فوسعتهم جهنم الأحقاد ، وانهارت بهم جسور المحبة والثقة ، وبدت الديمقراطية تتحلل وتفنى ، فانتحرت فلسطين من قبل أن يُشْهر في وجهها سيف .
أيها السادة : هل أتاكم حديث الهكسوس الذين عَلَوْا عُلُواً كبيرا ، والذين جنحوا إلى الترف والفسوق ، فصارت قلوبهم هواء وقوتهم خواء ، فانهزموا وولوا الأدبار ، وأحمس (القائد الفرعوني) في إثرهم يطاردهم ، حتى طردهم من البلاد المصرية ، وتربع أحمس على عرش مصر ، ورُفع (آمون) على عرش الآلهة ليكون رب الأرباب لحفنة من الكهنة ولمن أضلوهم السبيل عن الحق المبين .
كذلك كان إخناتون الذي بدا لكهنة آمون أنه حاكم ضعيف حين نبذ الحرب والقتال ، وقَتْل الإنسان للإنسان ، واستمسك بمبدأ الحب والسلام لقيادة البلاد وسَوْس العباد ، فقويت الرغبة -لدى رجال الدولة المقربين من الحاكم - في استغلاله ، وسال الإغراء من عيونهم ، والطمع من قلوبهم في الهيمنة على الملك والسيطرة على مقدرات الآلهة والشعب . وهُرع إليه الرجال المنافقون لا خوفا منه ولا من جبروته ، ولكن طمعا في ضعفه بالهيمنة عليه والإبقاء على نفوذهم ومراكزهم العليا ، وكانت نهايته الخلع والموت وحيدا في حبسه الانفرادي . والواقع فإن إخناتون لم يكن ضعيفا ، ولم يكن يخشى الحرب والقتال ، وإنما كان ينشد الحب والسلام منذ اعتلى على العرش بعد موت أبيه " إمنحوتب الثالث " ، وكان يقول لرئيس حرسه الملكي : " ليكن سلاحك منذ اليوم يا "حورمحب " زينة لا أداة قتل وسفكا للدماء ، أدِّب الناس بالحب كما علمتك ، ومَن لم يؤدبه الحب ، يؤدبه المزيد منه " . ولم يكن إخناتون يعجب بالزي العسكري الذي يرتديه قائد جيشه " ماي " ولا إلى سيفه ، ويتساءل : " أليس غجيبا أن يُدَرَّب أناس مهذبون على القتل ليحترفوه بعد ذلك ؟ " . وكان يكره التعصب لوثن السيادة الحزبية ، وكان يرفع شعارا فوق عرشه : " لا كرامة لعرش يقوم على الكذب والفجور وقطع الأرزاق " . وكان ينصح طبيبه : " لا تشارك التعساء إصرارهم على حب التعاسة ، فالمحن تطالبنا بالتماس اليقين وسلامة العقيدة وسرعة التغيير ، ولعل أتعس الناس هم الذين يتداوون من حزنهم بحزن أشد . ولم أسمع عبر التاريخ المنقول أن إلهاً أعان خصومه على ذبح مخلوقاته إلا كان معتوها أو خَرِفاً ". والحقيقة أن إخناتون غالى في معتقداته السلمية ، وقد سار في عكس التيار الوطني ، إذ كان من واجبه الوطني أن يُشهر سيفه دفاعا عن البلاد في وجه الغزاة الطامعين ، وألا يترك شعبه نهبا للمخاطر والآفات ، أو أن يتنازل عن العرش لأخيه الشاب " توت عنخ آمون " ، معترفا بعدم أهليته وعجزه وبانتهاء صلاحيته . لو فعل ذلك لصان البلاد وجنَّب شعبه الانقسام ، ولحفظ لنفسه تاريخا يذكره بخير، بدلا من تلقيبه : الملك المخلوع . ولكن هيهات !.
طيبة ، يا عاصمة الكاهن الأكبر آمون ، يا مدينة صارت في قبضة الأشرار ، يا مرتع الآلهة الكاذبين ، وموئل الكهنة الفاسقين ، أتباع حزب الشياطين ، اسمعيني جيدا يا مدينتي : أنا لا أريدك بعد اليوم يا طيبة ، يا مَن كنتِ حبيبة ، وإني أرقب مع الراقبين قدوم " اسبارتاكوس " على جواده يحف به الثائرون .
غزة ، أيتها المدينة الحبيبة ، مازال التاريخ يتغنى بأجدادك ، ويذكر لك أمجادك ، ويسجل أنك اليوم غارقة في بحر الظلم والظلام ، وواقعة في قبضة الكهنة والآفات والأوبئة والزمن ، فلا تبكي على ماض تولى أيتها المدينة العتيقة ، ولا تحزني على كأس كنا صنعناه بأيدينا ، وبأيدينا اليوم كسرناه ، فالسياسة قد فرَّقت حكامك إلى طوائف ، فتراخت أوتار الوطنية المشدودة بالكفاح المسلح ومحاربة الأعداء المحتلين من أجل التحرير ، وانتهى بهم الأمر إلى التنازع على العرش باسم الدين تارة وباسم التحرير تارة أخرى ، وهذه بشارة الانكسار ثم الاندثار ، لأن من لم يستطع تخليص غزة وتحريرها ، لا يستطيع تحرير القدس ولا رام الله ، ولا كسر القيد في معاصمنا وأرجُلنا ، ولن تخرج النبتة الطيبة من المستنقع المسموم إلا بتطهير السموم ! .***

للكاتب الصحفي / عبدالحليم أبوحجاج