ما نشاهده في بيروت من حالة غضب جماهيري وثورة شعبية عارمة تحت شعار "ريحتكم طلعت"،هي أقرب الى الهبة الجماهيرية الواسعة،يشارك فيها اللبنانيون من مختلف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية وتكويناتهم الطائفية والمناطقية منددين بالتقاسم الطائفي للنظام ورفضهم المطلق للفساد المستشري في كل مفاصل الدولة الطائفية،ومطالبين بإعادة تكوين النظام على أسس غير طائفية،وبأن تكون الدولة لكل مواطنيها ويتساوى فيها الجميع أمام القانون وتعمل على تامين خدماتها للجميع. وعجز أنظمة "المحاصصة" الطائفية والمذهبية عن تأمين الإحتياجات والخدمات والمواطنين،وعدم القدرة على توفير الأمن للوطن والمواطنين،او حماية استقلالها وسيادتها الوطنية،يعكس ويعبر عن أزمة عميقة لهذه الأنظمة،ففي لبنان تعجز الحكومة عن جمع القمامة من بيروت،وفي العراق تعجز عن تامين الماء والكهرباء،وهذه النماذج تمتد حتى لحركات تحرر تحت الإحتلال،لديها سلطة وسيطرة مدنية على مناطقها بشكل كلي أو جزئي غزة والضفة الغربية نموذجاً،حيث العجز عن توفير الخدمات والإحتياجات للمواطنين،وكذلك الأمن والأمان.،وهذا يعبر عن عمق الأزمة البنيوية لهذه الأنظمة القائمة او التي في طورها للتشكل والتكوين،وخصوصاً بعد ما يسمى ب "ثورات " الربيع العربي.ولذلك في إطار التوصيف لها هي أنظمة وكيانات خارج اطار العصر بقيمه ومعاييره لكونها معاقة.
التاريخ يعلم بأن الأنظمة الشمولية والديكتاتورية و"الثيوقراطية" حكم رجال الدين،وكذلك الطائفية والمذهبية،هي التي يعشعش فيها الفساد بكل أشكاله،حيث لا يوجد رقابه ولا مساءلة او محاسبة،ومثل هذه الأنظمة تسيطر عليها السلوكيات والممارسات اللا معيارية،حيث يتفشى الكذب والدجل والنفاق والمحسوبية والواسطة والغش وغيرها،ومن رحم ذلك تولد طبقة من الفاسدين بحيث يجري مأسسة الفساد وتعميمه،بحيث يخلق جيش من المرتزقة والمنتفعين،غير المؤهلين او المنتجين،ولكن بحكم المذهب او الطائفة او الحزب يبقوا هم المتنفذين والمسيطرين على السلطة والقرار،وتغيب معايير العدالة والكفاءة،حيث لا قانون يحكم أو يعاقب،فالمرجعية هي الحزب او الطائفة او الحركة،بإختصار لا عدالة ولا مساواة ولا تكافؤ فرص ولا دولة مواطنة،وهذا يعمق من أزمة المجتمع،والتي قد تظهر على شكل إنفجارات اجتماعية وتحركات شعبية ضد مثل هذه الطغم او الأنظمة أو المذاهب والأحزاب،او تنهار من داخلها،حيث تتعمق الخلافات والصراعات بين اطرافها ومحاورها،فالأنظمة الشيوعية انهارت ليس بسبب عدم صحة النظرية،بل "تبقرط" قيادات الحزب وفسادها وقلة الإنتاجية قادت الى إنهيار تلك الأحزاب،وكذلك عندما سيطرة حركة الإخوان المسلمين على الحكم في مصر، وأعلت مذهبيتها وأيدولوجيتها فوق وطنيتها وقوميتها،وأرادت أن تأسلم السلطة والمجتمع والدولة،وتفصل دستور على مقاسها،دخلت في تناقض مع أغلب مكونات ومركبات الشعب المصري سياسية ومجتمعية،حيث قاد قصر هذا النظر الى ثورة شعبية عارمة أسقطت حكم الإخوان هناك.
المذهبية والطائفية تتعمقان في المجتمع بسبب قيام الأحزاب الدينية بإعلاء شأن مذهبيتها فوق وطنيتها كما هو الحال عند العديد من الأحزاب الدينية الإسلامية حزب التحرير وحركة الإخوان المسلمين،وهنا يفتح المجال لتوظيف الدين لخدمة السياسة " تسييس" الدين،وفي ظل عمليات التحريض والإنقسام المذهبي والطائفي وتفتت وحدة المجتمع والدولة تتكاثر الأحزاب على أساس المذهبية والطائفية،حتى داخل وفي إطار الدين الواحد،تجد أكثر من حزب ديني إسلامي أو مسيحي،وهذا مرتبط بتعدد المرجعيات الفكرية والشعور عند الجماعة الموجودة أو غير منتمية لهذا الحزب الديني،بأنها بحاجة لحزب او إطار يعبر عن فكرها ورؤيتها واهدافها،ولذلك ترى بأن الدول المتقدمة صناعياً واقتصادياً وثقافياً،تمنع قيام الأحزاب على أساس ديني،لكونها ترى بأن الدولة هي لكل مواطنيها.
أي يكن الحزب الديني المشكل،لا يمكن له أن يكون طائفياً او مذهبياً،وهذه الأحزاب وخصوصاً في الدول والبلدان التي تخوض صراعات ضد المحتل كما هو حال حماس في فلسطين والى حد ما الجهاد الإسلامي في فلسطين وحزب الله في لبنان، هذه الأحزاب تنجح في إستقطاب الجماهير والإلتفاف حولها،ولكن لا يمكن لها ان تشكل عنوان وطني او قومي جامع او موحد،إلا اذا تعاملت مع الدين كمنظومة قيمية وأخلاقية مجردة،وتفشل عند التعاطي او التعامل معه كنمط حياة ونهج مؤسس للأمور والشؤون الحياتية اقتصادية واجتماعية،ونحن نجد أن حزب الله هو الأقرب للنجاح بالإستمرارية كحزب جامع او موحد لكونه لا يتعاطي مع الدين على هذه الأرضية،في حين نجد الفشل عند حركة الإخوان المسلمين،حيث الفشل المدوي بعد الصعود والسيطرة على السلطة بفترة قصيرة الأمثلة كثيرة مصر،تونس والان تركيا عندما أراد أردوغان أن يستحوذ على السلطة و"يؤخونها" ويفصل دستور على مقاسات حزب العدالة والتنمية.
هنا قد تثور ثائرة البعض عندما أقول بأن الدين ليس عاملاً موحداً للأمة،فالأمور تكشفت بشكل واضح بعد ما يسمى ب "الثورات العربية" حيث معظم الحروب في البلدان العربية الجارية الآن الداخلية والخارجية منها تجري على أساس مذهبي وطائفي،وبين أحزاب مختلفة ذات مرجعيات فكرية تقول بأنها تمثل "الإسلام " الحقيقي،ولا ندري في إطار البحث عن هذا الإسلام كم سيقتل من أبناء هذه الأمة..؟؟وحروب التدمير الذاتي هذه تخاض لمصلحة وخدمة من باسم الدين والملل والطوائف..؟؟
ما يجري في بيروت الآن من انتفاضة شعبية للبنانيين تحت شعار "ريحتكم طلعت" ضد تجار ومافيات وأباطرة المذاهب والطوائف،وكذلك ما يحدث في العراق وما يجري من تململ كبير في فلسطين يؤجل انفجاره وجود الإحتلال،يثبت بشكل قاطع وملموس عمق الأزمة ومدى إفلاس الأنظمة والسلطات القائمة على "المحاصصة" والمذهبية والطائفية،ولا بد للقوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية من إعادة الإعتبار للخطاب المدني- الديمقراطي للدولة وادواته،فهو وحده القادر على التصدي بنجاح لتحديات العصر ومتطلباته....وحده القادر على توحيد الشعوب والمجتمعات وصيانة وحماية نسيجها وفسيفسائها بكل تلاوينها ومعتقداتها وتعدديتها الخادمة لنمو ونهوض وتطور المجتمعات.
بقلم/ راسم عبيدات