سيادة الرئيس بين دفتي تاريخنا تجاوزات وأخطاء فهل يعالجها قلمك؟

بقلم: نعمان فيصل

سيادة الرئيس/ محمود عباس (أبو مازن) يحفظه الله
رئيس دولة فلسطين
رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
بعد التحية،،
الموضوع/ حــكــم الـتـاريـخ
ما كنت أتمنى أن أكتب إليكم هذه الرسالة التي تحمل بين سطورها المحن والمآسي، والتي اجتاحتني، واجتاحت كل فلسطيني، وهزت كياننا، ونالت من أعصابنا جميعاً، وأرجو أن يتسع صدركم لكي أعبر عن مشاعري المبطنة بشيء من الحزن والألم، والتي تحمل في طياتها الصراحة التامة، والشدة لإظهار الحق، فالعالم هو رواية تمثيلية، ينبغي لكل واحد منا أن يمثّل فيه دوره، حراً من كل قيد، ولو تخلى عنّا كل مَن في الوجود، فالعبد الحقيقي هو ذلك الذي لا يستطيع أن يصرّح بآرائه ومعتقداته.
إنَّ أكبر مآسي الحياة، هو أن يموت الأمل في داخل الإنسان، وهو لا يزال حياً، خامرتني رغبة قوية جامحة في التوقف عن الكتابة والحديث، وقلت ببساطة: (ولمن أكتب؟.. وعمّن أكتب؟)، فلم تكن الكتابة عندي مهنة أو هواية، ولكنها وسيلة للتعبير عن رأي أو الدعوة إلى فكرة أو وجهة نظر، وإذا ما كتبت شيئاً فهو في الغالب رواية من روايات الشقاء والبؤس التي اجتاحت أبناء الشعب الفلسطيني، فلكل مواطن قصة ومشكلة، فاقت كل الحدود، وأكبر من أن تكون حكاية؛ كانت بداية قصيدة لم تكتمل.
ويعجز القلم يا سيادة الرئيس عن التعبير عما يخالج صدري من شعور أتعبه الحزن، وأنهكته الحيرة، لما آلت إليه الأمور من سوء الأحوال عديدة الأنواع والمظاهر، وقد غشيها ما غشيها من جمود وركود، حتى بلغ الناس الشيخوخة وهم في سن الشباب، حين ضاقت بهم الحياة، يتلمسون طريقهم فلا يعرفونها، بعضهم ينوء تحت همومه، وبعضهم يحمل وحدته في عينيه أو على جبينه، مثل المرضى الذين ينتظرون يومهم المحتوم، وكأننا نعيش في عالم غريب، أصبح كل شيء فيه غير ممكن وغير متاح!
لقد كشفت حقيقة التطورات السيئة التي يحياها الشعب الفلسطيني من أقصاه إلى أدناه، والتي فاقت كل الحدود، أن القيادة الفلسطينية كانت في واد، والناس في واد آخر، وأن السنوات العجاف التي عاشها شعبنا وخاصة أهالي قطاع غزة من أشد السنوات قسوة على النفس والمصير، إذ كانت حافلة بالأحداث الجسام، تهزهم هزاً عنيفاً، وفي مقدمة هذه الأحداث الانقسام الذي أكل الأخضر واليابس.
سيادة الرئيس:
لم يعد عجيباً وأنت تختلط بالناس، وتتطلع بعيون شاخصة وقلوب مفتوحة وآذان واعية، أن ترى وتسمع حديث التذمر والريبة والخوف الذي شمل الجميع تقريباً جراء الواقع المؤلم والأوضاع البائسة لمستوى حياة المواطنين على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم، وشعورهم الجارف بالحرقة لفقدان النصير في ظل استمرار الحصار الخانق والانقسام البغيض وغياب المصالحة الحقيقية على أرض الواقع واخفاق حكومة الوفاق الوطني، وعدم قدرتها على الوفاء بكل ما يتطلبه وجودها في الحكم بما يحسّن خدمة المواطنين، ويكفل لهم العزة والكرامة، وفي ظل اهواء الفصائل والمنازعات الحزبية العنيفة المعطلة لقوى ومقدرات البلاد، ومطامع الرؤوس الكبيرة والأيدي الطويلة، وتفاقم معاناة سكان البيوت المهدمة بفعل العدوان الإسرائيلي في صيف عام 2014 على غزة، وعدم وجود آلية واضحة لإعادة الاعمار، والفشل الذريع في إيجاد آلية لحل مشكلة الكهرباء التي تضرب أطنابها على جميع مناحي الحياة منذ سنوات، وإلى غير ذلك من المشاكل والأزمات، حتى وصل حال الناس إلى ما نراه عليه اليوم دون أحلام ودون آمال على وجه الضبط.
ولعلَّ أغرب ما في الحالة الفلسطينية التي نعيشها اليوم حالة اللامبالاة التي اجتاحت القيادة الفلسطينية على وجه التحديد تجاه الأزمات والمشاكل التي تعصف بالمواطنين في قطاع غزة، وباعتقادي أنه، ما لم يتوفر للمواطن المحروم الحد الأدنى من مستلزمات العيش الكريم، فلا يمكن أن يثق بقادته وفصائله، أو أن يشعر بروابط مادية تشده إلى وطنه، ليدافع عنه وينهض به.
ليس من شك أنكم يا سيادة الرئيس لعبتم دوراً جوهرياً على مسرح السياسة الفلسطينية، ولكنكم تتحملون قدراً من اللوم والمسؤولية عن المشاكل التي يعاني منها شعبكم، فهذا قدرنا وقدركم أيضاً أنكم توليتم زمام الأمور في فترة من أحلك الفترات قسوة على النفس والمصير، وإنَّ الله سيسألكم عن هذا الشعب، ولن يسأله عنكم؟
وازدادت الأمور تعقيداً في تحقيق أمل كل فلسطيني بتحقيق التصحيح والتصويب والترشيد في السياسة الداخلية، وتقريب وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية التي تتناحر، وتخفيف العداء إن لم يمكن إزالته، وتحقيق قدر كبير من التفاهم بين المتخاصمين.
وعن العيوب في البنية السياسية، التي تطورت خلال حقبة رئاستكم للسلطة والمنظمة معاً، والتي كانت تعكس من ملامح الثقافة الفردية والأبوية والحزبية التي تركزت في شخصكم وبطانتكم الخاصة التي تدين لكم بالولاء، خاصة في ظل الموضوع المثار: (خلافة الرئيس)، وترتيب البيت الداخلي، وكانت مثار جدل في الساحة الفلسطينية، وتجلى ذلك في الإخفاق في تحقيق أهداف التحرر والوصول إلى دولة مستقلة لها مؤسساتها التي تنظم عمل الدولة، ويصبح فيها الرئيس وأعضاء المجلس التشريعي منتخبين ولمدة محدودة، وكذلك في تغييب دور منظمة التحرير الفلسطينية كإطار للحركة الوطنية الفلسطينية كحركة تحرر وطني تضم القوى والفصائل الوطنية والإسلامية كافة لتعزيز الجبهة الداخلية في مواجهة الاستيطان والاحتلال الإسرائيلي، والغموض في الأدوار بين المنظمة والسلطة، باعتبار المنظمة مرجعية سياسية ودستورية للسلطة الوطنية، وليس العكس، واعتبار السلطة وحدة من وحدات المنظمة، وأداة انتقالية لهدف الدولة، ولم تجر صناعة القرار في المنظمة عبر آلية مؤسساتية محددة، ولم يمارس المجلس الوطني رقابة برلمانية على أداء السلطة التنفيذية، كما لم يجتمع المجلس الوطني منذ تأسيس السلطة وإنشاء المجلس التشريعي إلا مرتين، واحدة عام 1998، بغرض تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني؛ بإلغاء المواد التي تتعارض مع الاعتراف المتبادل بـ (إسرائيل)، ليصبح أكثر اعتدالاً، ومرة أخرى عام 2009 بغرض انتخاب ستة أعضاء جدد للجنة التنفيذية، كان هذا واقع آخر اجتماع للمجلس الوطني حتى كتابة هذه السطور، علماً أن هذا المجلس لم يعد أعضاؤه معروفين، وعددهم زهاء 720 جلهم غير منتخب، وعدد منهم ليس بقليل لم يعد حياً.

سيادة الرئيس:
كنت أتمنى يا سيادة الرئيس في أن تتحملوا مسؤوليتكم الأصيلة والتاريخية والأدبية باعتباركم أعلى هرم في الساحة الفلسطينية في العمل على اصلاح وإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية بشكل جذري، لتستحق القول بأنها ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وفي حماية المنظمة - بيت الوطن والكيان الفلسطيني، فالمنظمة هي الدولة وليست حزباً في الدولة – واستمراريتها رهناً بثباتها على شكل وجوهر برنامج الاجماع الوطني في هذه المرحلة الدقيقة خاصة مع ظهور امكانية التخلص من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة غير الفاعلين والمعارضين الذين بدأوا يتململون، ويخرجون تباعاً من تحت عباءتكم، وانتخاب أعضاء جدد، خاصة عندما تناولت وسائل الاعلام المختلفة نبأ تقديم أكثر من نصف أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير استقالتهم، وإن كانت الاستقالة هي شكلية بهدف إيجاد مسوغ قانوني لدعوة المجلس الوطني للانعقاد خلال شهر لانتخاب لجنة تنفيذية جديدة وضخ دماء جديدة للقيادة الفلسطينية، وترتيب البيت الفلسطيني الداخلي.
إنَّ منظمة التحرير الفلسطينية كانت، وما زالت، موضوع إجماع من قبل الشعب الفلسطيني بين أطرافه المتعددة ومراكز تجمعه المختلفة كون المنظمة فكرة وكيان ووطن معنوي للفلسطينيين، وأداة التعبئة للشعب الفلسطيني، وحاضنة للمشروع الوطني، وعلى الرغم من ذلك، فقد شهدت منظمة التحرير - عبر مسيرتها النضالية الطويلة – بعض العثرات والإخفاقات، ويبدو ذلك جلياً في الأصوات التي تنادي هنا أوهناك في الوقت الراهن بتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، لتضم جميع القوى والفصائل الوطنية والإسلامية تحت مظلتها الواحدة، لتحقيق هدف التحرير والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي قامت من أجلها، ولم تُنجز بعد.
سيادة الرئيس:
فيما يلي عرضٌ لأهم القضايا والأدوار التي مرت بها فلسطين منذ توليكم سدة الرئاسة، حيث يلتصق كل منهما بالآخر التصاق الجنين بأمه.
لقد أوقد الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس نار الفتنة في البلاد، وجمع لها وقودها وحطبها، حتى امتد لهيبها، وعم جميع الوطن الذي تصدع بناؤه.
وكان الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس بمثابة صفحة سوداء في تاريخ الشعب الفلسطيني، فقد وقعت فلسطين فريسة هذا الانقسام الذي طال كل نواحي الحياة، وظل عنوان المرحلة منذ منتصف حزيران 2007م، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ مفهوم الحزب الواحد في شطري الوطن. وبدأ أطراف الصراع ينبشون رماد النار الخابية، وينفخون في سعيرها، ووقعت الكثير من الخلافات والملاسنات وتوجيه الاتهامات، حيث غذتها صحافة ناشئة وإعلام موجه، وأفردت كل جهة نصوصها الجارحة واتهاماتها للتشهير بالأخرى، وكل طرف منهما يكره الآخر، ويحط من قدره أكثر مما حط مالك في الخمر، وفي ظل هذه الحالة السيئة وتياراتها الجارفة بلغت معاناة المواطنين إلى درجة فاقت كل الحدود، كما انعكس ذلك سلباً على القضية الفلسطينية والمشروع الوطني برمته.
وأقول: كان هذا الانقسام بين حركتي فتح وحماس، هو الأخطر في المسيرة الوطنية للشعب العربي الفلسطيني؛ لأنه عرض وحدة الأرض الفلسطينية لخطر الانقسام والانشطار، وأصاب النسيج الاجتماعي في الصميم.
سيادة الرئيس:
لقد استطاعت إسرائيل استثمار الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس في تعزيز الانقسام الجغرافي من خلال استفرادها بقطاع غزة، وجعله كياناً منفصلاً عن باقي الأجزاء الفلسطينية، وتجسد ذلك جلياً في قرار إسرائيل بإعلان قطاع غزة كياناً معادياً لها، ينطوي على تهديد مباشر ومخاطر بالغة تهدد المشروع الصهيوني، حيث وفّر لها المبررات الكاملة لمحاصرته والاعتداء عليه بالحرب. وتعرض قطاع غزة خلال ست سنوات إلى ثلاثة اعتداءات إسرائيلية ظالمة، حيث تعددت حلقاتها وتشابهت تفاصيلها. فقتلت النساء والأطفال والضعفاء، ودمرت العديد من المساجد والمدارس، وهدمت كثيراً من المنازل على رؤوس ساكنيها، كما اعتدت على مباني الأمم المتحدة، وعلى الطواقم الصحافية ووسائل الإعلام المختلفة، حتى الأشجار لم تسلم من آلة الحرب الإسرائيلية على مرأى ومسمع من العالم دون أن يكترث أحد بالشعب الفلسطيني؛ حتى هيئة الأمم المتحدة، بما فيها مجلس الأمن، لم تتخذ موقفاً جدياً وصحيحاً إزاء الاعتداءات الإسرائيلية وعدوانها البشع، أو حيال جريمة العقاب الجماعي.
وقد امتاز أهالي غزة أثناء هذه الاعتداءات بالقوة والأنفة، وسطروا بصمودهم أسمى آيات التحدي والثبات، ما جعل مدينتهم (غزة) رمزاً للتحدي والصمود في وجه المحتل الغاصب، كل هذا بفضل إيمان أبناء الوطن بضرورة الصمود والتمسك بالأرض، ومحركهم ودافعهم الأول هو حب الوطن.
ويشير تاريخ حركات التحرر الوطني إلى أنه حين يقع شعب تحت احتلال أجنبي، فإن طبقاته الاجتماعية المختلفة تضع خلافاتها جانباً، أو تتعامل مع هذه الخلافات باعتبارها تناقضات ثانوية، بالقياس إلى التناقض الأساسي مع الاحتلال الأجنبي حتى زواله، وليس العكس، فإن وقوع الاحتلال الأجنبي يفرض بالضرورة تجميد هذه الخلافات لصالح توحيد الصفوف في وجه العدو المشترك – الخارجي، لا أن يدبَّ الخلاف، ويحدث الانقسام، وربما القطيعة، حتى تصل إلى حد الاقتتال!.
سيادة الرئيس:
لقد أضحت فلسطين فريسة الاختلاف، واختزلت قضيتها العادلة التي تهدف إلى التحرير والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إلى عدة قضايا ثانوية تشغل بال الناس، وأبعدتهم عن قضيتهم المركزية: كأزمة الكهرباء وتفاقمها، وإغلاق المعابر وتداعياتها، وتفشي ظاهرة البطالة، وهبوط مستوى المعيشة هبوطاً ملحوظاً، وازدياد الفقر، واشتداد الغلاء، وانشغال الشرائح الفقيرة في تأمين لقمة العيش ومستلزمات الحياة الضرورية، وتراجع دور منظمات حقوق الإنسان، وانتشرت ظاهرة التسول، وكثر الفقراء الذين قال عنهم القرآن الكريم: {تحسبهم أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا} والذين لا يجرؤون على الشكاية والتسول، ولا يكترث لتلبية حاجتهم أحد، فأُهملوا أسوأ إهمال، ولقوا الإنكار من كل من بيده الأمر!. وتركت هذه الظواهر طابعها في تعزيز ضعف الانتماء الوطني واللامبالاة، وتعاظم الشعور بالإحباط، واليأس من القادة وعدم الثقة بالتنظيمات والفصائل، وكان لامتداد هذه الظواهر السلبية آثارها العميقة في نفوس أبناء الجيل، وفي انحراف البوصلة عن القضية الأساسية (فلسطين) التي يجب أن يبقى السجال في الميدان محكوماً بها.
وكان لهذه الأزمات أصداؤها عند الناس؛ إذ ضاقت بمعظمهم سبل العيش، وتقطعت بهم الأسباب، وأصبحوا في حالة فاقة، يمدون أيديهم إلى من يرحم أو لا يرحم، وأضحت غزة، بل قطاعها، سجناً كبيراً يضم أكثر من مليون وثمانمائة ألف إنسان، أغلبهم ناقمون على تدهور الأوضاع المعيشية خلال فترة حالكة من تاريخهم ساد فيها الظلام، ولسان حالهم يقول: ما بال القائمين بالحكم أصبحوا غير قادرين على القيام بواجبهم خير قيام؟ ويتمنون أن أي حكومة عليها أن تكون أمينة على أحلام وتطلعات الناس، وتسعى لتلبيتها، كما راجت بذلك الأقوال والروايات المتعددة.
والعامة من الناس مغلولة الأيدي والأعناق، لا يملكون من الأمر شيئاً، ولسان حالهم يقول: إنه خروج على المألوف، وشذوذ عن المنطق، ومجافاة للصالح العام، فما كانت العصبية الحزبية وعنجهيتها وقيود الانقسام لتسمح لمتكلم أو صاحب فكر أن يسمع رأيه، والجميع ينتظرون على مضض الساعة المناسبة، ليقولوا كلمتهم في هذا الوضع الذي يفرضه قادتهم عليهم، وليس لهم رأي فيه.
سيادة الرئيس:
كان من الطبيعي أن يفكر الفلسطينيون في مصير بلادهم وسط الظروف المتشابكة، وتعالت الصيحات خلال سني الانقسام، ودارت المناقشات، وعقدت الجلسات بين طرفي الانقسام للاجتماع على كلمة سواء، وانتهى هذا الحراك بإبرام الاتفاقات سواء في الداخل أو الخارج؛ ولكن على أرض الواقع ظلت المصالحة الغائب الأكبر، حبراً على ورق تراوح مكانها، وتنتظر مَن يزيح الغبار عنها، فقضت على كل دعوة للاطمئنان لتنفيذ بنودها، ولاقت الاهمال من كل مَنْ بيده الأمر فيها يطرقون أبوبها من دون جدوى، وأصبح كلا الجانبين (فتح وحماس) يعلق إخفاقه على إخفاق الآخر، تماماً كالخلاف الذي تقع فيه جماعة من الجماعات حين تفشل في أمر، فيبرر كل فريق فشله بفشل غيره، وكانت نظرتهما إلى تلك المصالحة على قاعدة المنافع والمصالح، وفقاً لما تحققه لهذا الحزب أو تلك الحركة على الأرض، فلم تكن صادرة من أعماق المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، بما يكفل كرامة الوطن وحقوقه، وغدا الأمر عند كلا الجانبين اللذين بيدهما صولجان السلطة وكأنهما يسيران في طريق مظلم مليء بالعثرات والعقبات، واستمر الانقسام على ذلك وسط أنواء هذا الدور وتياراته الجارفة رغم مضض الانتظار ومرارة الكبت. ولكن، لا بدَّ أن نقنع أنفسنا في النهاية بأن ثمة شيئاً لا نفهمه تماماً، وإذا لم أكن مخطئاً، فإنكم ورموز العمل الفلسطيني وقادته يعرفون أشياء لا نعرفها، ولا يمكننا أن نعرفها؛ لأنهم لم يمتلكوا الشجاعة بعد لأن يحدثونا عن تعثرات القيادة وخطورتها على قضية فلسطين بمجملها، ويقولوا لنا: إن فلسطين الجديدة الناهضة أضحت حكومات تتطاحن، وأحزاباً تتقاتل في حمى العصبية والزعامة الحزبية.
وفي ظل أجواء التشظي وغياب المصالحة تفاقمت معاناة المواطنين، وشلت كافة مقومات الحياة، وهو أحد نقاط الضعف في الحالة الفلسطينية السيئة التي تدل ببأسها وشدتها على الناس والمجتمع، كما انعكس ذلك سلباً على القضية الفلسطينية برمتها التي تاهت لسنوات في وحول الانقسام.
سيادة الرئيس:
ولعلَّ من الشواهد التي ساقها الأديب أحمد حسن الزيات في مجلته (الرسالة) يوم 6 يناير 1939 قوله للملك: (يا صاحب السعادة لِمَ تَرْضَى أن أكون صاحب الشقاء؟ وأنا وأنت نَبْتَتَان مِنْ أيكة آدم نَمَتا في ثرى النيل، ولكن مغرسك لحسن حظك كان أقرب إلى الماء، ومغرسي لسوء حظي كان أقرب إلى الصحراء، فشبعت أنت وارتويت، على قدر ما هزلت أنا وذويت).
وأضاف "الزيات": (هيهات أن يكون في الأرض إيمان ما دام في الأرض فقر).
كما نبه الزيات ولاة الأمر في ذلك العهد إلى خطورة المشكلة بالنسبة إلى النظام الاجتماعي كله قائلاً: (كل ثورة في تاريخ الأمم، وكل جريمة في حياة الأفراد إنما تَمُتُ، بسبب قريب أو بعيد إلى، الجوع).
سيادة الرئيس:
تابع الناس ببصيص من الأمل مؤشرات إنهاء الانقسام من خلال الاتفاق على تشكيل حكومة الوفاق الوطني عقب اتفاق المصالحة الفلسطينية الموقع بمدينة غزة في 23 نيسان/ أبريل 2014م، والتي جرى السياسيون على اعتبارها بأنها ستحاول إنقاذ اللحظة الأخيرة من عمر الحركة الوطنية الفلسطينية قبل الوصول إلى منطقة السكون العميق، وتُسد رياح الانهيار ومزالق القلاقل السياسية عن طرفي الانقسام (فتح وحماس)، وتقدم لهما طوق إنقاذ، وتبعث فيهما الحياة من جديد، بحيث يرتدي كلاهما رداءً متجاوباً ومنسجماً مع ديناميكية التغيير، وينتقلان من نهايات الانقسام إلى إطلالات الوحدة والمصالحة، وتكون لفلسطين - قلب العالم وفردوسها الأرضي، ومهد الأديان الكبرى - مكانة صدق، وحكومة وفاق تنشد للفلسطينيين وضعاً غير وضعهم في ظل الانقسام، ويرون فيها لوناً جديداً يُبشر لعهد مليء بالنشاط والحيوية، ويضيء الطريق من جديد.
كم كنت أتمنى أن تحمل حكومة الوفاق على أكتافها حملاً ثقيلاً من موروث الماضي، وهو ما ينوء أولو العزم من القادة على حمله لإصلاح الأوضاع التي سادت بعد أحداث عام 2007م، وهذا يتطلب مجهوداً جباراً متواصلاً، حيث علق أبناء الشعب الفلسطيني على تلك الحكومة الكثير من الآمال، وتوسموا فيها الخير، لتكون قادرة على الوفاء بكل ما يتطلبه الحكم، وحيث اقتضى ذلك تحميلها المسؤولية الكاملة عن الشعب بكل طبقاته واتجاهاته، ومن أقصى الوطن إلى أدناه، وتوفير كل مستلزمات الحياة الكريمة والسهلة للمتعبين في الأرض الذين يتصبب منهم العرق والشقاء، وذلك بالتخفيف عن آلامهم، والمساهمة بقسط وافر في إصلاح الاقتصاد الفلسطيني الذي أُصيب بما يشبه الشلل بعد تفشي ظاهرة البطالة إلى درجة فاقت كل الحدود.
وتطلع الفلسطينيون أيضاً إلى حكومة الوفاق بأن تمتلك الشجاعة والقوة لحل أزماتهم المستشرية، كأزمة الكهرباء والمعابر، وفي نفس الوقت تخفف من معاناة حامل الجواز الفلسطيني الذي كان ذات يوم جواز مرور، فإذا به جواز انتظار في كل أجنحة الانتظار في العالم، وكان عليها أيضاً البحث عن مصير الغاز الفلسطيني المُكتشف في شواطئ فلسطين إلى غير ذلك من أحلام واعدة.
وهم يريدون حكومة تتجه أنظارها إلى ترسيخ الحرية في كل صورها ومعانيها، تنمو فيها حرية الفرد، وتعلو فيها الديمقراطية، وتوطد فيها أركان الحكم الدستوري، من خلال التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، وكذلك إلى الاهتمام بالتعليم والعناية بأمره، ومراجعة شاملة للمناهج التعليمية التي تقدم في مدارس فلسطين مراجعة تلبي حاجة الشعب الفلسطيني لصنوف التعليم المختلفة، ويريدون حكومة تعمل بجدية في مضمار النهوض في العلاقات المجتمعية، وإنماء الفضائل العامة والحث عليها، وإعادة أواصر النسيج الاجتماعي التي فككها الانقسام، والأخذ بيد الشعب نحو مدارج الرقي.
وكان ينبغي على هكذا حكومة أن تبحث عن بداية جديدة قوامها مبدأ الباب المفتوح والشفافية، وتوجيه الأنظار إلى سياسة الزهد والتقشف، وعدم الانغماس في تنفيذ مآربها الخاصة، بأن يتخذ الوزراء من الوزارة وسيلة للمال والجاه، أو ذريعة للمفاخرة، والسير في طريق الإصلاح المطلوب، والمبادرة إلى أداء واجبها المنوط بها تجاه بني قومها، وتقديم كل العون لانتشال المعوزين في فلسطين، ولا يكون أهل الوطن الواحد أمة إلا إذا ضاقت هوة الفروق بين أفرادها، واتسعت دائرة المساواة بينهم، فقد آن الأوان للناس أن يستريحوا من تداعيات الانقسام التي حلت بساحتهم، وكادت أن تفتك بهم.
وفي المقابل كنت أتمنى أن يتقاسم كل مواطن فلسطيني شرف الجهاد في بناء الوطن وإصلاحه، بأن يشترك كل فرد في حكومة بلاده اشتراكاً تاماً كاملاً في صنع القرار، وتحديد مركز الحاكم والمحكوم، وهذا ما نسميه بسلطة الشعب.
وأن تكون حكومة إنقاذ بكل معانيها وأبعادها، وتنال شرف وضع الحجر الأساسي في صرح الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتلغي من ذاكرتها مرحلة كان خلالها الإنسان الفلسطيني الذي ظل غارقاً في وهدة البؤس، بطلُها الحقيقي الرجل الباني الذي يحاول أن يبني وطناً للجميع.
سيادة الرئيس:
بعد مرور عام على تشكيل حكومة الإنقاذ هذه، يمكن القول: إن الحكومة أُفشِلت في حل مشاكل الناس التي بلغت ذروتها في هذه الأيام، حتى وصل حالهم إلى ما نراهم عليه اليوم، دون أحلام، ودون آمال على وجه الضبط، وباتت الحكومة غير قادرة على الوفاء بكل ما يتطلبه وجودها في الحكم، بما يحسن خدمة الوطن، ويكفل لأهله العزة والكرامة، وهكذا، فنحن ماضون صوب الانهيار!!
سيادة الرئيس:
حري بي أن أقول في هذا الوقت العصيب الذي تمر به البلاد من ظروف صعبة وحصار جائر: لو رأت بعض الآمال النور، وسار قادة السلطة الفلسطينية قبل حزيران 2007م إلى تحقيق الأهداف السامية والمبادئ النبيلة في الحفاظ على قدسية المال العام، لكان من شأنها أن تأتي بثمار خيرة، وتخفف من سوء النتائج التي حصل الغزيون عليها بعد أحداث 2007م، ولما وصل حالنا إلى هذه الحال، وهذا ما يدفعني إلى القول مع الشعور بعظم المسؤولية، مسؤولية الضمير والوجدان ومسؤولية المستقبل، أن السلطة الفلسطينية لم تكن تحاسب أحداً من المتورطين في قضايا فساد، وكان الرئيس الشهيد ياسر عرفات – رحمه الله وطيب ثراه - مشغولاً بهمومه السياسية مع إسرائيل، وتوطيد أركان السلطة في أرجاء الوطن، ولهذا كانت بطانته غير معنية بمصلحة المواطنين، ويتطلعون فقط للإثراء الذاتي على حساب المصلحة الوطنية العامة.
ومن أبرز علامات ودلائل وجود هذا الفساد تفشّي ظاهرة المحسوبية والقرابة في التعيينات والترقيات واستغلال وإساءة استعمال السلطة، وما ترتب على ذلك من إهدار المال العام، وإفراغ المناصب القيادية من مضمونها من خلال تعيين أشخاص غير مؤهلين لتولي زمام الأمور، وترقيتهم بطرق مخالفة للقانون، وكان من بينهم عدد كبير من أبناء وأقارب مسؤولين ووزراء، ما يعكس حجم استغلال الصلاحيات الممنوحة لهؤلاء المسؤولين، وإعطاء صورة سيئة عن أداء ومصداقية السلطة الفلسطينية لدى الشارع الفلسطيني.
وماذا أقول عن المال الذي يذهب هدراً على شكل رواتب لا يتقاضى مثلها أبناء الخليج؟ ورواتب لمن هو لا يؤدي عملاً، ولمن هو في الخارج ويعمل عملاً آخر؟ ولمن لا يزال يدرس في الخارج؟.. ألخ، والناس هنا لا تجد قوتها ليومها، في مقابل ذلك تدني مستويات الأجور لدى قطاعات حيوية في المجتمع الفلسطيني مثل قطاع التعليم والمعلمين، وكانت آفة الآفات الضارة التي علقت بالحالة الفلسطينية ما اصطلح على تسميته (الإثراء بلا سبب) لبعض قادة السلطة، وتفشّي ظاهرة الفلتان الأمني، وبروز ظاهرة التحول من المنح إلى القروض التي تثقل كاهل الأجيال القادمة، وعدم الأخذ بملاحظات ديوان الرقابة المالية والإدارية، وتخصيص أراضٍ لمسؤولين كبار كـ (إنعاميات)، بينما عامة الناس يسحقون، ظلت هذه الطبقة تزداد غنى وثراء وجاهاً، وأبناء الشعب يتضورون جوعاً. هذه العلامات والدلائل أساءت للشعب الفلسطيني في المقام الأول، وكان الثمن الباهظ الذي دفعته السلطة وحركة فتح خسارتهما في الانتخابات التي جرت في العام 2006م، حيث رغب الناس في حدوث التغيير والإصلاح، ولكن خاب ظنهم!!.
سيادة الرئيس:
تدور عجلة الزمن، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وليست مبالغة إذا قلت أنه يكرر نفسه، فالوجوه هي نفس الوجوه القديمة، وكأن نساء فلسطين عجزن أن يلدن مثلهم، ومن الخطأ، أن ندعي أن الفلسطينيين قد قعد بهم اليأس بعد فشل الزعامات الفلسطينية في السير بالحركة الوطنية في الطريق الصحيح، بل إن غياب قادة حقيقيين تهدي الجماهير إلى سواء السبيل في تحقيق أمانيهم في الحرية والاستقلال، وتقود نضالهم لتحقيق أمانيهم وآمالهم وتحقق أحلامهم، حال بينهم وبين ما تجيش به نفوسهم من رغبة في تحدي الاحتلال ومقاومته، وهو جانب هام من تاريخنا القومي علينا أن نعيه أشد الوعي، حتى يصبح حكمنا عليه حكماً قائماً على الأصالة والحق، متجنباً الميل والهوى والجهل بواقع المجتمع الفلسطيني في مسيرة تحرره وانطلاقه، وتطور هذا الواقع وفقاً لتطور الأحداث والعوامل.
سيادة الرئيس:
لقد تأسس المجتمع الفلسطيني على المحبة والود والاعتراف بالآخرين، تتعدد الآراء والمذاهب، ويبقى الود، فالمسيحي لم يكن يخاف المسلم، والمسلم لم يكن يخاف المسيحي، كان التسامح في قلوب شعبنا مكان صدق، همهم جمع الكلمة، وهم حرب على الفرقة والتفرقة، ومَن كان يزور مدن فلسطين يرى ويلاحظ تعانق الهلال مع الصليب، ويسمع امتزاج أصوات المؤذنين مع قرع أجراس الكنائس في جو أخوي فريد من نوعه، قلَّ نظيره في العالم.
ولم تنشأ في المجتمع الفلسطيني أفكار أو قصص التحذير والتخويف التي وجدت في مجتمعات أخرى بسبب الفتن التي أثارها أصحاب الأطماع بين الطوائف والمذاهب، بما يدفع عن الفلسطينيين تهمة التعصب الديني، مستدلاً بسماحة الإسلام وائتلاف المسلمين والمسيحيين في فلسطين، ائتلافاً يؤكده التاريخ والمصالح المشتركة، فلا يحرك ذلك أية بادرة من بث روح التعصب الديني، أو إيغار صدور العامة ضده؛ فلم يدخل المجتمع الفلسطيني في صراع وشقاق بسبب المذاهب والطوائف، وإنما جاءه الصراع والانشقاق عندما نشأ الهوى الحزبي والقبلي والسياسي، وبدأت نُذُر الشؤم تلوح في الأفق ناراً تتأجج في الصدور، في هذا الوقت كانت حدة الصراعات الفكرية والسياسية تنبش رماد النار الخابية في النسيج الفلسطيني، وتنفخ في سعيرها، وأخذت البلاد تنحدر إليها بسرعة إلى أن حصل التجاذب النهائي والانشقاق المطلق، حين حان وقت الانهيار، وحين تحولت المنطقة إلى موجة انحلال عامة.
هذه الأحزاب والتنظيمات التي ضلت الطريق، وما انفكت ترفع شعار الحزب فوق الولاء للوطن، فالحزب عندهم مقدم على الوطن، ولكل فئة رمز ترفعه إلى منزلة بحيث لا يدانيه فيها رمز آخر، وكل حزب يحاول أن يلغي غيره، ويعدّ نفسه المثل الأعلى، ويعدّ غيره على شفا جرف هار أو في قعر جهنم، فمن شأنهم أن يحمل كل على الآخر حملات عنيفة غايتها تجسيم صغائر العيوب، وتصغير كبائر المحاسن، وأصبحوا كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله. إنها الفاشية في أجلى رموزها، فمشكلتنا مع الفصائل أنها ترى نفسها وحدها المنزهة عن الأخطاء، تصنع أمواجاً، ثم تجعلك تظن أنها الوحيدة التي يمكنها أن تقود السفينة إلى شاطئ الأمان، فهي لم تضع حاجيات شعبها موضع التفضيل، ولم يعتبرها الناس الناطقة الحقيقية بلسانهم، كونها تخدم أغراضها الفئوية الضيقة، وتحرم الآخرين من برها وخيرها، وتقصره على منتسبيها من المنتمين والمهللين، وهم مَن ينشدون الكفة الراجحة ليدوروا في فلكها، وأصبحت الوظائف الإدارية العليا وقفاً على تنظيمات بعينها، ولمن يدين لها بالولاء، حتى كاد هؤلاء أن يحتلوا جميع مناصب السلطة، وإذا أُسندت المناصب بغير محلها، ووضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب، فكيف نتقدم وهذه حالنا؟ وللأسف أصبحت فلسطين البقرة الحلوب التي عصر ضرعها دون أن يترك فيه فضلة للفلسطينيين، فالهدف من بناء أي دولة هو سعادة أبنائها أجمعين، وليس سعادة فئة واحدة معينة منها.
سيادة الرئيس:
وحتى هؤلاء المستقلون لم يتقنوا فن إطراب الناس، فصارت تلك التجمعات تتلمس مواطن الإقدام في الشباب النابه، فتعمل على إعداد مَن تصطفيه منهم للدور الذي تتوسمه في خدمة طموحها إلى السلطة.. دائماً باسم المستقلين؛ وأصبحت هذه الدعوة موضة هذا العصر الأكثر سهولة، حيث وجدوا فيها سوقاً رائجة للوصول إلى السلطة، ويعرض هؤلاء أنفسهم وكأنهم رجال إنقاذ قادمين من المريخ أو من عطارد. ولم تستطع هذه التجمعات الأخذ بيد الناس نحو مدارج الرقي والتغيير المنشود، فقد كانت هذه التجمعات امتداداً للانقسامات الفلسطينية، لذلك فشلوا من حيث الجوهر، وإن نجحوا من حيث الشكل، ولم يكونوا عند حسن ظن الناس بهم، وأضاعوا الحلم الجميل الذي راود الفلسطينيين في التغيير والإصلاح، وكانت المحصلة النهائية ضغثاً على إبالة، ونفوراً واحباطاً من هذه التجمعات، وثمة حذر من منظريها ومعتنقيها في تقدير الناس والمجتمع.
سيادة الرئيس:
لكل ما تقدم ذكره، فإنه يحتم علينا جميعاً، أن نأخذ العبر من الماضي، لنعزز الحاضر بإيجابيات قوية، تؤسس لمستقبل مشرق من العمل الوطني في ظل وحدة وطنية ترسم آفاق هذا المستقبل على قاعدة أن الوطن للجميع. لذا، فجدير بالفلسطينيين اليوم، مراجعة الحالة الانقسامية بين حركتي فتح وحماس، وأن ينفضوا عن كاهلهم أعباء الانقسام، ويبنوا وطنهم سوياً من خلال وحدتهم الوطنية التي بات من الضروري العمل على استعادتها، وطي صفحة الانقسام التي تساعد على تحقيق كل مشاريع الهيمنة والاستيطان والتهويد، وطمس الهوية الوطنية، وسلخ الشعب عن تاريخه وجغرافيته وعقيدته، خدمة للمشروع الصهيوني النقيض التاريخي للمشروع الوطني الفلسطيني.
ولعلَّ من أهم ركائز هذه المراجعة للتاريخ، إعادة قراءته بأفق أوسع، وأن يؤمن الكل أن انقساماتنا لم تجرْ علينا إلا الوبال والخسارة الكبيرة، وهل هناك أعظم من خسارة وطن؟ ففي ظل الانقسام بين حركتي فتح وحماس ليس هناك منتصر ومنهزم أو فائز، إنما الخاسر الأكبر هو الوطن، الوطن بكل مقوماته، بأرضه وشعبه، بتراثه ومقدساته، بثقافته وتاريخه، ببحره وبره، بجباله وسهوله وأوديته.
ولا بدَّ أن يتجه الجميع اليوم إلى تحرير الإرادة الوطنية، والبحث بين الفرقاء عن القواسم المشتركة التي لا تغيب عن أحد، ولسنا في حاجة إلى مزيد من الجهد للبحث عنها؛ فهي واضحة كالشمس، إلى جانب وجوب معالجة أوجه الاختلاف بالحوار الهادئ، والنقد الذاتي البناء، بعيداً عن أجواء التوتر وعنترية العشيرة والقبيلة، حتى تتحول تلك الأشكال المكونة للمجتمع إلى رافعة قوية تساهم في خلق مستقبل أفضل للأجيال يتحقق بهذه الروح الجديدة، وفي زمن قياسي، وهو ما فشلت في تحقيقه عبر كل السنوات التي مضت، وفي ظل هذا المناخ، نأمل أن يؤمن كلٌ منا بقبول الآخر، وعلى مبدأ المشاركة الصادقة في بناء الوطن، لا على إقصاء الآخر، فالوطن في حاجة لجهد الجميع، ودم الجميع، لأنه سقف الجميع، تحته ملاذهم الآمن.
سيادة الرئيس:
استشعاراً بعظم المسؤولية الوطنية؛ مسؤولية الضمير والوجدان ومسؤولية المستقبل، فعلى طرفي الانقسام (فتح وحماس)، ومعهما باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي على حد سواء، الشروع، باعتبارهم أمناء على تحقيق آمال الناس وتطلعاتهم وأهدافهم، بإجراء قراءة أركيولوجية، ومراجعة فكرية، وتقويم بنّاء، تشمل، فيما تشمل، الشعارات المرفوعة والأهداف المرسومة والوسائل المطروحة والمواثيق المنشودة، وبما يتلاءم مع متطلبات المرحلة، ومعرفة أسباب ما آلت إليه الحالة الفلسطينية من تفتت وترهل وضعف، والاطلاع على العلل والأمراض التي أصابت الفلسطينيين، ودفعتهم إلى أحضان الركود والتأخر؛ فالقضية الفلسطينية هي الوحيدة في العالم التي لم تنل استقلالها وحريتها حتى يومنا هذا.
وهذا يحتم علينا جميعاً قراءة المرحلة السابقة بصورة تفسيرية لمعرفة حقيقة وضعنا، وما حققناه، وأين نقف نحن؟ وتحديد دور القوى المختلفة في العمل الوطني والاجتماعي، وأثره على الحياة بكل جوانبها، ولتلافي قصورنا وعوامل ضعفنا، ولاستشراف المستقبل؛ فالتقويم هو الوسيلة المثلى القادرة على تحقيق استشراف المستقبل واستخلاص العبر، فقد آن الأوان لنعدل عقارب ساعتنا في اتجاه النقد الذاتي البناء، رغم وعينا بما يثيره هذا النقد من اللبس والالتباس، وبعيداً عن نظرية المؤامرة وخطاب الضحية دون مواربة أو تورية، وبنظرة محيطة شاملة من أجل قيادة الحركة الوطنية إلى بر الأمان والاستقلال الكامل، ووصولاً إلى مرجعية وطنية شاملة وإستراتيجية، تنسجم من روح التغيير الأيديولوجي، علينا أن نقدم أنفع الوسائل لتحقيق ذلك على أسس راسخة من المشاركة الشعبية الواسعة في صنع القرار.
وتتلازم عملية التقويم والقراءة الأركيولوجية في السير نحو حركة إصلاح شاملة، وغرس بذورها بإمعان، ومعرفة الأمراض التي انتشرت سمومها في المجتمع الفلسطيني، وتقديم أنفع الوسائل في معالجتها، والوصول إلى الهدف السليم في سلامة واطمئنان.
فالإصلاح الذي يستند إلى أسس عميقة هو السبيل الأمثل أمام القيادة الفلسطينية، إذ يستمد الفلسطينيون من ينابيعه ما يساعدهم على مواجهة الأخطار التي تحدق بوطنهم والدفاع عن قضيتهم العادلة، ولإيقاظ شعور مواطنيهم، وحثهم على رفع شأن بلادهم إلى مدارج الرقي التي يسود فيها القانون، ورأب الصدع في النسيج الاجتماعي جراء الانقسام، وذلك بأن تتخذ القيادة موقف الطبيب أمام المريض، يفحص داءه، ويتعرف على أسبابه، ثم يصف العلاج، فلا بدَّ من التغيير الجذري والكلي، وليس هذا التغيير يتم باستبدال الطرابيش على نفس الرؤوس، بل باستبدال الرؤوس بالكامل، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب على قاعدة (لا يصح إلا الصحيح).
سيادة الرئيس:
إن الشعب العربي الفلسطيني الذي ظل يرفع راية الكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، منذ ما يناهز القرن، يقف صامداً في إباء، ويحافظ على حيويته ونضاله في سبيل حريته، وينشد الحرية والمساواة والاستقلال، ويتطلع إلى الارتقاء في شتى مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويدرك أن النضال الفلسطيني يمر في ساعة من أخطر ساعات المرحلة في مواجهة الخطر الإسرائيلي الذي بلغ درجة عالية في الغدر والمراوغة في استغلال الوقيعة بين حركتي فتح وحماس، ودفع أبناء الشعب الفلسطيني إلى مشاكل داخلية تصرف أنظارهم عن قضيتهم المركزية وعدوهم الحقيقي.
ولنؤكد على عدالة قضية شعبنا وهويته العربية، وتراثه المادي أو المعنوي، وكلنا ثقة بأن الشعب الفلسطيني الذي صمد طوال ألوف السنين، برغم جميع المآسي والكوارث والحروب والاحتلالات، لن يُقضى عليه؛ بل سيعود مهما تلبد الأفق بالغيوم، وطال الدرب، وتأخر زمن القطاف، كما عاد بعد كل محنة مرت به!!
إن قيادتنا مدعوة إلى تقويم وإصلاح ورقابة ووحدة تليق بحجم التضحيات الباهظة التي قدمها شعبنا في تلك السبيل، وعليهم أن يدركوا أن مصير بلادهم رهن بإرادتهم وإرادة شعبهم.
وأقول: إنَّ النضال الفلسطيني يمرّ بساعة من أخطر ساعات الأزمة، وإنَّ النجاة رهن بالعودة إلى التضامن بين الفلسطينيين، والذي تتحطم على صخرته كل الأحقاد الحزبية، والتي يجب إزالتها من النفوس، كما ويجب على الحكماء منا إدراك حقيقة الخطر الذي بات يتهدد الجميع.
سيادة الرئيس:
إنَّ المعركة الحقيقية التي يجب أن تخوضها القيادة الفلسطينية تتمثل في اتخاذ الخطوات الكفيلة بحماية الشعب الفلسطيني وحقوقه في الانضمام إلى المواثيق والمعاهدات الدولية كافة، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها بحق أبناء شعبنا، ووقف التنسيق الأمني معها، وتحقيق المصالحة الوطنية، وخلق رأي عربي ضاغط ومؤثر من شأنه أن يُغيّر موازين القوى في اتباع الولايات المتحدة الأمريكية سياسة متوازنة لحل الصراع العربي – الإسرائيلي، تقوم ركائزها على أن الحق دائماً فوق القوة، ومن شأنه أيضاً أن يعيد ثقة العالم بأمريكا، ولكن هيهات! فإن الحبل السّري ما زال بيد أمريكا!.
سيادة الرئيس:
أليس من حقنا نحن الفلسطينيين وجود رجل رشيد، يطوي صفحة مظلمة من تاريخ شعبنا؟ وأن يجعل هذا الشعب المتعب شعباً جديراً بالحياة، جديراً بالتقدم، وأن يسير نحو هذا الهدف بدون مواربة وبدون مناكفات، وأن يصلح ما أفسده الدهر، ويسجل في سجل أعماله الوطنية الظفر بالمغلوبين على أمرهم من أبناء غزة، وتحطيم الأغلال التي تكبلهم بقيود ثقيلة، وأن يسعى إلى تحقيق وحدة الصف الفلسطيني، وأن يزهد في المال والمنصب والجاه، ويسير في حياته الخاصة سيرة المؤمنين المجدين الصادقين على غرار الخلفاء الراشدين في صدر الإسلام في حكم الرعية بالعدل في السهر على مصالحها، وفي تحقيق هذه المصالح بأسرع وأحسن الطرق بأعز ما ترجوه، حتى لا يجد حاسده مغمزاً في نزاهته ولا في وطنيته ولا في جهده المتواصل في خدمة وطنه. ويكون مثار اعجاب الجميع واطرائهم، وموضع احترامهم وتقديرهم؟
وختاماً يا سيادة الرئيس:
بين دفتي تاريخنا تجاوزات وأخطاء فهل يعالجها قلمك؟
إنَّ صاحب الحكم في نهاية الأمر هو التاريخ .
وتفضلوا بقبول فائق التحية


نعمان فيصل
كاتب فلسطيني

غزة: في 30 آب/ أغسطس 2015م
15 ذو القعدة 1436ه