يُعرِّف ابن خلدون الدولة بأنَّها "كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية، وهي أيضًا وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلاَّ بها".
ويرى أنَّ حاجة الإنسان للغذاء والكساء والمأوى والدفاع عن النفس هي التي تدفعه إلى الانتظام في مجتمع إنساني، فالإنسان لا يستطيع أن يسد حاجته للغذاء بمفرده،لأنَّ ذلك يتطلب أعمالاً كثيرة لا يستطيع أن يقوم بها بمفرده ، فلابد من تعاونه مع رفاقه.
ويقول ابن خلدون أنَّ هناك للدولة خمسة أطوار، وأربعة أجيال أسرية: فالأطوار (مرحلة البداية والتأسيس، توطيد الحاكم نفوذه إلى أن يصبح حاكمًا مطلقًا، يبعد نفسه عن عصبيته، يعتمد على المرتزقة في الدفاع عن الدولة، المرتزقة تقضي على الملك).
ويرى ابن خلدون أنَّ الدولة لا تقوم إلاَّ على أساسيْن:
أولهما: الشوكة والعصبية المعبر عنهما بالجند.
وثانيهما: المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال.
فالدولة في أولها تكون بدوية؛ حيث يكون الإنفاق معقولاً، ولذا يكون هناك إمعان في الجباية والإسراف، وإذا عظم المال انتشر الترف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة، فإنَّ نفقات السلطان وأصحاب الدولة تتضاعف، وينتشر الإسراف بين الرعايا، وتمتد أيديهم إلى أموال الدولة من جهة، ومن جهة أخرى يبدأ الجند في التجاسر على السلطة، فيضطر السلطان إلى مضاعفة الضرائب، فيختل اقتصاد البلاد، ولكن الجباية مقدارها محدود، كما لا يستطيع رفع الضرائب إلى ما لا نهاية، ولذا يضطر إلى الاستغناء عن عدد من الجند حتى يوفر مرتباتهم، فتضعف حمايته، وتتجاسر عليه الدول المجاورة أو القبائل التي ما تزال محتفظة بعصبيتها.
ونظر ابن خلدون للدولة على أنَّها كائن حي يولد وينمو، ثُمَّ يهرم ليفنى، فللدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تمامًا، وقد حدَّد ابن خلدون عمر الدولة بمائة وعشرين عامًا، لأنَّه يرى أنَّ العمر الطبيعي للأشخاص كما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرين عامًا، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر إلاّ إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب، مستشهدًا بقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34، وذكر أنَّها تتكون من ثلاثة أجيال كل جيل عمره أربعون سنة، وذلك لأنَّه اعتبر متوسط عمر الشخص أربعين سنة، حيث يبلغ النضج إلى غايته مستشهدًا بقوله تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً" الأحقاف: 15.
ولهذا بيَّن أنَّ متوسط عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل، ويؤيد ذلك في حكمة التيه الذي وقع لبني إسرائيل في أربعين سنة، والمقصود بالأربعين سنة فيه فناء الجيل لإحياء ونشأة جيل آخر لم يعهد الذل ولا عرفه.وقد ضرب ابن خلدون أمثلة لأعمار الدولة على بعض الدول مثل: (المرابطين، والموحدين، والمرينيين في المغرب، وملوك الطوائف في الأندلس، والحمدانيين في حلب).
*أطوار الدولة عند ابن خلدون:
الطور الأول: هو طور التأسيس، وفيه يكون السلطان جديد العهد بالملك، لذا فهو لا يستغني عن العصبية، وإنَّما يعتمد عليها لإرساء قواعد ملكه، فيكون الحكم في هذه المرحلة مشتركًا نوعًا ما بين الملك وبين قومه وعشيرته، ويتميز هذا الطور ببداوة المعيشة، وبانخفاض مستواها، فلم يعرف الغزاة الجدد بعد الترف.ويشترك الجميع في الدفاع عن الدولة لوجود الشجاعة والقوة البدنية.
الطور الثاني: هو الانفراد بالملك، ويرى ابن خلدون أنَّ الانفراد بالسلطة ميل طبيعي وفطري لدى البشر، ولذا فإنَّ السلطان عندما يرى ملكه قد استقر يعمل على قمع العصبية، كما يعمل على الانفراد بالحكم، واستبعاد أهل عصبيته من ممارسة الحكم، وعندئذ يتحول من رئيس عصبية إلى ملك.
الطور الثالث: وهو طور الفراغ والدعة: وفي هذا الطور يتم تحصيل ثمرات الملك وتخليد الآثار وبُعد الصيت، فالدولة في هذا الطور تبلغ قمة قوتها.
الطور الرابع: هو طور القنوع والمسالمة: وفي هذا الطور يكون صاحب الدولة قانعًا بما بناه أسلافه مقلدًا لهم قدر ما يستطيع، والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة تجمد فلا شيء جديد يحدث، وتغير يطرأ، كأن الدولة تنتظر بداية النهاية.
الطور الخامس: هو طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة في هذا الدور متلفًا لما جمعه أسلافه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته، فيكون مخربًا لما كان سلفه يؤسسون، وهادمًا لما كانوا يبنون.وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا برء منه إلى أن تنقرض.
ويرى ابن خلدون أنَّ بداية انحلال الدولة يرجع إلى عنصرين هما: انحلال العصبية، والانحلال المالي نتيجة تبذير السلطان، ولهذا تنهار الدولة سياسيًا واقتصاديًا.
بقلم/ د.حنا عيسى