النثار البشري الذي قذف به الربيع العربي إلى كل مكان، صار مشكلة مجتمعية وسياسية وأخلاقية، في بلدان كانت تعتبر الهجرة إليها ميزة تصلح للاستثمار، وتعويض النقص البشري الناجم عن تنظيم الأسرة بتحديد النسل.
لم يكن أهل الكيانات المستقرة والمزدهرة، يتوقعون بلوغ الهجرة إلى بلدانهم مستوى كالذي بلغه في زمن الربيع العربي، فارتبك المشرعون والساسة واستبد القلق بالمواطنين الأصليين، وهيمنت الحيرة على العقول المعنية بإيجاد المخارج من الأزمات المتفاقمة.
فإذا ما ذهبوا إلى تقنين الهجرة عبر قوانين جديدة، فسيقعون تحت طائلة الاتهام بالعنصرية وانتهاك حقوق الإنسان. وإذا ما غضوا النظر عن الظاهرة، فإن انعكاسات مجتمعية لا بد وأن تنشأ على نحو مرضي، خصوصا حين يقترف مهاجر جريمة غير مألوفة، كالتحرش أو السرقة أو التحايل في استخدام المرافق العامة خارج نطاق القانون الصارم الذي يتقيد به السكان الأصليون.
ولقد دفعني الفضول لمراقبة تجليات الظاهرة في المدن السويدية مثلا، حيث وُجدت في زيارة خاصة، ولن تجد صعوبة تذكر، ذلك أن مهاجري الربيع العربي يفصحون عن أنفسهم في المقاهي والحافلات ومراكز التسوق الضخمة، فهم وحدهم دون غيرهم من يتحادثون بأصوات مرتفعة، ويوجهون نظراتهم الحادة كما لو أنهم في حالة اكتشاف دائم لأي جديد ومثير، وقد ظهر بينهم خبراء في الإرشاد على المداخل والطرق المختصرة للحصول على المزايا.. ولقد اقترنت بهم كل المخالفات بما في ذلك قطع إشارات المرور، وفي وقت الإجازة الصيفية حيث الشلل التام في العمل الحكومي والشرطي تحديدا، اضطرت الحكومة إلى توجيه حملة إعلامية تدعو فيها السكان إلى الانتباه لحراسة منازلهم، حيث لم يعد لدى البوليس ما يكفي من القوة البشرية للقيام بمهام الحد الأدنى من الحماية.
على نحو بديهي، ظهر قلق مرعب لدى الطبقة السياسية والحزبية من تنامي ظاهرة العنصرية، ومضاعفة قوة ونفوذ القوى المنتمية إليها، إلا أن قدرات الأحزاب الليبرالية المعارضة والحاكمة تراجعت كثيرا في وقف نمو هذه الظاهرة التي تستخدم الهجرة كسبب مستمر لتطوير نفوذها ومضاعفة عدد ممثليها في البرلمانات والمجالس المحلية. وقد خصصت الحكومات التي لا تزال تتعامل مع دفق الهجرة بموضوعية ووفق قيم حضارية وإنسانية وحتى استثمارية، مئات الملايين من اليوروهات لاستيعاب المهاجرين وتنفيذ برامج طموحة لدمجهم في الحياة، إلا أن مثل هذه السياسة تبدو بطيئة المردود، ذلك أن المهاجر الذي تأصلت في وعيه وسلوكه ثقافة مختلفة، لا بد وأن يجد صعوبة في التأقلم والاندماج مع شعوب تختلف عنه في كل شيء، إضافة إلى أن نسبة كبيرة من المهاجرين تنظر إلى حقوقها أكثر بكثير مما تنظر إلى واجباتها مما يعقد الأمور كثيرًا ويهدد سياسة الدمج والاستثمار بالفشل في جوانب كثيرة.
هنالك أمل يراود المجتمعات التي ابتليت بدفق الهجرة فوق النسب المتوقعة، وهو توقف الحروب الداخلية التي أدت إلى هذه الظاهرة، لعل المهاجرين يعودون إلى أوطانهم بنسبة تسمح بالسيطرة على من سيبقون بعد حصولهم على الامتيازات والجنسيات والتعليم المجاني في أرقى المعاهد والجامعات، إلا أن قلقا يرافق هذا الأمل.. وهو احتمال ألا يرجع كثيرون إذا ما سألوا أنفسهم بعد أن تضع الحروب الداخلية أوزارها، لماذا نعود؟ وهل من ضمانة من ألا تنشأ حرب جديدة في وقت ما؟ ولقد قال لي أحد الذين لن يعودوا... "إن مخيم اللجوء في السويد أكثر إغراء من قريتي ومدينتي فما بالك بالجنسية وما يترتب عليها من مزايا تبدو خيالية في بلادنا".إن الربيع العربي بوقائعه المأساوية ضرب أساسات المواطنة العربية، وهذا أخطر ما في الأمر.
نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني