يتعامل الجميع معه على أنه فقد عقله بعد أن أنهى دراسته الجامعية، لم يحتمل عقله البشري استيعاب مركبات الكون وأرقامها التي تعجز الحواسيب عن متابعة أصفارها، قاده ذلك إلى السجن في مصر في منتصف السبعينات قبل أن يعود إلى قطاع غزة بوساطة من الصليب الأحمر، لم يجد في الوطن من يحتضنه ويقدم له العلاج، انضم بملابسه الرثة وشعره الكثيف إلى قائمة المتسكعين في الشوارع ممن فقدوا رشدهم، تلك القائمة التي تتمدد بشكل مضطرد بفعل تعقيدات الحياة ومتطلباتها التي يعجز الكثير عن مجاراتها، دون أن يشكل ذلك ناقوساً يدق بقوة جدران المؤسسات الحاكمة، المجتمع وضعه في قائمة من فقدوا صوابهم وهو فبل عن طيب خاطر تلك المكانة.
كنت استمع إليه وهو يقتحم الحديث عنوة ليدلي بدلوه دون أن يكترث لتعليقات الحضور قبل أن ينسل من بينهم، فالجميع يتعامل معه بما يجسده مظهره العام، لا أحد يكترث لما يقوله إلا بما يحمله أحياناً من سخرية، الملفت للإنتباه أنه دوماً ما كان يسترشد في كلماته بمعطيات علمية وكثيراً ما كان يستند على آيات قرآنية يبني عليها فكرته، لم يسعفه كل ذلك في تغيير الصورة التي رسمها المجتمع له، كما لم يسعفه مظهره الذي ينبيء عن حالته حين انقض عليه جنود الاحتلال وأوسعوه ضرباً إبان الإنتفاضة الاولى لأنه وصفهم بما هو فيهم.
كانت الحياة مشلولة بالكامل في أحد أيام اضراب الإنتفاضة الاولى حين جلس يحاورني في فلسفة الإضراب، شدني بحديثه مما دفعني لسؤاله لماذا لا يعمل على الخروج من المكانة التي وضعه المجتمع فيها، كأن السؤال فجر بداخله الماضي المسكون في حاضره، بدأ يقص روايته ويطيل التمعن في مفرداتها كأنه يلتقطها من جب عميق، بعد أن أنهى دراسته الجامعية عمل في مركز يختص بدراسته، لم ينكر أن عقله في محطات معينة يخرج عن السياق، وجد نفسه نزيل المعتقل قبل أن يتم ترحيله إلى الوطن، لم يحظ يومها بالرعاية المطلوبة، يؤمن بأن حالته المرضية كانت تحتاج إلى القليل من الرعاية الطبية التي لم تقدم له، فاجأني حين قال بأنه يريد أن يعافب ذويه على تقصيرهم في علاجه، هو يرى في مظهره العام والمكانة التي وضعه المجتمع فيها عقاباً لهم.
بينما كان يسرد حكايته توقف طويلا ً حين مرت سيدة تمسك بيد طفلة صغيرة بمكان ليس ببعيد عنا، عاود الحديث بكلمات كأن حروفها يسير كل منها بمعزل عن الآخر، تلك الطفلة ابنتي ومن تمسك بيدها كانت زوجتي، اعتفدت حينها أنه دخل في محطة الجنون، ابتسم وهو يقرأ تعابير وجهي التي تفصح عن عدم تصديقي لما قاله، حينها ذكر لي اسمها وتاريخ ميلادها، بادرته بالسؤال إن كانت إبنته تعرفه، فال لا تعرفني والأفضل لها ألا تعرفني على الأقل في مرحلة طفولتها، لو حاولت الإقتراب منها كي أحضنها أو أقدم لها قطعة حلوى سيدب الخوف والفزع فيها، لذلك لا أحاول أن أرغمها على صورة لوالدها لا ترغب في رؤيتها، نهض فيما كان يحاول بإبتسامتة أن يهزم ألمه.
ما زال المجتمع يضعه حتى يومنا هذا في المكانة التي وجد نفسه فيها يوم أن عاد للوطن، يقسو المجتمع عليه حين يحاصره بجنون ليس فيه، فيما يفتح المجتمع ذراعيه لمن يحاول أن يسكن فينا الجنون، الصورة التي نراها ليس بالضرورة أن تعبر عن محتواها، دوماً ما تكون هنالك صورة غائبة عنا قد تكون أجمل بكثير من تلك التي نراها.
[email protected]