حرصت أن ألبي دعوة صديق لأن المناسبة تأتي ضمن مراسم الفرح التي تسبق الزواج، سيما وأننا بحاجة لأن نسمح للفرح بأن يحل ضيفاً علينا بين الفينة والأخرى في ظل المنغصات الكثيرة التي تحيط بنا، وثانياً لأن صديقي اراد في أمسية فرحة أن يبتعد عن النمط المتداول من الغناء الذي تتناطح فيه الكلمات مع الموسيقى فلا يسكن منهما شيئ في النفس، حيث استعاض عن ذلك بإستحضار لوحة من التراث الفلسطيني "الدحية"، والتي تعود بنا إلى البيئة البدوية التي نشأت فيها في نقب فلسطين، قبل أن تنتفل منه إلى الدول المحيطة بنا.
تتشكل لوحة الدحية من صف يأخذ الشيب والشباب مكانهم فيه، ويقف أمامهم رجل يقود دفة الغناء يطلق عليه الحادي أو البداع كونه يبتدع الكلمات التي ينتقيها، حيث يعتمد على ارتجال الكلمة دون أن يكون للنقل مكانة سوى ما يتعلق بالنغمة المتحكمة فيها، وفي كثير من الأحيان يقود الدحية رجلان يردا على بعضهما بكلمات يحكمها السجع في لوحة يطغى عليها جانب المبارزة، فيما يكتفي صف الرجال بدور الجوقة التي تحافظ بكلماتها القليلة التي تعيد ترديدها على الجسر المشترك بينهما.
بغض النظر عن التغيير الطفيف الذي أصاب الدحية على مدار العقود السابقة، والتي لم تعد كلمات المديح والثناء حكراً عليها حيث وسعت كلمات الذم والهجاء مساحتها، إلا أنها تمضي وسط أجواء من الفرح وحسن الإستقبال من قبل الجمهور، وبطبيعة الحال ما كان يمكن للدحية أن تنأى بنفسها بعيداً عن الأجواء السياسية التي تخيم على فلسطين، ومن البديهي أن يفرض الإنقسام وتداعياته حضوره، حيث يقود الرجلان مبارزة يستحضر كل منهما ما يطيب له من مفردات مديح وثناء لونه السياسي وتلك المرتبطة بذم وهجاء اللون الآخر، ورغم ما تحمله الكلمات من نقد لاذع إلا أنها تبقى بعيدة عن لغة التخوين والتعهير التي أزكمت انوفنا على مدار سنوات الإنقسام، وألحقت بالغ الضرر بالقضية الفلسطينية ونحن نفتش من خلالها عن مكاسب فئوية ضيقة.
الملفت أن الجمهور يتفاعل بصدر رحب وسط أجواء من الفرح، سواء إتفق مع ما يقال أم اختلف معه، الواضح أن مساحة نقد الحالة الفلسطينية بمكوناتها المتشابكة تتوسع في الدحية، دون أن تفسد أو تعكر أجواء الفرح، وهو ما تعجز عن تحقيقه البرامج الإعلامية التي تحمل عناوين مختلفة وتتحول حلقاتها إلى حلبة مصارعة حرة لا تضبطها قيم أو أعراف، بل أن البعض منها يعتمد بالمقام الأول على تشجيع الضربات تحت الحزام، ويتمخض عنها ما من شأنه أن يسمم الأجواء الملبدة.
انفضت الدحية بكل ما حملته من مبارزة طالت كلماتها الانقسام وتداعياته، ذلك الجرح الغائر في خاصرة الوطن، تضمنت الكثير من المديح والثناء والأكثر من الذم والهجاء، وفي ذات الوقت حافظت على أجواء الحب والفرح وهو ما تعجز دوماً عنه البرامج الإعلامية من فئة الرأي والرأي الآخر.
د. أسامه الفرا
[email protected]