من المهم جدًا تأجيل عقد المجلس الوطني، ولكن هذه الخطوة لا معنى لها إذا لم يتبعها قرارٌ بتشكيل لجنة تحضيرية تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، بحيث يشارك فيها جميع فصائل العمل الوطني والإسلامي، وشخصيات وطنية مستقلة، وممثلون عن الشباب والمرأة والشتات بما يتناسب مع وزنهم ودورهم، وتكون مهمتها عقد مجلس وطني خارج فلسطين، ليشكل عقده مدخلًا لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة والنهوض بالوضع الفلسطيني من الوضع الكارثي الذي يعيشه إلى مستوى التحديات والآمال والطموحات الفلسطينية.
ليست المنظمة طرفًا أو معسكرًا أو حزبًا، وإنما كيانٌ وطنيٌ يضمّ الجميع، فهي كانت ويجب أن تبقى الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني أينما تواجد، وهي بعد أوسلو وتأسيس السلطة قُزِّمت وجُمِّدت ولم تتغير وتتجدد لتتسع للأفكار والحقائق والقوى الجديدة، خصوصًا بعد أن تخلّت «حماس» عن مساعيها لإيجاد منظمة تحرير جديدة أو موازية، حين شاركت في «إعلان القاهرة» العام 2005 الذي رسم خارطة طريق تم تنفيذ جزء منها، بينما أُهمِلت الأجزاء الأخرى، لا سيما ما يتعلق بتفعيل المنظمة وإصلاحها وضم القوى التي خارجها إليها.
لا يكفي إعلان «حماس» استعدادها المشاركة في المنظمة، وإنما عليها الموافقة على أسس العمل المشترك، والتخلي عن أي نزعة للهيمنة والإقصاء والتفرد، وتغليب كونها جزءًا من الحركة الوطنية على كونها امتدادًا فلسطينيًا لجماعة الإخوان المسلمين.
بالرغم من نصّ كل من «إعلان القاهرة» و»وثيقة الأسرى» (الوفاق الوطني) و»اتفاق مكة» وحكومة الوحدة الوطنية و»اتفاق المصالحة» و»إعلان الدوحة» و»بيان مخيم الشاطئ» على إعادة إحياء مؤسسات المنظمة، إلّا أنّ هذا الأمر لم يتم لأسباب عدة محلية وخارجية، أهمّها على الإطلاق إعطاء الرئيس و»فتح» الأولوية لاستعادة قطاع غزة من سيطرة «حماس»، مع أن أقصى ما عرضوه عليها في المقابل أن تُقبل كأقلية في السلطة والمنظمة، شرط أن توافق على برنامج المنظمة وقيادة «فتح» لها.
في المقابل، أرادت «حماس» الاحتفاظ بسيطرتها على غزة، والمشاركة في المنظمة ضمن إحياء نظام المحاصصة الفصائلي وإعطائها حصة تناسب حجمها، أي أنّ «حماس» تكرر ما سبق أن شهدناه في لبنان عشية وأثناء الحرب الأهلية حين كان يقول لسان حال القوى الانعزالية اللبنانية «ما لنا لنا وما لكم لنا ولكم».
يكمن مفتاح إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية في تراجع الرئيس و»فتح» خطوة إلى الوراء، من خلال الاستعداد للمشاركة ووقف الهيمنة والتفرد والاستئثار، ووقف الرهان على ما يسمى «عملية السلام» والمفاوضات الثنائية، وكذلك في تراجع «حماس» خطوة إلى الوراء والاستعداد للتخلي عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، ووقف الرهان على التحالفات والمتغيّرات العربية والإقليمية والدولية، مقابل أن تصبح شريكة كاملة في المنظمة والسلطة على أساس الاتفاق على أسس الشراكة السياسية، وبلورة برنامج سياسي جديد يجسد القواسم المشتركة.
إذا لم يغادر طرفا الانقسام مربع التمسك بالمصالح والبرامج الفردية والفئوية بالرغم من اتضاح المأزق الذي تمر به القضية الفلسطينية والذي يعاني منه الجميع من دون استثناء؛ فلا بديل من بلورة تيار سياسي شعبي وطني ديمقراطي مستقل مؤمن بالشراكة السياسية الحقيقية، وينمو بشكل متعاظم ويكون عابرًا لكل التنظيمات، ويضم جميع العناصر والجماعات الحريصة على تحقيق المصلحة الوطنية، التي تقوم على قناعة راسخة بأنّ الوحدة ضرورة لا غنى عنها وليست مجرد خيار من الخيارات.
لا تنفع الوحدة على أساس بقاء النظام القديم على قدمه، ولا ترقيعه وتحسينه فقط، فهو وصل من السوء إلى درجة أن أي تحسين له قد يؤدي إلى انهياره تمامًا، إذ لا مفر من تغييره بشكل شامل على أساس وطني وديمقراطي، لا سيما أنه أوصلنا إلى الكارثة التي نعيشها، والتي لا يقلل من وقعها بعض الإنجازات المهمة التي كان آخرها رفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة والاعتراف الدولي بالدولة، بينما الأقصى وفلسطين (الأرض والإنسان والقضية والمؤسسة) تتآكل وتضيع رويدًا رويدًا تحت وقع العدوان والاستيطان والعنصرية الإسرائيلية، التي أُفلِتت من عقالها وفُتِحت شهيتها جرّاء الضعف والانقسام والتيه الفلسطيني، وما يجري في المنطقة العربية من تغيير للأولويات وحروب وتقسيم البلدان وصعود الإرهاب والإثنية.
تأسيسًا على ما سبق، من المهم وضع رؤية شاملة تُرْسَمُ على أساسها خارطة طريق، فلا تكفي خطوة هنا أو هناك، مثل الدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو إجراء الانتخابات، أو تفعيل الإطار القيادي المؤقت أو غير ذلك من الخطوات؛ إذا لم نجب عن أسئلة: أين نقف؟ وماذا نريد؟ وكيف نحقق ما نريد؟
بعد الإجابة عن هذه الأسئلة يمكن أن تكون الدعوة إلى عقد مجلس وطني مهمة جدًا، لأنها من المفترض أن تكون محطة فاصلة لإنهاء الانقسام وتوحيد الشعب (كل الشعب وليس الفصائل فقط) بمختلف قواه وكفاءاته وإبداعاته في مجرى واحد لإنجاز الحقوق الوطنية المتمثلة بحق تقرير المصير والاستقلال والعودة، ومساواة جماهير شعبنا في أراضي 48 كحل مرحلي إستراتيجي على طريق الحل الجذري التاريخي للقضية الفلسطينية.
على المجلس الوطني القادم أن يضم في عضويته أعضاء جددًا بما يتناسب مع الخارطة السياسية والاجتماعية الجديدة، وذلك عبر ضم الفصائل التي لا تزال خارج المنظمة إليها، ومن خلال مطالبة جميع الفصائل عند اختيار ممثليها في المجلس الوطني أن تأخذ بالحسبان اختيار أعضاء جدد من الشباب والمرأة ومختلف تجمعات الشعب الفلسطيني، ومن أصحاب الكفاءات والخبرات والالتزام والانتماء الوطني، وكذلك المنظمات الشعبية والنقابية التي عليها أن تجدد ممثليها في المجلس الوطني، وأن تلتزم بإجراء الانتخابات بشكل دوري، وأن يتم اختيار بدلًا من المتوفين وهم كثر، أعضاء جدد يمثلون القطاعات والتجمعات المختلفة.
المجلس الوطني القادم مطالب باتخاذ قرارات أهمها:
أولًا. تغيير شكل السلطة الوطنية ووظائفها والتزاماتها بما ينسجم مع الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، ومع تجاوز إسرائيل لكل التزاماتها في «اتفاق أوسلو» وملحقاته. وهذا يتطلب تحديد مكانتها وعلاقتها مع منظمة التحرير، إذ تكون أداة من أدواتها لا «الابنة التي أكلت أمّها»، ووضع خطة قابلة للتنفيذ، وليس قرارات إنشائية تبقى حبرًا على ورق، توفر متطلبات القدرة على إلغاء أوسلو وإنهاء التزاماته السياسية والاقتصادية والأمنية.
ثانيًا. وضع إستراتيجية وطنية موحدة تتجاوز الإستراتيجيات المعتمدة سابقًا التي لم تحقق الأهداف الفلسطينية، وما يقتضيه ذلك من التخلي عن الرهان على الولايات المتحدة الأميركية والمفاوضات الثنائية وما يسمى «عملية السلام»، والتركيز على تغيير موازين القوى، أساسًا على الأرض الفلسطينية، وعبر ترتيب البيت الفلسطيني من خلال جمع كل الأوراق المحلية والعربية والإقليمية والدولية، وتوظيفها في مجرى الكفاج الوطني لإنجاز الحقوق الفلسطينية.
ثالثًا. يبحث المجلس الوطني في أن تكون اللجنة التنفيذية هي حكومة الدولة الفلسطينية، أو توصي بتشكيل حكومة وحدة وطنية تكون جزءًا لا يتجزأ من رزمة كاملة تضمن شراكة حقيقية في كل شيء.
رابعًا. تقوم اللجنة التنفيذية المنبثقة عن المجلس الوطني القادم بتوزيع مقرّاتها وأعضائها وأعمالها على مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني وحيثما يمكن ذلك، ولا تُبقي كل شيء تحت رحمة الاحتلال كما هو الحال الآن.
خامسًا. إعادة الحياة للمجلس الوطني واللجان والدوائر المختلفة في المنظمة لكي تلعب دورًا فاعلًا وتتجاوز حالة الشلل الذي تعانيها منذ توقيع «اتفاق أوسلو» وحتى الآن.
سادسًا. انتخاب المجلس المركزي واللجنة التنفيذية بما يضمن مشاركة الفصائل التي لا تزال خارجهما، وتوسيع العضوية من المستقلين الذين يتم اختيارهم من القطاعات والتجمعات التي يمثلونها وليس من قبل الفصائل.
سابعًا. إدخال بنود جديدة على النظام الأساسي للمنظمة، والعمل على إدخال مواد جديدة على القانون الأساسي للسلطة، بحيث يتم انتخاب نائب لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وانتخاب نائب لرئيس السلطة الفلسطينية (الدولة)؛ ليتم الانتقال من العهد القديم إلى العهد الحالي من دون فوضى واقتتال وفلتان.
ثامنًا. تشكيل لجنة تحضيرية من خلال المجلس الوطني القادم، تكون وظيفتها التحضير لعقد مجلس وطني جديد، يكون من مهماته إقرار ميثاق وطني وبرنامج سياسي وأسس الشراكة السياسية. كما يلتزم بما تم إقراره من قبل اللجان الفلسطينية المشكلة وفق «اتفاق القاهرة» للمصالحة الوطنية، بحيث لا يزيد عدد أعضاء المجلس الوطني عن 350 عضوًا، وإعادة النظر في أسس اختيار الأعضاء، على أن يكون اختيار ممثلي التجمعات من قبل التجمعات نفسها، سواء بالانتخابات أو التوافق، وإلزام الاتحادات والنقابات الشعبية والمهنية بإجراء الانتخابات بشكل دوري، وإخضاع ممثلي الفصائل للانتخابات لعضوية المجلس الوطني، وتشكيل لجان للرقابة السياسية والمالية، خصوصًا على أعمال الصندوق القومي الفلسطيني، وصندوق الاستثمار.
هاني المصري
15 أيلول 2015