حين أطلق قادة الاحتلال مقولتهم بأن الجيل الثاني سوف ينسى القضية، وبالرغم من التقاعس العربي في اتجاه تحرير الأرض، واعتراف العالم بدولة الاحتلال، كان الرد الفلسطيني بعزيمة شباب آمنوا بالحرية وبفلسطين أنه لابد من فعل أي شيء من أجل ذلك كله، فكانت القنبلة الأولى، انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، لتهزم اليأس ولتعيد الأمل لكل فلسطيني في الشتات ولتؤكد على أن فلسطين قضية وثورة حاضرة في الوجدان وفي الفعل الثوري والعسكري والسياسي، وولدت فتح، وكأن القضية قد ولدت من جديد، وبالرغم من أن كثيرين كان انتماؤهم لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" إنتماءً لإرادة البقاء والنضال، إلا أنهم رسخوا هذا الانتماء في الشتات وفوق الأرض المحتلة، بإيمانهم بالمبادئ التي انطلقت بها الحركة والأهداف الاستيراتيجية التي قامت عليها.
انطلقت فتح لكي تلغي كل محاولات التغريب والتغييب والإلغاء، التي فرضتها ظروف الهزائم العربية في 1948، وهذا ما عُرف باستعادة الهوية الوطنية، لشعب يؤمن بكيانه وجغرافيته، وأطلق المؤسسون الأوائل إشارة فتح، وأصبحت حاملة للواء الوطنية والكيان الفلسطيني في الشتات وكان الهدف هو ارض المعركة " فلسطين المحتلة"، وكان الالتحام وكانت التعبئة الوطنية في ظروف تراجعت فيها الحركات القومية واليسارية والإسلامية، وصارت فتح عنوان كل فلسطيني وكل بيت وكل فعل وكل مؤمن بالحرية والاستقلال وتحرير الأرض.
إن هدف أي شعب وقع تحت الاحتلال هو إنهاء الاحتلال وإقامة دولته المستقلة، هكذا تفهم حركة فتح المعادلة في ظل التناقضات والتحديات بأنواعها، وبالتالي فإن فتح ليست حزبا سياسيا وليست مجموعات، بل هي حركة تشمل كل مكونات شعبنا الفلسطيني دون التقيد بأيدلوجية، بل كان الكفاح المسلح هو انبعاث للهوية والإرادة الشعبية والوطنية، فالتقت كل طبقات الجماهير، في المنافي البعيدة وفي القرى المحاصرة وفي المدن المحتلة، فلم تكن مسافات البعد عن فلسطين تَحُوُل دون الانتماء وتعزيز الوجود الفلسطيني، والفتحاوي ودعم الصمود وشيوع الفكرة وامتدادها في كل بلاد العالم حيث يوجد عربي فلسطيني، وحتى أنه غير الفلسطينيين آمنوا بفتح الفتح والعنوان الوطني وقاتلوا مع فلسطين وكان لهم الحضور في كثير من مراحل الثورة.
لقد كانت القوى الفلسطينية والتطلعات للعودة تتقيد بقوانين كل دولة على حِدة، وكانت القيود تحول دون القيام بكل ما هو فلسطيني خالص، وانطلقت فتح لكي يكون القرار الوطني الفلسطيني المستقل هو الحافز والهدف أمام تراجع العرب عن نصرة القضية وتبني العمل المقاوم المسلح ضد (إسرائيل)، فكانت الجبهات العربية "دول الطوق" صامتة، وأجبرت الثورة الفلسطينية هذا الصمت أن يتحول إلى انفجار واقتحام وعمليات نوعية، حولت العواصم العربية إلى ميادين بحث عن هؤلاء الأبطال وقيادات فلسطين، وكان العنوان دائما منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة فتح كبرى الحركات فيها، فتحولت بفعل الإيمان بالفكرة والفعل الصادق والوطني إلى الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا الفلسطيني في كل أماكن تواجده، فكانت معركة الكرامة التي تحولت أنظار العالم كله الى هؤلاء الفدائيين الأبطال، وانضمام الآلاف إليهم في وقت قصير.
وكان لابد من فعل سياسي متقدم، ففتحت قيادة فتح آفاق الدبلوماسية السياسية، وصنعت قنوات التواصل، وفي العام 1974أجبرت العالم أن يستمع بوضوح لصوت فلسطيني سياسي عسكري، يخِّير العالم بين البندقية الحاضرة وغصن الزيتون المنشود، وبعد حرب بيروت الصمود الأسطوري لقوات الثورة الفلسطينية، وبعد أن "تبعثرت" هذه القوات في المنافي وبعيدا عن فلسطين، كان لابد من نقل المعركة الى ارض المعركة "فلسطين" وكانت الإشارة من عبارة قالها القائد العام للحركة الشهيد ياسر عرفات وهو مغادرا بيروت بعد انتهاء معارك لبنان أن وجهتنا القادمة الى القدس، فمن آمن بالكفاح المسلح وكان زعيم كل الشعب، هو نفسه من رسم معركة السياسة، والانتقال إلى قلب فلسطين، وعودة القوات المبعثرة لتكون نواة للسلطة الفلسطينية، حيث التحرير والحرية والدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وكان للانتفاضة الأولى "أساسيات المقاومة الشعبية وأدبياتها" الحضور الرئيس في نجاح السياسة الفلسطينية، واستشهد أمير الشهداء مهندسها وهو في طريقه إلى نقل المعركة إلى أرضها الحقيقية/ ونجح وكانت الإشارة واضحة "لنستمر في الهجوم"، فكانت فتح الطلقة والرصاصة والسياسة والدبلوماسية، وتدويل القضية ووصولها إلى مرجعيات الأمم المتحدة.
بقلم د.مازن صافي