فاجعةٌ كبيرةٌ ومصيبةٌ عظيمة، تلك التي أصابت المسلمين وألمت بهم في جميع أنحاء العالم، خلال موسم الحج لهذا العام، بعد الحادث الأليم الذي أدى إلى مقتل عشرات الحجاج نتيجة سقوط رافعةٍ عظيمةٍ عليهم، في أيام الحج المطيرة، التي شهدت زوابع ورياح شديدة، وطقساً خريفياً غير متوقع، أحدث اضطراباً كبيراً، وتسبب في فوضى مريعة، أثناء وجود الحجاج بالقرب من الكعبة المشرفة، رغم أن عدد الحجاج لهذا العام أقل من السنوات التي سبقت، ربما لانشغال الأمة والشعوب في همومها ومشاكلها الداخلية، التي أورثتهم حروباً ضروساً واقتتالاً مريراً، وقتلاً وخراباً، ولجوءاً وهجرةً، وضياعاً ورحيلاً، شغلتهم عن الحج وأرجأته إلى أعوام قادمةٍ.
لم يكد يستفيق المسلمون من هول المصيبة التي حلت بهم، والكارثة التي نزلت عليهم، حتى منوا بفاجعة مقتل المئات من حجاج بيت الله لحرام، دهساً بالأقدام، وخنقاً تحت الأجساد، نتيجة التدافع المحموم، والاستعجال غير المبرر، ومخالفة التعليمات والسير عكس الاتجاه، وعدم الوعي والدراية، والاستخفاف وغياب الحكمة، أو نتيجة الإهمال وعدم اليقظة، أو قلة الخبرة وضحالة التجربة، أو التساهل وعدم المسؤولية، والتوكل وعدم الأخذ بالأسباب، أو غير ذلك من الأسباب الكثيرة التي قد تفضي عنها نتائج التحقيق في الحادث الأليم.
لا شك أن الحزن عظيم، والمصاب جلل، والأسى كبير، والفاجعة قاسية، إلا أن الحادث قد وقع، والقدر قد سبق، ومن كانت منيته في الديار المقدسة فهي منيته المكتوبة، وقدره المحتوم، وخاتمته التي لا مفر منها، فلا ينبغي البكاء طويلاً على من فقدنا، وإن كان الحزن يسكن صدورنا ويعتصر قلوبنا، وقد يكون من الصعب نسيان الحادثة، أو تجاهل تداعياتها النفسية الكبيرة، فإنهم أعزة وأحبة، وأهلاً وأقارب، وإخواناً وأشقاء، أياً كانت صلتنا بهم فإنهم مسلمون، تربطنا بهو وشائج عظيمة، وأواصر محبةٍ كبيرة، وقد خرجوا عبادةً ليعودوا، لا ليقتلوا غرباء عن أوطانهم، ويموتوا بعيدين عن أهلهم.
لا يجوز أمام هذه المصيبة التي عصفت بنا جميعاً، أن نتسابق إلى تحميل السلطات السعودية كامل المسؤولية عما حدث، وكأنها هي التي تسببت بها عمداً، وارتكبتها قصداً، وخططت لها مسبقاً، وإن كانت تتحمل مسؤوليةً كبيرة عما حدث، فهي المسؤولة عن هذه الشعيرة العظيمة، وعليها تقع مسؤولية الترتيب والتنظيم، والإعداد والتجهيز، وضمان السلامة والأمان، وهي إذ تقوم بهذا العمل فإنها لا تكلف ولا تغرم، بل تتشرف به وتفخر، وتتيه به وتزهو، فقد أكرمها الله به وميزها عن غيرها، وقد كان العرب قديماً يقتتلون على السقاية والسدانة، أيهم يناله هذا الشرف، ويحوز على هذا السبق، فيذهب دون غيره بالفخر، ويذيع صيته بين القبائل بالشرف، وتكون له الصدارة الدائمة، والاحترام الواجب، والتقدير اللازم، والكلمة المسموعة، والرأي الرشيد.
إلا أن من كانت ترسو عليه السدانة أو السقاية، فإنه كان يهتم ويقلق، ويخاف ويجزع، ولا يهدأ في النهار ولا ينام في الليل، فهي مسؤولية عظيمة، وواجبٌ كبير، وامتحانٌ صعبٌ وخطير، لهذا فقد كان صاحب الحظ أو الابتلاء يستعد لها ويتهيأ، ويتجهز بما يلزم المهمة وما يحتاج إليه الحجيج، فيكد ويتعب، ويجد ويجتهد، ويعمل ويسهر، ومن لم يكن عنده ولدٌ وغلمانٌ، وعبيدٌ وأجراء، وأسيادٌ وأشرافٌ، وخدمٌ يقومون بالعمل، ويسارعون في الخدمة، فإنه كان يعتذر عن المهمة، ويتنازل عنها لغيره ممن هو أقدر وأفضل، وإلا فإنه يفضح ويكشف، وتسحب منه السدانة أو السقاية، وتنزع عنه الحصانة، وإلى غيره القادر تسلم وتسند.
لكن المملكة العربية السعودية، وعلى مدى العقود الماضية، أثبتت أنها تقوم على خدمة بيت الله الحرام، وتبذل أقصى وسعها في توسيع الحرم وتهيئته، وفي توفير كل الخدمات الممكنة، وتقديم التسهيلات المرجوة، فلا ينبغي توجيه اللوم لها، وتقريعها وتحميلها المسؤولية دون غيرها، واتهامها بالتقصير كأنها هي التي أجرمت وتسببت في هذه الحادثة وما سبقها، بل ينبغي أن نذكر لهم فضلهم، وأن نعترف بجهودهم، فقد أعطوا الحرم الكثير من اهتمامهم، وأنفقوا على مشاريعه الكثيرة، وتوسعاته العديدة، وخدماته الكبيرة، ولم يقتصر جهدهم على الحرم، بل امتد إلى المشاعر المقدسة في منى والمزدلفة، وفي جبل عرفات والمسجد النبوي في المدينة المنورة.
وهي جهودٌ نرى آثارها بالعين، ونقف على انجازاتها باليد، ونلمس نتائجها على زوار بيت الله الحرام، راحةً وطمأنينةً، وسهولةً ويسر، فقد اتسع الحرم حتى التحقت به جبالٌ، وتيسرت المواصلات حتى تنافست فيها السيارات والقطارات، وكثرت الخيام وتنوعت، وأصبحت لا تشتعل ولا تؤثر فيها النيران ولا تصيبها الحرائق بأضرار، وتطوع عشرات آلاف الجنود للخدمة والتوجيه، والمساعدة والرعاية، والإنقاذ والإسعاف، والحماية والتدخل السريع، وساهمت طياراتٌ ومراكز إسعاف، وسياراتٌ وأماكن إيواء، وغير ذلك مما تدركه عين الحاج ولا تنكره عاماً بعد آخر.
لهذا ينبغي أن نقف أمام هذا الحدث المصيبة وغيره بمسؤولية كبيرةٍ، دينية وأخلاقية، وأن نضع تقوى الله سبحانه وتعالى نصب عيوننا، وحياة أمتنا أمام ناظرينا، وأن نكون أمناء وصادقين في التعامل مع هذه الحادثة، ودراسة أسبابها ومعرفتها، والبحث في سبل تجنبها وتجاوزها، فهذه مصيبةٌ لا ينبغي أن نستغلها في خدمةِ أهدافٍ أخرى، سعياً لتسجيل أهدافٍ، أو تحقيق إصاباتٍ، أو جني مكاسب سياسية بعيدةً عن هموم المسلمين الدينية.
بل يجب على كل قادرٍ على تقديم العون والمساعدة أن يبادر بها، ويستعجل في تقديمها، فكرةً ومشروعاً، ونصيحةً واقتراحاً، وخيالاً وإبداعاً، وأعتقد أننا كمسلمين بجميع أطيافنا وبمختلف جنسياتنا، قادرين على أن نوجد حلولاً، وأن نبتكر وسائل حماية ووقاية، فلو أن كل دولةٍ قدمت نصحها، وأبدت استعدادها للمساهمة والمشاركة في تأمين الحج كل عامٍ، أقله لحجاج بلادها ورعايا أوطانها، فإننا بإذن الله نستطيع أن نتجاوز هذه المحنة، ونضمن عدم تكرارها أو غيرها.
عظم الله أجر هذه الأمة، وكان معها في مصيبتها، وعوضها خيراً ممن فقدت، وبارك لها فيمن أبقى، وألهم ذويهم الصبر والسلوان، ورحم الله شهداءنا ومن فقدنا، وأسكنهم فسيح جماته، وجعلهم جميعاً من أهل الفردوس الأعلى، وقد رحلوا إليه بعد حجٍ وعدهم فيه بالقبول، وذنباً من بعده مغفوراً، فاللهم تقبلهم شهداء، واحفظ من بعدهم أرواح المسلمين وأبدانهم.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 27/9/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]