هناك تعريفات عدة للسياسة، ولن ندخل في تلك تناول تلك التعريفات حيث يحتاج ذلك لمقال ودراسة أخرى، ولكن ما نريد قوله إن جانب من هذه التعريفات يتعلق بكون السياسة فن المؤامرة. وذلك لأن جوهر السياسة هو المصلحة، وتحقيق المصالح لا يتم بالنوايا الطيبة، والمعاملات الأخلاقية سواء للأفراد أو الجماعات. وأن واقع السياسة للأسف ليس المرجعيات الأخلاقية والقيمية بل هي في الواقع تعتمد على المبدأ الميكافيلي، شئنا أم أبينا. وبالتالي فإن السياسة تقوم على مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة. وأن السياسة هي فن القوة وكيفية استخدامها وتوظيفها. وقد تعددت أنواع القوة الآن مع التقدم الإنساني الذي هو في الوقت ذاته يقوم على التغول الإنساني. فلم تعد القوة فقط تعتمد على القوة الخشنة التي تقوم على الجيوش والصدام المباشر، أو القوة السياسية والاقتصادية، فهناك الآن القوة الناعمة التي تقوم على قوة الدبلوماسية والقوة الإعلامية والقوة التكنولوجية. حيث تحول هذه الأنواع من القوة إلى أدوات وآلات للهيمنة والنفوذ وتحقيق المصالح.
ودوما نتباكى نحن العرب أو المسلمين حول تأمر الآخرين، ونتحدث عن إشكاليات سايكس بيكو وانعكاساتها، ونتحدث عن التحضير لسايكس بيكو جديدة. نعود ونكرر أن السياسة هي فن التآمر، وأن تآمر الغرب على الشرق هو تآمر تاريخي مر بمراحل عدة منذ عهد الإمبراطورية المقدونية وصولا للمشروع الصهيوني وانتهاء بالسيطرة الأمريكية على القرار والهيمنة في القرن الواحد والعشرين. ولكن التساؤل يبقى أين نحن من التآمر. فإذا تآمر عليك الآخرون أليس من حكمة السياسة ومنطق وفقه الواقع أن ترد الصاع صاعين، أم تقضي الليل والنهار وأنت تتهم الآخرين بالتآمر ولا تحرك ساكن لحماية جبهتك الداخلية، ورد التآمر بتآمر أكثر دهاء وأشد قوة.
علينا أن نقرأ ماضينا جيدا حتى نفهم الواقع ونرسم المستقبل. فالاستعمار الأوروبي عندما خطط لاتفاقية سايكس بيكو كان يهدف إلى تدمير أي إمكانية لتحقيق الوحدة العربية، ومن هنا التقت المصالح الفرنسية البريطانية في تقسيم المشرق العربي إلى وحدات قطرية. وجاء في مراسلات الحسين مكماهون أن العرب سوف يطلبوا نصيحة بريطانيا العظمى فقط أي أن بريطانيا أرادت أن توصل للعرب بأنهم قاصرين عن حكم أنفسهم بسبب وقوعهم لفترة طويلة تحت الحكم العثماني، ولذلك هم بحاجة لدولة متحضرة تأخذ بيدهم وتعلمهم الحكم. فنفذت من خلال النصيحة والإرشاد إلى تطبيق نظام الوصاية والانتداب. ومن هنا علينا أن ندرك أن خشية بريطانيا وفرنسا من وحدة العالم العربي ولاسيما مصر وبلاد الشام هو من كان وراء مخطط سايكس بيكو. وبناء على ذلك ساهمت السياسية الاستعمارية في خلق وعد بلفور ودعم الحركة الصهيونية في حالة من تلاقي المصالح السياسية والاقتصادية والدينية بين المسيحية الأوروبية واليهودية الصهيونية. وتم ضرب أي مشروع للوحدة العربية لاسيما وأن الحركة القومية العربية هي من قادت ثورة الشريف حسين ضد العثمانيين. وأن الفكرة القومية كانت هي السائدة في تلك الفترة. ومن هنا كان لابد من ضربها من قبل فرنسا وبريطانيا. وهذا ما حدث من تقسيم شبة الجزيرة العربية إلى دويلات قطرية. وعملت بريطانيا وفرنسا خلال استعمارهما للشرق على تعميق الطائفية والقبلية التي تشكل بنى أساسية في المجتمع العربي. ولكن لم تقسم بريطانيا وفرنسا المشرق على أسس طائفية ما عدا لينان الذي استغلت فرنسا خصوصيته المارونية في بناء دولة طائفية مسيحية.
ورغم قيام الدولة القطرية بعد الحصول على الاستقلال، وضياع وتيه الشعور القومي على المستوى الرسمي والذي تم احتوائه في مؤسسة هزيلة هي جامعة الدول العربية فإن الدولة القطرية لم تستطع معالجة الإشكالية في بناها القبلية والطائفية، فكان هدف النظام السياسي الحاكم هو السيطرة على مقاليد الحكم حتى لو أدى ذلك لعقد تحالفات طائفية أو قبلية. ولم تعمل الدولة القطرية التي قامت على أسس وطنية بمواجهة التحديات البنيوية في المجتمع العربي بل عملت كما أسلفنا على تعزيزها. وبدلاً من بناء المجتمع المدني القائم على المواطنة بين الجميع بغض النظر عن الخلفية القبلية أو الطائفة الدينية. ومن هنا فقد فشل العرب في تحقيق الدولة القومية الواحدة حتى بعد الحصول على الاستقلال، وتم تكريس الدولة القطرية الوطنية، وتقديس حدود سايكس بيكو. وبدلاً أن تكون الثورة على الاستعمار تحمل شعارات قومية وحدوية فإن شعارات الاستقلال حملت في جوهرها شعارات وطنية قطرية. وكذلك فشلت كما قلنا الدولة القطرية في تحقيق وحدتها الوطنية التي رفعتها كشعار ولم يتم تحقيقها على أرض الواقع بفاعلية. فمهموم الدولة الوطنية يحتاج إلى ثقافة جديدة في بناء المجتمع أولاً وعلى ثقافة جديدة في بناء العلاقة بين قوى المجتمع والنظام السياسي. وهنا حدث الفشل على الصعيدين، فلم يتم إحراز عقد اجتماعي بين قوي المجتمع يتم بموجبه إلغاء القبلية والطائفية التي تشكل البنى الأساسية للمجتمع بحيث يكون ولاء الفرد للمجتمع المدني المكون على أسس سيادة القانون والسلم الأهلي والمواطنة والمساواة والكرامة ... الخ. كما حدث الفشل في بناء علاقة سليمة بين المجتمع والنظام السياسي القائم الذي وإن اتخذ شعار الوطنية والوحدة الوطنية والمجتمعية فإنه بهدف الحفاظ على السلطة وتركيزها في يد حفنة هي في أغلبها حفنة عسكرية تقوم على الأمن والسلطوية وليس على المواطنة والتعددية. ومن هنا حدث تحالف بين السلطة وبين بنى قبلية كما حدث في ليبيا واليمن والأردن والسعودية ودول الخليج العربي أو مع بنى طائفية كما حدث في سوريا والعراق بالرغم من أن الحزب الحاكم في كلتيهما كان حزبيا قومياً في ظاهره وشعاراته.
ولذلك حدث الفشل متعدد الأبعاد في الدولة القطرية الوطنية التي لم تتحول إلى دولة قومية موحدة رغم كما قلنا قيام أحزاب قومية بالوصول إلى الحكم في سوريا والعراق، ورغم حمل الفكر الناصري أيضاً البعد القومي. ولم تحقق الدولة القطرية وحدتها الوطنية وتعالج إشكالية بناها القبلية والطائفية.
وحدثت الإشكالية أيضا ليس مع النخبة الحاكمة التي لم تستطع معالجة قضية الدين في البناء الطائفي، ومدى تأثير الدين في السياسة لاسيما الدين الإسلامي. وتعاملت مع هذه القضية ضمن المعالجة الأمنية وليس المعالجة السياسية ضمن حل إشكالية البنى القبلية والطائفية. فإن النخب الثقافية أيضا لم تستطع معالجة البنى القبلية والطائفية، فهناك من النخب من بقي متقوقعا ضمن إطاره القبلي أو الطائفي، وبقي ينظر لهذه الأطر دون أن يوجه جهده ومناظرته من أجل تعزيز المجتمع المدني القائم على الحوار والسلم الأهلي والمواطنة. وهناك من النخب الثقافية من حاول الهرب من البنى القبلية والطائفية باتجاه الفكر القومي والفكر اليساري أو خلط فكريا بين الفكر القومي والفكر اليساري ضمن ما عرف بالفكر القومي الاشتراكي. ولكن هذه الفئة المثقفة بقيت تحلق في بروج عاجية ولم تقم بمعالجة جوهرية للبنى القبلية والطائفية والسعي الجاد لبناء المجتمع المدني المتعدد الذي يستوعب الجميع. ولم تستطع النخب القومية واليسارية من استيعاب تحديات الواقع سواء القبلية أو الطائفية أو البعد الديني الخاص في الدين الإسلامي. فلم يتم النظر للدين الإسلامي نظرة واقعية يتم فهم بناه وأبعاده وديناميكيته في البنى العقلية والثقافية العربية فتم النظر للدين الإسلامي كتراث ليس إلا أي تراثا رجعياً يجب رميه وراء الظهر دون الالتفات إلى ما يحمله هذه الدين من فكر متجدد ديناميكي يجب أن يتم احتوائه ضمن منظومة القيم المجتمعية والسياسية. وأن يتم معالجة هذا الفكر معالجة معاصرة تقوم على التجديد، وعن ضرورة تأسيس وتأصيل فقه إسلامي يتم من خلاله الجمع بين تحقيق مقاصد الشريعة مع توسيع مداها وأبعادها لتشمل المقاصد المعاصرة للإنسان من حرية وكرامة وعدالة ... الخ وذلك ضمن مرجعية مؤسساتية فقهية معاصرة تلبي مطالب العباد ومطالب العصر. ووجه الفكر القومي واليساري نظرة عدائية للدين وليس نظرة تقوم على الفهم ولذلك كان المثقف في الخمسينيات والستينيات في القرن العشرين هو المفكر القومي أو اليساري أو القومي التقدمي أو اليساري. وتم استقدام الفكر اليساري وخلطه بالفكر القومي ضمن تشكيلة أيدلوجية شابها الإشكالية البنيوية، وتم الابتعاد عن العناصر المكونة للمجتمع العربي والتي تتطلب نوعا من الفهم والتقاطع. ولذلك لم ينجح الفكر اليساري بعد سقوط المنظومة الشيوعية لأنه فكر غريب تم زجه قصرا في بنية العقل العربي الذي لم يحتمل حتى معالجة بناه وإشكالياته التاريخية. وتم التعامل مع الدين كفكر رجعي ماضوي يستوجب العداء، أو كما قلنا سالفاً كتراث ينبغي الإقرار بوجوده ضمن إطار ماضوي فقط.
ومع تراجع الفكر القومي واليساري وعجزه عن تطوير الواقع ومعالجة إشكالياته، وفي الوقت نفسه فشل الدولة القطرية الوطنية في تحقيق التقدم والتنمية في المجتمع حتى لو قامت على شعارات قومية أو يسارية، تقدم الإسلام السياسي طارح شعاره " الإسلام هو الحل". وتم استقطاب الكثيرين ممن صدموا بهزيمة الفكر القومي أو اليساري. وشكل الإسلام السياسي حالة حشد وجذب لاسيما بعد نجاح الثورة الإيرانية وبعد فشل الأحزاب القومية واليسارية في تحقيق شعاراتها وبرامجها، وتحولها إلى أحزاب سلطوية قمعية تمارس على أرض الواقع ما يتعارض مع شعاراتها وبرامجها.
ويمكن القول أن الاستعمار بقي في جوهره مع لبس أثواب وشعارات جديدة. وبقي الغرب ينظر للشرق كساحة لنفوذه وهيمنته السياسية والاقتصادية لاسيما وأن العالم العربي وخصوصا المشرق العربي المتمثل في شبه الجزيرة العربية ما زال يمثل المكان الرئيس للمصدر الرئيس للطاقة في العالم. وحيث إن التآمر هو سمة السياسة الدولية فإن العالم الغربي والولايات المتحدة التي لها مصالح استراتيجية في العالم العربي تخطط دوما للاستفادة من البنى والهياكل الضعيفة للمجتمعات العربية. وحيث إن الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها الدول الأوروبية الغربية قد أدركت حتى خطورة بعض الأنظمة القطرية عليها مثل نظام الرئيس العراقي صدام حسين، والنظام السوري، وحتى مصر كدولة قطرية وطنية فبدأ المفكرين الاستراتيجيين الغربيين، ممن يسهمون في صناعة الفكر والقرار الأمريكي والأوروبي وعلى رأسهم برنارد لويس، وصوئيل هنتنغتون، وفوكوياما وغيرهم في رسم خطط جديدة للمشرق العربي. فوضع برنارد لويس مقالة في تقسيم العالم العربي تقسيم جديد يخدم المصالح الغربية، ويزيد ضعف العالم العربي ويبقيه مستباحا للهيمنة والنفوذ الأمريكي والغربي للقرن الواحد والعشرين، حيث يتم تقسيم العالم العربي ليس تقسيم جغرافي وفق دول وطنية وقطرية كما حدث في سايكس بيكو بل تقسيم جغرافي قائم على البعد الطائفي. ومن هنا بدأت عملية تقسيم الدول القطرية ضمن نظرية الفوضى الخلاقة لكوندليزا رايس إلى كنتونات طائفية متصارعة.
وأمام الهزات التي أصيبت فيها الدول القطرية ذات النظام السلطوي القمعي الفاسد فإن الدولة القطرية لم تعد تشكل عنصر حماية للفرد ومن هنا تقوقع الفرد ثانية داخل الإطار القبلي والطائفي لحمايته، وعجزت النخب الثقافية حتى من تدعي التقدمية مرة ثانية في تجاوز القبلية والطائفية والاتجاه نحو تكوين مجتمع مدني يقوم على فكرة التعددية والمواطنة بل أن النخب نفسها قد وقعت أسيرة القبلية والطائفية، وتراجعت عن أفكارها وشعاراتها التقدمية مثل الشاعر السوري أدونيس الذي أصطف بجانب طائفته العلوية والنظام السوري السلطوي القمعي. وأيضاً العديد من النخب الثقافية القومية واليسارية المصرية التي وقفت لجانب العسكري في إجهاض العملية الديموقراطية المدنية في مصر. ولذلك يشهد العالم العربي دويلات وكنتونات طائفية في اليمن وسوريا والعراق بعد أن تم تقسيم السودان على أساس طائفي. كما تشهد دولاً قطرية أخرى صراعات قبلية مثل ليبيا أو قبلية طائفية مثل أيضا العراق واليمن. وأمام فشل النظم القطرية في الحفاظ على وحدتها، وأمام فشل النخب العربية في معالجة بنية المجتمع الثقافية والقبلية والطائفية، وأمام فشل النخب في معالجة علاقة الدين بالدولة في فكر الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة فإن الساحة السياسية تبقى مفتوحة لتطبيق المخططات والمؤامرات الأمريكية والغربية.
أ. د. خالد محمد صافي