بعد انقضاء عقدين على تفاهمات اوسلو، ليس هنالك ما يؤكد أنه كانت لدى القيادة الفلسطينية "رؤيا" في الكيفية التي سيكون عليها شكل "فلسطين، الدولة أوالكيان السياسي" الذي ستثمر عنه اتفاقات أوسلو البائسة.
لقد استطاعت هذه القيادة ان تزرع في عقول البعض، اننا مُقدمون على دولة ستضاهي "سنغافورة" اقتصاديا، "والسويد" ديمقراطيا، و"امريكا" بما فيها من فرص. ليكتشف هؤلاء، رويدا رويدا، إن شيئا على ارض الواقع لم يتحقق، وان الاحتلال بقي جاثما على الصدور، لا بل ويزداد ثقلا بفعل الممارسات اليومية على الارض، وهذا ما جعل من امكانية تحقيق اي حلم بالحرية والاستقلال أقرب إلى الاستحالة منه الى الواقع.
المثير في الامر، ان القيادة "بمجملها"، صدقت ما رددت أو "أوهمت" نفسها به، وصارت تتعامل مع "وهم الدولة" كواقع موجود وثابت على الارض، وصار لدينا رؤساء حكومات ووزراء... الى غير ذلك مما يمكن ان يتخيله المرؤ من عناوين ودوائر "ومؤسسات حكومية"، هي في واقع الحال لا يمكن لعجلتها ان تدور سوى من مكتب قريب يدار من قبل ضابط لا ندري ان كان رفيعا، او "غليظا"، لا يبعد عن مركز القرار إلا بواقع دقائق معدودات.
وصار لدينا ما يشبه "العاصمة" التي لا نعرف كنهها، "ادارية، سياسية أم اقتصادية!؟"، تعيش فيها طبقة من محدثي النعمة، ومن الذين لولا "نعمة" اوسلو، ما كان لهم ان يبقوا في ذاكرة الناس والمجتمع، ولاستمروا بالعيش على الهامش كما هو واقعهم الحقيقي الذي كان قبل اوسلو.
في "عاصمة" القرار الفلسطيني، تجد كل الاشياء "مصطنعة" فهي برغم كل ما فيها من عمران، ومبان شاهقة متلاصقة تتدافع في كل مكان، إلا ان العشوائية فيها تبدو ظاهرة تماما مثلها مثل عشوائية القرارات والسياسات المتبعة في الواقع الفلسطيني.
حالة الوهم التي عاشها الانسان الفلسطيني، أو التي أُريدَ له ان يعيشها، امتدت لتصل كل فرد في الارض المحتلة، بحيث اصبحنا نعتقد باننا مقدمون على واقع سياسي واقتصادي وقانوني وانساني مختلف تماما عما كان عليه الحال قبل اوسلو.
وتمت "صناعة" طبقة سياسية تخلت في المجمل عن قيمها ومباديئها، وصارت تبحث عن ذواتها، وتحسين اوضاعها، امتهنت التنظير لسياسات وبرامج في مجملها تروج لسلام موهوم، هو في الواقع ليس سوى "السلام الاقتصادي" الذي طالما تحدث عنه نتاناياهو وسواه من قادة الاحتلال، حيث من غير الممكن الحديث عن تنمية واقتصاد مستقل ومتطور في ظل وجود قوة احتلالية تجثم على صدر الارض واصحابها.
وفي خضم هذا كله، ساهمت دول عديدة عربية وغربية، في تعميق هذا الوهم، الذي تبنته عن “بكرة ابيه” شخصيات ومؤسسات تحولت الى نهر جارف، تعج بشتى انواع المثقفين وذوي الميول المختلفة "اليسارية بخاصة"، مستفيدة من الظروف الجديدة التي اوجدها اتفاق البؤس، وتدفق اموال المانحين المشبوهة بشكل عام، بحجة دعم عملية السلام وايجاد حل للصراع.
واقع الحال، انه وبعد عقدين من "زمن اوسلو"، وبعد انتفاضة عارمة ضد الاحتلال، وبعد آلاف الساعات من المفاوضات، يصل "المواطن الفلسطيني" إلى قناعة بان امكانية حل الدولتين، وحصول الشعب الفلسطيني على حق تقرير المصير واقامة الدولة وعاصمتها القدس، غير واردة، وان ما جرى خلال عقدي اوسلو، كان الأسوأ بالنسبة للارض المحتلة، بحيث اصبحت القدس شبه "مُهَوّدَة"، وزاد عدد المستعمرين الى حوالي ثلاثة ارباع مليون صهيوني، وحتى المسجد الاقصى، الذي كان يشكل حصنا عصيا، اصبح تحت التهديد المباشر اكثر من اي وقت مضى.
بالمقابل، وبعد عقدين من اوسلو، أو ما اسميه "تفاهات وليس تفاهمات اوسلو"، ما زال بعض ساستنا يراهن على امكانية الوصول مع عصابات العدو إلى صيغة سلمية وتعايشية، واقامة الدولة العتيدة.
لا شك انه وخلال السنوات الاخيرة، حصلت فلسطين على مد دولي مختلف أو مميز، من خلال الاعتراف بها كعضو مراقب، واخيرا تم رفع العلم الفلسطيني في باحة الامم المتحدة، إلا ان هذه لا تعتبر سوى خطوات رمزية، صحيح ان لها دلالاتها، ولكن معروف ايضا، ان مثل هذه الخطوات، لا يجب ان "تعمينا" عن الحقيقة، وهي ان دول العالم بعامة تعترف بالشعب الفسطيني وحقوقه المشروعة، ولم يصادف يوما ان تم تقديم قرار للجمعية العامة ولم يتم التصويت عليه بالاغلبية لصالحنا، إلا ان ذلك لم يغير وهو لن يغير من الواقع شيئا، برغم ما لذلك من رمزية وفضح لدولة الاحتلال.
دولة فلسطين، موجودة عمليا ومعترف بها منذ اعلان الجزائر عام 1988، وهي وبعد الاعتراف بها في الجمعية العامة كدولة مراقب، موجودة وما زالت لكن على الورق، وهي موجودة قبل ذلك بكثير، اي منذ قرار التقسيم عام 1947.
علينا جميعا ان نعترف، إن المشكلة الرئيسية ليس ما يتم اتخاذه من قرارات لصالح القضية الفلسطينية، وانما هي بما يجري على الارض، فبينما تتراكم القرارات الدولية نصرة لفلسطين وحريتها، إلا ان ممارسات الاحتلال على الارض، تقوض كل تلك القرارات، وتحول دون حل الدولتين، وتشطب حق العودة وتهود القدس وتهدد الاقصى ، والى غير ذلك من ممارسات.
من المهم والضروري ان نعترف قبل غيرنا ان ما تقوم به دولة الاحتلال، يحول دون اقامة الدولة العتيدة، وان علينا ان نتصرف بناء على ذلك، وان نواجه الواقع، وان نتوقف عن ايهام انفسنا والعالم، بانه ما زال هنالك بارقة امل، أو بقايا ضوء في "نفق" هو في الحقيقة غير موجود إلا بخيالات من راهن على اقامة السلام مع القتلة في حكومة تل ابيب.
حالة الوهم التي يريد بعضنا ان يعيشها وان يسحبها علينا جميعنا لكي نعيشها، يجب ان تتوقف، وان تتم مصارحة الناس في الوطن والشتات، بان لا امكانية لقيام مثل هذه الدولة، وان حكاية النفق والضوء في نهايته، إذا كان من الممكن الحديث عنها بداية اوسلو، فهي لم تعد كذلك بعد عقدين من "زمن اوسلو"، وعليه لا بد من البحث عن ادوات جديدة، واجتراح وسائل بديلة من اجل الوصول الى دولة فلسطين العتيدة، الحقيقية، وليست الموهومة .
بقلم/ رشيد شاهين