لم يكن مفاجئا ان يقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) ليخاطب المجتمع الدولي في الذكرى السبعين لتأسيس الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك باعتبارها أرفع منبر، واضعا إياه أمام مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية مطالبا إياه بالحماية الدولية لشعبه وبحقه في الحرية وحق تقرير المصير وبالمساعدة في إنهاء مأساته وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب 67 ، وبتحمل مسؤوليته الأخلاقية ، بعد المجازر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني من حرق عائلة دوابشة والى حرق الطفل محمد ابو خضير وكذلك قتل الطفل محمد الدرة في غزة اضافة الى مجازر غزة والمجازر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني منذ مجزرة دير ياسين عام 1948 الى هذه اللحظة وما يتعرض له الاقصى والمقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس وفلسطين وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عدوان يطال الشجر والحجر والبشر ، اضافة الى ما يتعرض له الاسرى .
حسنا اعلن الرئيس محمود عباس ، في خطابه ، إن منظمة التحرير الفلسطينية ، ومؤسساتها بحل من اتفاقيات أوسلو ، على ضوء تفلت اسرائيل من الاتفاقيات ، وعدم التزامها بكل ما جاء بالاتفاقيات التي وقعت بيننا ، ولا يمكن استمرار الحال على ما هو عليه ، لأن شعبي يتعرض بشكل مستمر للاعتداءات، ودقه ناقوس الخطر، لما يحدث في القدس، حيث تقوم قوات الاحتلال وقطعان مستوطنيها باقتحاماتها المتكررة والممنهجة للمسجد الأقصى المبارك، بهدف خلق وضع قائم جديد، وتقسيم زماني، يسمح للمتطرفين المحميين من قوات الاحتلال، وبمرافقة وزراء ونواب كنيست، بالدخول للمسجد في أوقات معينة، بينما يتم منع المصلين المسلمين من دخوله في تلك الأوقات، ومنعهم من أداء شعائرهم الدينية بحرية ، اضافة الى استخدام قوات الاحتلال قواتها الغاشمة، لفرض مخططاتها للمساس بالمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، خاصة المسجد الأقصى، لأن ذلك سيحول الصراع من سياسي إلى ديني، ويفجر الأوضاع في القدس وبقية الأرض الفلسطينية المحتلة.
ان الحماية الدولية مطلب وطني للشعب الفلسطيني الى حين إنهاء الاحتلال الظالم لأراضيه، ولذا فإن خطاب الرئيس الفلسطيني في الأمم المتحدة وضع بعض النقاط على الحروف من خلال لاءاته التي فرضتها المرحلة قي ظل استمرار العدوان والاستيطان والاحتلال الإسرائيلي وبعد وصول ما يسمى المفاوضات برعاية امريكية الى طريق مسدود على مدار اكثر من عشرين عاما استنادا إلى الحقيقة التي تنص على استحالة العودة إلى دوامة مفاوضات تعجز عن التعامل مع جوهر القضية ولا يكون هدفها إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية.
وامام ما تقدم فان المواجهه الأميركية – الفلسطينية حتمية، وقد تأخرت كثيرا، وحاولت القيادات الفلسطينية المقاومة والمفاوضة على حد سواء تجنبها دائمأ، فهي ليست خيارا فلسطينيا، لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبدو مصرة على فرضها على الشعب الفلسطيني.
من هنا نرى انه منذ بداية الصراع العربي الصهيوني عموما، ومنذ تاريخ نكبة الشعب الفلسطيني وإقامة دولة العدو الصهيوني على ارض فلسطين التاريخية، نرى انه كان من المهم التركيز على حق العودة للاجئين من ابناء شعبنا الى ديارهم التي هجروا منها وليس حل عادل لهذه القضية حسب المبادرة العربية ، فلا يجوز اغفال هذه القضية وخاصة في ظل ما قدم من التضحيات في سبيل هذه القضية التي تعتبر جوهر القضية الفلسطينية، لاننا نعي إن المخططات الساعية إلى استئصال وشطب قضية اللاجئين الفلسطينيين لم تتوقف أبدا عبر التعاون المتواصل بين القوى الاستعمارية والامبريالية والحركة الصهيونية والقوى العربية الرجعية، فمنذ ذلك التاريخ لم تكن كل هذه المحاولات صناعة إسرائيلية بحتة، بل كانت منذ ولادة القضية، إنتاجا امبرياليا صهيونيا مشتركا، وفي هذه الزاوية يتبوأ الدور الأمريكي مكانة متميزة، عبر العديد من المشاريع الهادفة إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين، وتصفية الحقوق التاريخية لشعبنا منذ عشرينيات القرن الماضي حتى اللحظة الراهنة.
على أي حال، فإننا نقول بثقة، ان الوضع الفلسطيني الآن يتطلب التاكيد على قرارات الاجماع الوطني ، فلا يجوز القبول بمشروعية الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، وشطب الحقوق التاريخية بما فيها حق العودة.
في ظل ما تتعرض له مدينة القدس من حرب شاملة،فلا يحق لأي طرف فلسطيني ان يعلي شان المصلحة الفئوية او الحزبية فوق شأن المصلحة الوطنية العامة،فلا قيمة ولا معنى لأي دولة فلسطينية بدون القدس،فالقدس قلب فلسطين، ونحن نرى شعبنا في القدس يخوض معركته باعتباره حجر الزاوية في المواجهة التي تخاض دفاعاً عن الأقصى والمقدسات،دفاعاً عن الأرض ،دفاعاً عن البقاء والوجود والصمود والثابت على هذه الأرض
في ضوء أوضاعنا الفلسطينية الراهنة، لذلك فان الخيار يتطلب التمسك بالمقاومة بكافة اشكالها ، لأن " إسرائيل" ستظل "كيانا استعماريا غاصبا وعنصريا ، لان شعبنا يعلم انه لا يمكن ان تتفق ثقافته وتراثه مع الجار الذي نتحدث عنه لانه يحمل الأساطير الدينية والتوراتية لحساب الأهداف السياسية، وذلك على قاعدة أن الصهيونية هي الجانب القومي في اليهودية ، واليهودية هي الجانب الديني في الصهيونية ، وبالتالي فإن "إسرائيل" تحقيق سياسي وتجسيد عملي وسياسي للظاهرتين معا، في إطار العلاقة العضوية بين الحركة الصهيونية من ناحية، ومصالح النظام الاستعماري الرأسمالي من ناحية ثانية، وهذه العلاقة تؤكد على أن "إسرائيل" انطلاقا من دورها ووظيفتها ، لم تنشأ إلا لخدمة مقتضيات التوسع الرأسمالي.
وفي ظل تأكيد الرئيس في خطابه على رفض حكومات الاحتلال المتعاقبة لقرارات الشرعية الدولية، والذي يتم بكل وضوح بدعم القوى الاستعمارية وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية ، ولكن علينا ان لا نغفل حالة الخضوع النظام الرسمي العربي المتواطئ مع النظام الامبريالي من جهة ثانية، فهذا يستدعي منا استنهاض الحالة الفلسطينية من خلال استعادة دورها في النضال السياسي والكفاحي و توفير كل أسس الصمود والمقاومة في فلسطين وخاصة ان المقاومة حق مشروع للشعوب المحتلة اراضيها ، وبذلك فعلينا فعلا تنفيذ قرارات المجلس المركزي الاخير والتي ستكون الأكثر جذرية من خلال التمسك بالثوابت والأهداف الوطنية لشعبنا الفلسطيني ، لأن قضية الأرض وعودة أصحابها من اللاجئين الفلسطينيين إليها، تشكل جوهر القضية
الفلسطينية، كما أنها تمثل التجسيد الكثيف لمأساة الشعب الفلسطيني، وإنها تجسيد سياسي وإنساني وأخلاقي وعقدة أعصاب الصراع الفلسطيني في إطار الصراع العربي الصهيوني ،وبهذا المعنى أضحى الموقف من حق العودة ،وأي مشروع مطروح للحل السياسي، لا يتضمن حق العودة سينعكس سلبا على الوضع الفلسطيني برمته.
أن المهمة العاجلة امامنا الان وخاصة في ظل اعتراف مائة وستة وثلاثون دولة في العالم بفلسطين ، إعادة إحياء وتجدد الوعي بطبيعة الدولة الصهيونية، ودورها ووظيفتها كمشروع إمبريالي لا يستهدف فلسطين فحسب، بل يستهدف بنفس الدرجة ضمان السيطرة الإمبريالية على مقدرات الوطن العربي واحتجاز تطوره.
أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية، وان الوجود الصهيوني مؤسس لكي يكون معنيا بالوضع العربي، ولذلك فان الأمر الجوهري هنا يتعلق بمشروع للهيمنة والسيطرة على العرب هو المشروع الامبريالي الصهيوني، وهذا التحديد أساسي في وعي طبيعة الصراع كما في تحديد الحل الممكن.
أن الحديث عن حل الدولتين، وفق شروط العدو الإسرائيلي ، لا يشكل حلا أو هدفا مرحليا ، وإنما يمثل ضمن موازين القوى في هذه المرحلة تطبيقاً للرؤية الإسرائيلية الأمريكية، التي تسعى إلى مسخ وتقزيم هذا المفهوم وإخراجه على صورة دويلة مؤقتة، مفتتة ، ناقصة السيادة أو أي مسمى أخر لا يتناقض مع الشروط الإسرائيلية الأمريكية، رغم تأكيد الرئيس في خطابه على الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشرقية ، ما يستدعي من المجلس الوطني الفلسطيني في دورته القادمة التأكيد على الثوابت الوطنية والحقوق التاريخية ، واعتبار أن الصراع مع دولة العدو الإسرائيلي ، صراعا عربيا صهيونيا بالدرجة الأولى، لن يجد حلا إلا من خلال التفاف الشعوب حول فلسطين ، مع العمل على رفض التفاوض من اجل السلام وفق الشروط الإسرائيلية الأمريكية، لان ذلك سيكرس الهيمنة والسيطرة الأمريكية الإسرائيلية باسم أوهام " السلام " أو الحلول المحسومة لدويلة قابلة للحياة دون أي شكل من أشكال السيادة على الأرض ، ما يعني أن إدارة هذه المعركة من صميم مسؤولية جميع شعوب المنطقة وفي طليعتها شعبنا الفلسطيني.
انطلاقا من كل ذلك نرى ضرورة صوغ حل يقوم على أساس العمل من أجل أن تكون فلسطين جزءاً من دولة عربية ديمقراطية موحدة، عبر نضال شعبي عربي يكون الشعب الفلسطيني في طليعته .
ان شعبنا الفلسطيني الذي قدم الآلاف من قوافل الشهداء وفي مقدمتهم القادة العمالقة الرئيس الرمز ياسر عرفات والحكيم وابو العباس وطلعت يعقوب وابو احمد حلب وابو جهاد وابو اياد وسمير غوشه وابو علي مصطفى وعبد الرحيم احمد وابو عدنان قيسى وزهير محسن والشيخ احمد ياسين وفتحي الشقاقي وفضل شرورو مستمرا في صموده ونضاله رغم الانقسام الكارثي ، الأمر الذي يفرض على كافة الفصائل والقوى مزيدا من الوحدة ، ونحن نتطلع الى مواقف رؤوساء الارجنتين وفنزويلا والبرزايل وكوبا ودول امريكا اللاتينية وشعوب العالم و كل القوى الصديقة في العالم التي تقف الى جانب شعبنا وقضيتنا وهذا يستدعي استعادة روح النضال
الفلسطيني وأدواته وفق قواعد النضال التى ترسمها المجالس الوطنيه باعتبار أن الصراع مع هذا العدو هو صراع عربي صهيوني من الدرجة الأولى.
ومن هنا نرى ان على الاحزاب القوى العربية التي تقف اليوم في خندق مواجهة الهجمة الامبريالية والاستعمارية والارهابية التكفيرية ان تقف الى شعبنا الفلسطيني الذي يتعرض الى عمليات الإرهاب والتشريد والتعذيب والقتل والمعاناة على يد الحركة الصهيونية والقوى الإمبريالية منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم، ، واننا على ثقة بان هذه الهجمة العدوانية لم تنجح في اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه بالكامل، وفق المخططات التي رسمت لهذه الغاية.
ولذلك نقول ان على المجتمع الدولي ان يتحمل مسؤوليته بضرورة تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وفي مقدمتها القرار الاممي 194 ، والعمل من اجل استعادة شعبنا لحقوقه التاريخية والسياسية والسيادية في فلسطين ، رغم قناعتنا بان هذه الحلول مرهونة بتغيير موازين القوى، في ظل ما تعيشه المنطقة من تزايد واتساع الهيمنة الامبريالية على مقدرات وثروات شعوبنا العربية، والتي تشكل الأساس الرئيسي لتزايد واتساع عنصرية وصلف وهمجية "دولة" العدو الإسرائيلي.
لهذا نحن نفرح حين يرفع الرئيس الفلسطيني علم فلسطين لاول مرة، فوق مبنى الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك ، وفوق مكاتبها في كل أنحاء المعمورة، في الذكرى السبعين لتأسيسها، فأن هذا الحدث إنجازا عظيما ، حيث كان شعورنا وشعور شعبنا بالفخر غامراً ، لانه يوم فخر واعتزاز، لأن برمزية هذا الحدث تضفي حضورا قويا لقضية فلسطين أمام العالم كله، بل وتغيظ هذا المحتل المتغطرس وتحرجه. لكن المهم التأكيد على موقف الرئيس ابو مازن بأننا مصممون على وحدة أرضنا وشعبنا، ولن نسمح بحلول مؤقتة أو دويلات مجزأة، ونسعى لتشكيل حكومة وحدة وطنية تعمل وفق برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، والذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية وان دولة فلسطين ستستمر في مساعيها للانضمام للمواثيق والمنظمات الدولية كافة، وستمضي قدماً في الدفاع عن شعبها الواقع تحت الاحتلال عبر جميع الوسائل القانونية والسلمية المتاحة.
ختاما : نرى ان ما نتحدث عنه يدعم مضمون خطاب ألرئيس أبو مازن ، ونقول علينا ان نعمل على انهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الوطنية وحماية المشروع الوطني الفلسطيني والحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية الكيان السياسي والمعنوي والمثل الشرعي للشعب الفلسطيني من خلال تفعيل مؤسساتها على ارضية شراكة وطنية حقيقية ، والاستمرار في نضالنا الوطني من خلال المقاومة بكافة اشكالها حتى تحقيق اهداف شعبنا في العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس ، لأن هذه الانجازات على المستوى الدبلوماسي والمواقف الاممية اتت نتيجة الملحمة الوطنية التي صنعتها تضحيات شعبنا عبر مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى والمعتقلين في سجون العدو الصهيوني، وهي تجسيد للحظة تضامن حقيقي مع نضال شعبنا من أجل تحقيق أهدافه الوطنية المشروعة ، ونقول القدس كانت وستبقى البوصلة والرافعة لكل نضالات شعبنا، القدس مهما توحش وتغول الإحتلال بحق بشرها وحجرها وشجرها، فستبقى رمزا وعنوانا للصمود والتحدي بشبابها وشيوخها ونسائها وأطفالها باعتبارها عاصمة دولة فلسطين .
بقلم/ عباس الجمعه