عن المجلس الوطني الفلسطيني والمنظمة و… محسن إبراهيم!

بقلم: عماد شقور

أمّا وقد عاد الرئيس الفلسطيني أبو مازن من رحلته إلى نيويورك، بعد أن نجح في رفع العلم الفلسطيني، حيث أعلام دول العالم في الأمم المتحدة، مثبتا بذلك عودة فلسطين، رسمياً وعملياً ونهائياً، إلى الخريطة السياسية لعالم اليوم؛

وبعد أن ألقى كلمة فلسطين في الجمعية العمومية للامم المتحدة، التي كانت كلمة جيدة جداً، وكان بالإمكان تصنيفها على انها ممتازة، لولا أخطاء إعلامية، حاولت تحميلها اكثر بكثير مما تتحمله الظروف والمناسَبة والمكان، فإن العودة إلى ساحة الصراع العملي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني، لترجمة الوجود على الخريطة السياسية نهائيا، إلى وجود نهائي على الخريطة الجغرافية، تستوجب التعامل والتعاطي مع الواقع الفلسطيني على الارض، بما هو جدير به من جدية وعزم وسِعة أُفق، وسعة صدر أساساً.

فما الذي سيجده أبو مازن على ساحته في الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي؟ سوف يجد أمامه خبرين فلسطينيين: سيئ وجيد. الخبر السيئ هو أن دماً فاسداً يسيل في عروق الجسد الفلسطيني. أما الخبر الجيد فهو أن الجميع يعرفون ويعترفون بذلك، والأمر الأهم من المعرفة والاعتراف، أن هذا الجسد تعرض من قبل لمثل هذه المحنة مرات عديدة، وعانى منها كثيرا، ولكنه خرج منها في كل مرة معافى، بل أكثر قوة وصلابة وتماسكا مما كان عليه. ليس من باب نكء جراح اندملت، ولكن، من أجل أن نتعلم من تجاربنا السابقة، ونستخلص الدروس والعبر من تلك التجارب، لا سبيل أمامنا الا التذكير بتلك المحن، والتذكير بما كان عليه الحال عند بدء تكونها، وخلال فترة انفجارها، وما صار عليه الوضع بعد تجاوزها.

مع انتهاء حقبة "بيات شتوي" فلسطيني، استمرت أكثر من عقد ونصف العقد، منذ اطلاق "حكومة عموم فلسطين" عام 1949 وليدا غير مكتمل التكوّن، وغير قابل للحياة والتطور بالتالي، وحتى بدء مرحلة انطلاق الحركة الفلسطينية المعاصرة، في القمة العربية، التي عقدت في الاسكندرية عام 1964، التي انشأت منظمة التحرير الفلسطينية، بدأ صراع مرير بين تيّارين فلسطينيين، رأى الاول في الوحدة العربية طريقا لتحرير فلسطين، وتمثل ذلك التيار برئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري ومن حوله، وبحركة القوميين العرب، وبالفلسطينيين في حزب البعث، وغيرهم. أما التيار الثاني فقـــــد رأى في تحرير فلسطين شرطا لتحقيق الوحدة العربية، ومثلــــت هذا التيار حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح، التي حرصت على تأكيد الوطنية الفلسطينية في اسمها، وبدأت كفاحاً وطنياً مسلحاً، في مطلع عام 1965. إلا أن هذا التباين والصراع، انتهى بفعل الصدمة الهائلة لهزيمة حرب يونيو 1967، حيث تخلى الشقيري، رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، عن منصبه، لفاصلة رئاسية، هو يحيى حمودة، الذي سلّم قيادة العمل الفلسطيني لياسر عرفات (أبو عمار) الناطق الرسمي باسم حركة فتح، رمز الوطنية الفلسطينية والكفاح المسلح والقرار الوطني المستقل.

لم تمانع أي قوة فلسطينية فاعلة، تنحي قيادة النضال الفلسطيني بوجهه القومي، وتولي الوجه الوطني الفلسطيني قيادة هذا النضال، متمثلا بحركة فتح. وفي مقابل ذلك لم تمــارس فتح اي عملية انتقام ولا اقصاء لأيٍ من رموز المرحلة السابقة، بل أنها ســــعَت بجــــديّة إلى استقطاب كل الطاقات الفلسطينية، من دون استثناء، مع تركيز خاص على المستقلين، كما أفسحت المجال لحركة القوميين العرب، بعد أن شكلت هذه "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، لأن تكون شـــريكا حقيقيا وفاعلا في قيادة العمل الفلسطيني، ثم لم تمانع في اشراك الفصائل الفلسطينية الاخرى ذات الارتباط المعلن باحزاب وبدول عربية، في كافة اطر المنظمة. هكذا انتهت مرحلة معاناة الجسد الفلسطيني من دم فاسد، لتعاود المنظمة مسيرة النضال، بتصميم اكبر، وبجسم اشد تماسكا واصلب عودا.

لحقت بمرحلة الدم الفاسد تلك، مراحل شبيهة عديدة، واغلبها أصعب بكثير، إلا أن ضيق المساحة يلزمنا الاكتفاء بعيِّنة واحدة، ابتدأت مع انتهاء مرحلة بيروت، وكانت خطوتها الاولى بترتيب النظام السوري لانشقاق في فتح بهدف الهيمنة على القرار الفلسطيني، وتصاعد ذلك الضخ للدم الفاسد في عروق الجسد الفلسطيني، حتى وصل حد الاقتتال بالسلاح حول وداخل مخيمات شمال لبنان، ووصل التراشق الاعلامي حد تخصيص كامل غلاف مجلة الجبهة الشعبية "الهدف"، بزعامة الدكتور جورج حبش، لصورة واحدة هي صورة ابو عمار وكلمة واحدة هي "المنبوذ". وراهن كثيرون يومها ألا تلاقي، بعد كل ما تقدّم، بين المكونات الاساسية للمنظمة، ولا مجال مستقبلا لاستعادة تماسك السقف الفلسطيني الذي يظلل ويوحد جميع الفلسطينيين. إلا أن ما لحق بذلك من تطورات، خيب ظنون وتمنيات كل من يهمه الحاق الضرر بالنضال الفلسطيني وشق صفّه وشرذمة جهوده. وظل ابو عمار، معبّرا عن الأغلبية الكاسحة في فتح، دائم التكرار لتعبير "حكيم الثورة الفلسطينية"، كلما ورد اسم الدكتور جورج حبش. وبمساعدة عقلاء هادئين وحريصين على المصلحة الفلسطينية العليا، حول ابو عمار وحبش وحواتمة وابو العباس وغيرهم، وللتاريخ نسجل هنا الدور البارز والنشيط والمثابر للمناضل اللبناني الكبير محسن إبراهيم، وعدد من اصدقائه حوله، امكن تجاوز تلك المحنة الفلسطينية المؤلمة، وخرجت م.ت.ف. منها موحدة متماسكة صلبة، مستمرة في تشكيلها الذي يجمع الكل الفلسطيني، ويقود نضاله على جميع الجبهات.

صراع هذه الايام داخل البيت الفلسطيني اكثر تعقيدا، ففي كل ما سبق من تجارب خاضتها الحركة الفلسطينية، كان اساس الصراع محصورا بين وجهي قيادة العمل الفلسطيني: الوجه القومي، الذي تصدر العمل الفلسطيني بين عامي 1964 و1967، والوجه الوطني، (الذي تسلّم موقع الصدارة منذ عام 1967، وبشكل حاسم منذ معركة الكرامة الفاصلة في مارس في تاريخ العمل الفلسطيني، وترسخ ذلك رسميا وعمليا في اللقاء الاول بين زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر، والاخ ابو عمار وعدد من اعضاء اللجنة المركزية لفتح وممثل الحركة في مصر حينها، الشهيد هايل عبد الحميد). صراع هذه الايام يدور بين ثلاثة وجوه فلسطينية لا وجهين فقط، حيث عاد الوجه الاسلامي للتنافس على تصدر وقيادة العمل الفلسطيني، بعد توقف ابتدأ مع ايصاله الفلسطينيين إلى النكبة الكبرى عام 1948 وما افرزته تلك النكبة. كثيرا ما يكرر سياسيون حكمة تقول: "إن كنتم ثلاثة، ليس من الحكمة أن تكون منفرداً".

كثيرة هي الدلائل التي تشير، إلى أن قيادة العمل الفلسطيني، استشعرت خطر وقوعها في خانة "أن تكون منفرداً"، فعدلت عن التصعيد الذي لم يكن له ما يبرره، وأجّلت موعد انعقاد دورة عادية للمجلس الوطني الفلسطيني، ثلاثة اشهر او ربما إلى ابعد من ذلك بقليل، من دون أن ننسى أن هذا التأجيل جاء بعد النزول الآمن، من "دورة استثنائية"، او دورة "بمن حضر"، إلى دورة عادية، كان من السهل تأجيلها. هذه الفترة التي تفصلنا عن عقد دورة المجلس الوطني، حبلى بالمخاطر الجدية الملموسة. ولا سبيل، في اعتقادي، لنجاة الشعب الفلسطيني ولمنظمته الجامعة الوحيدة، الا بملء هذه المهلة الزمنية المحدودة، بنشاط محموم ومتواصل، لِوَصل ما انقطع. ذلك يستدعي التفكّر وسعة الصدر والترفع، بل والتراجع بكِبَرٍ عن ممارسات لم تكن ضرورية ولا نافعة. كثيرا ما يكرر الفلسطينيون تعبير "إكبَر له". اعرف أن ذلك صعب، ولكنني اعرف انه ضروري. ولست ممن يتمنون، او يرضون، او حتى يتحملون، أن يُربط انهيار وحدة الشعب الفلسطيني، واندثار منظمته الجامعة باسم رمز فلسطيني. واكرر بيت ابن الوردي في لاميته الشهيرة: "أن نصفَ الناسِ اعداءٌ لمن … وُلِّيَ الأحكامَ، هذا.. إن عَدَل". ولا ننسى أن مسؤولية من يتولى السلطة والأحكام، ليس "نصف الناس"، بل كل الناس.

أين أنت يا صديق كل الفلسطينيين محسن إبراهيم؟

٭ كاتب فلسطيني

عماد شقور