اليوم تكتب فلسطين بدماء شهدائها تاريخا جديدا في مسيرة النضال من خلال هبتها الشعبية بمواجهة الاحتلال وقطعان مستوطنيه ، وتعيد القضية الفلسطينية، الى واجهة الاهتمام ، لتؤكد انها قضية شّعب يقاوم ، وان كان هم الشعوب واحد، فالمصير والنّضالات ستكون حتما واحدة، وان مطالب الشعب الفلسطيني وحقوقه في العودة والاستقلال وتقرير مصيره وحقّه في العيش الكريم، بعدالة وحريّة وكرامة، واضحة ، ولا يمكن ان يقبل بأن العيش مع غدة سرطانية مهما كانت التحديات والظروف.
لذلك فان الهبة الشعبية التي تجسد الانتفاضة الثالث سوف تدخل التاريخ من أوسع أبوابه ، وسيكون لها نفس الموقع والمكانة اللذين احتلتهما انتفاضات شعبنا ، ليس في قولنا هذا أي قدر من المبالغة، فها هي الهبة الشعبية في الضفة والقدس، تواجه على مختلف الصعد الاحتلال وقطعان مستوطنيه بكافة الوسائل النضالية وبمقاومة شعبية جبارة ، ولجان شعبية ضاربة ، وكل ذلك يأتي استنادا لركام هائل من الخبرة النضالية ولشوط طويل تم قطعه على طريق بلورة "العامل الذاتي" الفلسطيني ،وهو الأمر الذي يبدو واضحا من مراجعة حجم التطور الذي طرأ على ارادة الشعب الفلسطيني وشبابه.
من هنا نرى اهمية اخذ الدور من جميع الفصائل والقوى والعمل على دعم الشعب الفلسطيني الذي يبتدع شبابه المنتفض دورا هاما ، وضرورة إيلاء المزيد من الجهد والاهتمام لسد الثغرات القائمة وأية ثغرات قد تنشأ هنا أو هناك، وخصوصا المستوى الوطني، في هذه العملية الكفاحية الطويلة، وليصار إلى إيجاد الصيغ المناسبة لضمان مشاركة جميع القوى والمجموعات والشخصيات في هذه الملحمة البطولية على الرغم من أية خلافات حدثت هنا أو هناك، هذه مهمة ينبغي أن تبقى ماثلة أمام اعين الجميع .
اليوم الهبة الشعبية تدخل كل محافظة ومدينة وقرية ومخيم في الضفة الفلسطينية والقدس ، حيث يشارك فيها الرجال والنساء والشباب والشيوخ والأطفال، من مختلف المهن والشرائح والفئات والطبقات، حيث يصنع الشعب الفلسطيني ملحمته الوطنية كل في ميدانه ووفق طاقاته واختصاصاته مقدما قوافل الشهداء والجرحى والاسرى ، ولقد اصبح واضحا للملأ أن الاحتلال بتهديداته قد أشهر عن إفلاس وسائل سيطرته ، ولم يعد بمقدوره الاستمرار جاثما على صدور شعبنا بنفس هذه الوسائل فلجأ إلى "العنف غير العقلاني" وأطلق التهديدات وهدم منازل الشهداء وجرح واعتقال عشرات الآلاف من أبناء شعبنا حتى يتسنى له البقاء في موقع السيطرة على الأرض والشعب.
ونحن اليوم على ثقة بشعبنا وبشكل لا يقبل الشك أو التأويل، أن إرادته الوطنية وتوقه للحرية والاستقلال والعودة ، أقوى من كل هذه الإجراءات الفاشية، وأنه لم يعد بمقدوره الاستمرار في الخضوع لشروط الاحتلال المذلة، وليس بمقدوره العودة للقبول بها، مهما غلت وتعاظمت التضحيات.
ولقد بات يحدونا كبير الأمل في أن نتيجة هذا الفصل الجديد من فصول الصراع الفلسطيني- الصهيوني والعربي- الصهيوني، سوف تحسم لصالح شعبنا وثورتنا وانتفاضتنا، منطلقين في ذلك من جملة اعتبارات أهمها:
أن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال قد تلمس بتجربته الحسية المباشرة خياره الوحيد خيار الاستمرار في النضال والمقاومة الشعبية والهبات المتواصلة والتي ستؤدي حتما الى الانتفاضة الثالثه ، وهذا ما أصبح يلقى التفهم والاستيعاب الكامل على المستويات الإقليمية والدولية، وباتت القضية الفلسطينية وليس الصراع العربي الصهيوني وحده، هي القضية التي تستأثر بالبحث والاهتمام، رغم إدراكنا العميق للعقبات والعراقيل العديدة التي مازالت تعترض سبيل الوصول الى الحقوق الوطنية المشروعة ، ورغم إيماننا التام بأن المسافة للوصول الى الدولة وإقامتها فعليا على الأرض مسافة طويلة ومريرة معبدة بالشهداء والتضحيات والعذابات.
أن الهبة الشعبية التي اتت نتيجة تدنيس المسجد الاقصى لأكثر من مرة ، تتطلب منا الحفاظ على المكاسب والانتصارات التي تتحقق ، والتي سوف تنتهي لصالح شعبنا وقضيتنا فهي المحرك للتعاطف العالمي وهي التي أيقظت ضمير العالم وهي التي ستوصلنا إلى شواطئ الحرية والاستقلال متظافرة مع جهود ونضالات شعبنا في الخارج ومع دعم وإسناد الأشقاء والحلفاء على المستويين القومي والأممي.
كثيرة هي الأسئلة والتساؤلات التي تطرحها الهبة الشعبية ، بعضها يتعلق بالاستراتيجية السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية وانهاء الانقسام الكارثي وبعضها يتصل بالتكتيك والشعارات واللحظة السياسية الراهنة.
وليس من شك في أن هذا أمر طبيعي وضروري، فالاستحقاقات التي داهمت العمل الوطني الفلسطيني كانت تفرض ضرورة إعطاء الأجوبة لماذا الاستمرار في الانقسام ، وهذا سؤال موجه لمن يريدون اتفاق تهدئة وفصل الجغرافيا الفلسطينية ، لأن البعض يهمه ضعف الحضور الفلسطيني وعندها يشغلها لاعبون آخرون ممن ينتمون ويتمنون الغياب الفلسطيني الكامل عن المسرح السياسي.
إن جوابنا على هذه الأسئلة والتساؤلات هو ألم تقرع الهبة الشعبية سؤال الأزمة التي تعانيها الساحة الفلسطينية ،لأن الوفاء لتضحيات شعبنا تتطلب طرح أسئلتها وإشكالياتها الاستراتيجية فضلاً عن التكتيكية والمرحلية، ولعل هذا وحده يوفر لشعبنا المدخل لبحث جدي في الخروج من أزمة حركة التحرر الوطني الفلسطينية، لكن ورغم كل ما يمكن أن يقال عن سمات جديدة ، إلا أن الأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن الأذهان للحظة واحدة هو أن العمق القومي لهذا الصراع سيظل قائماً ومطلوباً وضرورياً، فالعدو الصهيوني لا يهدد الشعب الفلسطيني وحده، ومهمة دحر المشروع الصهيوني لن تكون مهمة الشعب الفلسطيني وحده، وهذا الامر بات يفرض نفسه على الفلسطينيين انتزاع زمام المبادرة بأيديهم، تماما كما باتت توجب على فصائل حركة التحرر الوطني العربية وضع مهمة الخروج من نفق الأزمة التي تعيشها على رأس جدول أولوياتها.
إن اندلاع الهبة الشعبية في الضفة والقدس في وجه عدو فاشي متغطرس مدجج بالسلاح، يوفر الفرصة الموضوعية ، للبدء بولوج مرحلة المواجهة الجدية الشاملة ، والجميع يدرك الان ان ان الهبة الشعبية اندلعت كردة فعل شعبي وطبيعي على الاحتلال وسياسته وممارساته، وعلى انسداد الافق السياسي وفشل اتفاقات اوسلو وانكشاف استهدافات الاحتلال منها ومخططه لموضوعات التسوية النهائية كما اتضحت بشكل جلي في المفاوضات الثنائية على مدار اكثر من عشرين عاما دون نتيجة ، نعم تفجر الغضب الشعبي عقب قيام وزير الزراعة الصهيوني وجيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه الاستفزارية للمسجد الاقصى، ولادراك الشعب لرسالتها وتزامنها وتداخلها مع سياسات وممارسات الاحتلال ، وفي ظل تأزم الوضع الداخلي الفلسطيني بسبب الاستمرار في الانقسام الكارثي والحديث عن فصل قطاع غزة عن الضفة وفق هدنة طويلة الامد .
مما لا شك فيه نحن امام الهبة الشعبية ، امام نبض الضفة االفلسطينية والقدس لم يهدأ منذ أشهر وليلها تحول الى زمن للمواجهة المستمرة بين الفلسطينيين من جهة وقوات الاحتلال والمستوطنين من جهة اخرى، فما شهدته القدس من عمليات فدائية ألهبت مشاعر الفلسطينيين هنا ولاسيما وان قطعان المستوطنين تركوا من قبل حكومة نتنياهو ليعيثوا فساداً في الضفة الفلسطينية تحت مسمى دفع الثمن، فاصحاب الارض من شمالها الى جنوبها اتخذوا القرار بان يكفوا يد المستوطنين عن ارضهم، وهذا يعود بنا الى الذكرى السنوية لعملية اكيلي لاورو ، وكل ابطالها من شهداء واحياء فهم يستحقون اوسمة الشرف والعزة ، نتذكر الرمز الشهيد القائد الامين العام ابو العباس الذي كان له الدور الرئيسي في صوغ الرؤية النضالية للجبهه وبرامجها وتوجهاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية والجماهيرية، والذي لم يكن قائداً ورمزاً جبهاوياً فقط ،بل كان قائداً ورمزاً فلسطينياً وعربياً وأممياً بامتياز،وكان بمثابة البوصلة التي يسير بهديها كل المناضلين والثوريين، حيث شكلت عملية اكيلي لاورو البوصلة الاعلامية التي لاحقت الشهيد القائد تحت عناوين مختلفة .
ان عملية اشدود او اكيلي لاورو كانت من احد اهم العمليات البطولية العابرة للقارات التي اشرف عليها الشهيد القائد الامين العام ابو العباس، هذه العملية التي ورد بحق ابطالها لغط كبير ، وكانت بوصلتها فلسطين ، حيث كتب ابطالها نماذج الفداء التي لا يماري فيها احد ولا يشك فيها عاقل، والتي قيل الكثير عنها بوسائل الإعلام وحاول العالم وصمها بالإرهاب وتم عمل أفلام ومسلسلات في واقعها خطت الكتب والمذكرات التي تستعرض تفاصيلها وتحدث عنها الكثيرون ولكنها ستظل علامة فارقه في نضال شعبنا الفلسطيني وستظل هذه العملية وأبطالها الذين استشهدوا و مازال منهم على قيد الحياة أبطال للشعب الفلسطيني ، وان سفينة اكيلي لاورو كانت وسيلة للوصول الى ميناء اشدود ، وكان هدف العملية واضح هو الرد على مجزرة حمام الشط في تونس الذي ذهب ضحيتها العشرات من الشهداء الفلسطينيون والتونسيون حيث مقر منظمة التحرير الفلسطينية بهدف اغتيال رمز فلسطين الشهيد القائد الرئيس ياسر عرفات، بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان صيف عام 1982، والعمل من اجل اطلاق سراح الاسرى والمعتقلين ، وإثبتت العملية بانه يمكن للثورة الفلسطينية الوصول إلى أهدافها رغم كل الإجراءات الامنيه المتخذة واجتياز كل العوائق ، وأبراز قضية شعبنا في المحافل الدولية، ولم تكن كما وصفها الاعلام الغربي خطف مواطنين ، وأصبحت هذه العملية هاجس عند الاحتلال ،
واثبتت العملية القدرة العالية للمناضلين بالتضحية والاستشهاد من اجل قضيه عادله هي قضية فلسطين التي استشهد من اجلها عشرات الآلاف.
كل هذه الانتصارات التي حققتها القضية الفلسطينية كانت بفضل عمليات مناضلي وفدائيي فصائل منظمة التحرير الفلسطينية جميعاً وعلى رأسهم الشهيد القائد ابو العباس الذي استطاع ان يجمع بحنكته القيادية النضالية كل مناضلي واحرار العالم حول العمل النضالي والاستشهاد في سبيل القضية الفلسطينية من سوريا ولبنان والعراق والجزائر والمغرب وليبيا وتونس والكويت والاردن وباكستان وامريكا اللاتينية، أولئك الأبطال الميامين الذين سطروا أروع الملاحم البطولية التي هزت الكيان الصهيوني اقتصادياً وسياسياً واجتماعيا إيماناً من هؤلاء المناضلين الأبطال بصحة وصواب وعدالة النهج الثوري والأهداف والمبادئ التي تناضل من اجلها جبهة التحرير الفلسطينية وعدالة القضية الفلسطينية.
وامام كل الخيارات وبعد رفع علم فلسطين وخطاب الرئيس محمود عباس في الامم المتحدة ، كان خيار الرد على قوات الاحتلال وقطعان مستوطنيها ، بالدفاع عن نفسه وعن ارضه ومقدساته ، ومطالبته بحقه بتقرير مصيره وحريته واستقلاله ، وحتى يعلم العالم ان خيار الاستسلام ليس خيارا للشعوب، وبخاصة الشعب الفلسطيني الذي ناضل عشرات السنوات واختزن تجارب غنية.
وفي ظل هذه اللحظات التي تتصاعد الهبة الشعبية على ارض فلسطين وقدس الاقداس ، تأتي الذكرى السنوية لحرب تشرين التي قادها الجيشين العربيين السوري والمصري ومعهم فصائل الثورة الفلسطينية حيث بلورت معاني الصمود والتضحية ، واضافة بعدها انتصارات عظيمة تجلت بانتصار المقاومة في لبنان وصمود وانتصار الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ، ولتسجل اليوم ملاحم بطولية في مكافحة الإرهاب التي تتعرض لها المنطقة ، وبهبة شعبية ومقاومة وطنية على ارض فلسطين في الضفة والقدس بمواجهة الاحتلال وقطعان مستوطنيه الذي يتنهك كل الشرائع والمواثيق الدولية فضلاً عن استمراره في التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني.
ختاما : نقول ان على الجميع ان يدرك بان خيار الصمود والمقاومة يتطلب ترتيب البيت الفلسطيني والتغلب على الصعوبات واسترداد المبادرة السياسية وتعزير صمود الشعب ومتابعة هبته الشعبية وصولا الى الانتفاضة الثالثة بشروط افضل وبما يضمن متابعة مسيرته الكفاحية بانهاء الاحتلال وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، فشجرة الحياة الواقفة كما عنب الخليل، وسنديان صفد، وزيتون نابلس، ونخيل بئر السبع، لشعب عنيد (شعب الجبارين) في الضفة والقدس وغزة وفلسطين التاريخية، إنه الشعب الذي صمم رغم المستحيل على بلوغ الهدف الغالي، انتزاع الهوية واسترداد التاريخ والكرامة ، حيث نتحدث عن النضال الحقيقي عن صورة الكفاح الفلسطيني الذي كان لجبهة التحرير الفلسطينية الدور البارز فيه، فيها مسيرة نضال وإيمان لا زال الشعب الفلسطيني تواق لها من اجل رسم تاريخ مشرق على طريق قادة ومناضلين تعملقوا نجوما في سماء فلسطين ، لم يعشقوا سوى فلسطين الوطن والانتماء، ترفعوا عن ثقافة التعصب والحقد، وزرعوا أشجار الوطنية لتنبت في صحاري قاحلة قوافل الشهداء.
بقلم / عباس الجمعة
كاتب سياسي