تتفاوت الآراء حول جدوى تطور التصعيد القائم الآن في المقاومة الشعبية الفلسطينية إلى انتفاضة ثالثة. فهناك من يعتبر أن التصعيد هو حق فلسطيني في المقاومة للمشروع الصهيوني، ويطالب بإيصاله لانتفاضة فلسطينية ثالثة، وتعمل فصائل عدة يقف على رأسها حركة حماس على التحريض على انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية والقدس من خلال تصريحات قادتها ووسائل إعلامها، في الوقت التي تعاني فيه السلطة من حالة إرباك تجاه ما يجري، فالرئاسة الفلسطينية ترى في التصعيد فخ إسرائيلي لاستدراج السلطة الفلسطينية لتقويض إنجازاتها السياسية الأخيرة في الأمم المتحدة، والعمل على الإجهاز على السلطة الفلسطينية. فيما قامت حكومة رام الحمد الله بالقول أنها تدعم المقاومة الشعبية السلمية. وهناك تصريحات لناطقين رسميين باسم فتح تقول أنها لا تستنكر عمليات الطعن الأخيرة لإسرائيليين لأنها دفاع عن النفس. ومن هنا فهناك حالة من التخبط في الرؤية لدى الأطراف الفلسطينية، وتخبط في الرؤية حول دور قطاع غزة فيما يجري، فهناك من يدعو لإطلاق الصواريخ دعماً للأحداث في الضفة، وهناك من يرى بضرورة الاكتفاء بالتحريض ومسيرات الدعم ورشق الحجارة على الحدود الشرقية، وهناك من يعارض ذلك ويعتبر ذلك عملا عبثيا يودي بشبابنا واطفالنا للتهلكة في ظل بعد المسافة بين شبابنا بحجارتهم ومقلاعيهم وبين جنود الاحتلال مما يجعلهم صيدا ثميناً لهم، بل كتب البعض أن جبهة غزة يجب ألا تتراجع للحجارة لأنها عرفت الصواريخ، وأن العودة لاستخدام الحجارة هو تراجع عن توازن الرعب الذي حققته غزة في السنوات الأخيرة. وهكذا ندخل في دائرة من التشكيك والحديث عن عدم الجدوى، بل يصل الأمر إلى حد الاتهام لبعض الفصائل بالمتاجرة بدماء أطفالنا وشبابنا.
علينا أن نقول أولاً إن حق مقاومة الاحتلال هو حق مكفول في الشرائع السماوية وفي التشريعات الأرضية. وأن حق مقاومة الاحتلال يجب أن يكون بكل الوسائل الممكنة من أجل تحقيق الغاية وهو التحرير وحق تقرير المصير والاستقلال. ولذلك فإن المقاومة تبقى الوسيلة الناجعة للتصدي لعدو استيطاني إحلالي يستهدف الأرض والبشر والشجر. ولكن يبقى التساؤل قائم متى نستخدم وسائل المقاومة، وما هي أنجع الوسائل في وقت معين قد لا تناسب وقت آخر. وأين يكون دور وسيلة من الوسائل فعالة في مكان وقد لا تكون ناجعة في مكان آخر. فمن الواضح أن استمرار الدولة العبرية بالاستيطان وتهويد الأرض والأماكن المقدسة يستدعي أن تكون المقاومة حاضرة. ولذلك علينا القول بكل حزم وتأكيد أن الضفة الغربية والقدس بحاجة لانتفاضة فلسطينية شعبية الآن وليس غدا أو بعد عام. فالاستيطان يهدد الأرض كل يوم، وتجرؤ المحتل على تهويد مقدساتنا في القدس يزداد ضراوة كل يوم. فحسب الإحصاءات فإن عدد المستوطنين قد بلغ نصف مليون مستوطن في الضفة الغربية، وتطمح سلطات الاحتلال أن يصل عددهم سنة 2020م إلى مليون مستوطن. وبذلك فإن حق المقاومة هو حق مشروع ومتواصل حيث إن إسرائيل قد قوضت كل إمكانية لقيام دولة فلسطينية على حدود 1967م، وتسعى لتحويل قرى ومدن الضفة الغربية لكنتونات منعزلة بلا هوية ومستقبل سياسي بل حكم ذاتي هزيل وغير مترابط. ومن يرى حجم الاستيطان واستمراره، وحجم البنية التحتية التي تقيمها دولة الاحتلال من أجل السيطرة على أراضي الضفة الغربية، وتحويل المستوطنات إلى كتل استيطانية كبيرة أي مدن مثل بيت آئيل ومعاليه أدوميم وجيلو وعصيون يدرك مدى المخطط الإسرائيلي.
فالمستوطنون في الضفة يسعون ليكونوا الأغلبية وبالتالي محاصرة الشعب الفلسطيني بحيث يتم محاصرة كل مدينة وقرية. ومع ازدياد عددهم تزداد شراستهم ومهاجمتهم للقرى العربية، ونموذج حرق عائلة دبابشة خير شاهد على ذلك. ولذلك فإن ازدياد عددهم يعني زيادة احتمالات شراستهم ومغالبتهم للشعب الفلسطيني في قراه ومدنه. فقد ذكرت الإحصاءات إن عدد حالات اعتداء المستوطنين على المواطنين الفلسطينيين في السنوات العشر الماضية بلغت 11 ألف اعتداء، وأن عدد الاعتداءات بلغت منذ بداية عام 2015م حتى الآن قد زادت على ألف اعتداء. ولو افترضنا أن عدد المستوطنين سيبلغ نصف عدد سكان الضفة الغربية بعد خمس سنوات فهناك سيكون زيادة كبيرة في الاعتداءات، هذا فوق تقويض أي إمكانية لتواصل جغرافي فلسطيني في الضفة الغربية. ومن هنا فإن وجوب حدوث انتفاضة فلسطينية يجب أن يكون الآن وليس لاحقاً. حيث يجب أن يثور الشعب الفلسطيني من أجل أرضه ومستقبله. وأن معركته الآن ضد الاستيطان في ظل تعاطف دولي مع القضية الفلسطينية، ومع حصول الشعب الفلسطيني على دولة بصفة مراقب هذا إضافة إلى وجوب السعي لتثبيت وضع فلسطين كدولة تحت الاحتلال مما يتوجب مقاومة المحتل.
ومع ذلك فعلينا قبل أن نحول التصعيد إلى انتفاضة شعبية أن ننهي الانقسام حيث أن هناك أزمة ثقة بين الأطراف الفلسطينية خلقها الانقسام، فالسلطة في الضفة ترى في التصعيد سعي من حركة حماس لنقل أزمتها للضفة الغربية لإضعاف السلطة والانقضاض عليها كما حدث في غزة. ولذلك فإن ما يحدث من مقاومة شعبية في القدس والضفة يجب أن لا يكون وفق ردود الأفعال بل ضمن رؤية فلسطينية موحدة تستوجب إنهاء الانقسام، ورسم رؤية فلسطينية موحدة ضد الاستيطان. وهذا يتطلب أولا إجراء عملية تقييمة لما حدث في الانتفاضة الأولى 1987-1994م. فمن الواضح أن الحصاد الفلسطيني دوما حصادا مرا. فما حققه اتفاق أوسلو لا يرتقي لحجم تضحيات الشعب في الانتفاضة الأولى. فقد نجم عن اتفاق أوسلو سلطة حكم ذاتي هزيل، وتحولت الفترة الانتقالية التي تم الحديث عنها بخمس سنوات إلى فترة انتقالية شبه دائمة، وتحولت السلطة الفلسطينية مع الوقت إلى سلطة فساد وامتيازات VIP لقلة من المستفيدين، أي تحولت لبلدية خدمات، بل قد لا نجافي الحقيقة إن قلنا إنها تحولت لسلطة وظيفية تشكل عبئاً على المشروع الوطني، ولاسيما وهي تبرزنا أمام العالم وكأن لنا رئيس وحكومة وسلطة، وأن شعبنا قد استقل وله علمه ولكن على أرض الواقع هناك احتلال يهود الأرض والأماكن المقدسة.
ثم جاءت الانتفاضة الثانية وبدل أن تعيد ترتيب الوضع لفلسطيني وتقوي الواقع الفلسطيني جاءت النتيجة بفقدان أعز ما نملك وحدتنا الفلسطينية، وكان الحصاد مرا دفع الشعب ولا يزال يدفع ثمنه من حصار ومن ثلاثة حروب إسرائيلية على قطاع غزة كان نتيجتها آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المصابين، ومئات الآلاف من المنازل المهدمة كلياً وجزئياً، ومصالحة متعثرة.
لذلك قبل أن نتحدث عن تطوير الأحداث إلى انتفاضة فلسطينية شعبية علينا أن ننهي انقسامنا، ونحقق وحدتنا. ثم علينا أن نمتلك رؤية واضحة للنضال الفلسطيني، ونعيد المشروع الوطني لبوصلته الحقيقية. وهذا يتطلب رسم استراتيجية وطنية موحدة ذات توافق وطني، حيث تؤدي الاستراتيجية إلى وضع برنامج وطني فلسطيني. ثم ينبثق عن ذلك تحديد الوسائل والأدوات النضالية، فما يصلح في المقاومة في غزة قد لا يناسب الضفة الغربية والقدس. حيث تشكل غرفة قيادة فلسطينية عليا في الضفة وغزة لتحديد الوسائل والأدوات، وتبادل الأدوار وغير ذلك من العمل المقاوم. ولذلك فإن المقاومة هو عمل مشروع ومطلوب الآن وليس لاحقاً، ولكن يجب أن يسبق ذلك أو يوازي ذلك على الأقل إنهاء الانقسام وتجسيد الوحدة الوطنية لندخل معركتنا الفلسطينية موحدين وليس حالة انقسامية متشرذمة تفتقد إلى الثقة فيما بينها، وتعاني إشكالية في الرؤية والإستراتيجية والبرامج السياسية.
بقلم أ.د. خالد محمد صافي