انها انتفاضة وكلمة السر... جيل الشباب

بقلم: مصطفى البرغوثي

ما زال بعضهم بحكم العادة، او عدم القدرة على ادراك التغيرات، أو بسبب الانقطاع عن الواقع، يناقش: هل الحالة التي تعيشها فلسطين انتفاضة أم هبّة عابرة ام بداية لانتفاضة؟

ولا اظن ان هناك مسمى غير مسمى الانتفاضة او الهبّة الشاملة يمكن اطلاقه على حالة يهبّ فيها الشباب الفلسطيني في كل انحاء فلسطين من القدس ومن شمال الضفة الى جنوب غزة ومن مدن الداخل، ليعلنوا تمردهم على نظام الاحتلال والقهر والتمييز العنصري والقتل الوحشي الذي يتعرضون له.

انها انتفاضة سواء أعجب ذلك بعضهم أم لم يعجبه. وكلمة السر فيها هذا الجيل الرائع من الشباب الفلسطيني الذي لم تفسده مباهج الحياة المزعومة، ولا أخمدت عزيمته منظومة القروض المكرسة لاستعباد الناس بأنماط استهلاكية لا يقوون عليها، ولم تضلله الاتفاقات الظالمة، ولم يحبطه جهابذة ومنظرو الهزيمة والإحباط واليأس الذين يتكاثرون كالفطر الخبيث في اوقات التراجع.

جيل من الشباب يستعيد افضل ابداعات آبائه وأمهاته وأعمامه وأخواله ممن حملوا عبء الانتفاضة الشعبية الأولى التي دخلت قواميس العالم باعتبارها النموذج الأرقى والأنبل للمقاومة الشعبية، وكان يمكن ان تنتج حرية واستقلالاً حقيقياً لولا الوقوع في فخ أوسلو الذي نصبه الاسرائيليون بعناية لامتصاص ما حققته الانتفاضة الاولى من تغيير في ميزان القوى لمصلحة الشعب الفلسطيني.

انها انتفاضة تفجرت عبر تراكم إرهاصات نضالية لم تتوقف لحظة واحدة منذ 2002، من تظاهرات مقاومة الجدار العنصري الى سفن كسر الحصار على غزة، الى حملة مقاطعة البضائع الإسرائيلية، الى بناء قرى المقاومة مثل باب الشمس وأحفاد يونس، إلى الصمود البطولي الخارق لشعبنا في غزة أمام جرائم حرب غير مسبوقة واعتداءات فاقت في دمارها ما جرى أيام الحرب العالمية الثانية.

انتفاضة بدت بشائرها في هبّة القدس احتجاجاً على حرق الفتى أبو خضير وفي التظاهرات العارمة رداً على العدوان على غزة. واكتسبت زخماً وقناعة عميقة بعد جريمة حرق عائلة الدوابشة على أيدي مستوطنين وحوش ومجرمين لم يقدم أي منهم إلى المحكمة، فيما جعل الفلسطيني يدرك انه اذا كان سيقتل على كل حال سواء قاوم أم لم يقاوم فالأفضل أن يقاوم بكرامة وشرف.

إنها انتفاضة لأنها تمثل انتقالاً نوعياً في الوعي والإدراك النفسي وفي الواقع المعاش، انتقالاً كاملاً من مرحلة الى أخرى. انتقالاً من مرحلة المراهنة على مفاوضات فاشلة استمرت 22 عاماً من دون أن تجلب للشعب الفلسطيني سوى مزيد من الذل والاستيــطان والقهر والفقر والبطالة الى مرحلة أدرك فيها الفلسطينيون أنهم لن يحصلوا على حقوقهم الإنسانية في الحرية والعيش الكريم بكرامة إلا بمقاومة الاحتلال ونظام الاضطهاد العنصري الذي فاق نظام الأبارتهايد المتوحش في جنوب أفريقيا.

وهي انتفاضة انطلقت بعد اعتراف الجميع، بمن فيهم صانعوه، بفشل اتفاق اوسلو الذي خرقته ومزقته حكومات إسرائيل بكل الوسائل والطرق، وجعلت بنوده وملحقاتها أطواقاً على رقبة الشعب الفلسطيني المثقل أصلاً بقيود الاحتلال وحواجزه وجداره واستيطانه وتحوله إلى نظام تمييز عنصري فاضح.

وليست صدفة ان شرارات هذه الانتفاضة الأولى جاءت من شباب القدس المتحررين من كل قيود الاتفاقات ومفرزاتها. وليست مصادفة ان تصرفات المحتلين في المسجد الأقصى والقدس كانت القشة التي قسمت ظهر البعير، كما يقال، وأشعلت اللهب الذي كانت مكوناته تتراكم طوال سنوات. كل بيانات الادانة والاستنكار، وكل المواقف الخجولة للحكومات لم تؤثر في نتانياهو الذي واصل استفزازاته في الأقصى. لكن هذه الانتفاضة ردعته وأجبرته على إظهار جزعه، وعلى منع وزرائه المتطرفين من دخول المسجد الأقصى، لأن الفلسطينيين أدركوا ان نتانياهو لا يفهم الا لغة القوة، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

إنها ثورة من أجل الحرية والكرامة والمساواة والعدل، ومن أجل حقوق الشعب الفلسطيني مثل العودة وتقرير المصير، والتي حاولوا تهميشها وتضييعها وإبدالها برموز فارغة. ثورة قادرة على إطلاق وتوحيد طاقات الشعب الفلسطيني في كل مكان، في القدس والضفة والقطاع والداخل الفلسطيني وفي المهاجر، لتركز على هدف محدد: تغيير ميزان القوى لمصلحة شعبنا بالمقاومة الشعبية والكفاح بكل اشكاله وبحركة المقاطعة وفرض العقوبات وبإسناد صمود الناس على الأرض وبتوفير العنصر الرابع الذي ما زال مفقوداً. وحدة وطنية وقيادة وطنية موحدة، ترتقي الى مستوى الابداع الشعبي والجماهري والشبابي وتضمن عدم تضييع نتائج الكفاح وتترجم الأفعال النضالية الى نتائج سياسية.

هذه هي اللحظة للارتقاء بالوحدة فوق المصالح الحزبية والفئوية والشخصية وتغليب المصلحة الوطنية وإنهاء الصراع على سلطة بلا سلطة، لأنها كلها تحت الاحتلال، والتحرر من كل قيود الاتفاقات الجائرة وحدودها. هي لحظة تعيد إلى الشعب الفلسطيني الثقة والأمل بالمستقبل والشعور بالفخر والاعتزاز، وتجسد ذلك التعبير الفذ الذي قاله أحد المتضامنين مع شعبنا "ان شعباً يقاوم هو شعب لا يمكن ان يهزم".

 مصطفى البرغوثي

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية