هذه المرة استطاع الصحفي أن ينقل للعالم مشهد الوداع بمكوناته الانسانية، عادة ما نسقط ذلك من أدبياتنا ونحن ننقب في شجرة العائلة علنا نجد فيها ما نثبت عليه رايتنا الحزبية، ويمنحنا الأحقية لأن نوشح الشهيد براية الفصيل، ونضع الكثير منها على بيت العزاء، لا نترك مجالاً لعلم فلسطين أن يزاحم راياتنا، ما يهمنا أن نبقي ولاء الشهيد للجزء لا الكل، يتراجع الوطن بدلالاته ويتقدم الفصيل براياته.
تمكن الصحفي من التقاط مشهد الوداع الأخير قبل أن يدخل مخرج الفصيل ألوانه، جاء ببساطته مثقلاً بالمشاعر الانسانية التي تسكن الذاكرة لأمد طويل، الأب الجريح "يحيى حسان" يحتضن إبنته الشهيدة "رهف" التي لم تكمل عامها الثالث بعد، يتحسس من جديد البراءة التي تسكن وجهها، يضمها إليه وهو يحاول أن يوقظها من نومها كما كان يفعل، يبكيها وهو يمسح بجرحه شعرها، لا يريد لأحد أن ينتزعها من حضنه، يستصرخ الموت كي يبقيها قليلاً معه، تنسل ببراءة طفولتها من حضنه، يغمض عينيه على حزن يلف به الأفق.
لا شك أن ما إلتقطته كاميرا الصحفي من تفاصيل وداع رهف يبقى محفوراً في الذاكرة، وله من قوة التأثير في غرس معنى الانتماء للوطن ما يفوق بكثير ما تفعله العديد من أدبيات الفصائل المختلفة، وفي ذات الوقت تجرد القاتل من إنسانيته وتحمله من الصفات ما يخجل من حملها الحيوان، لا أعرف لماذا نحرص على ألا نرصد البعد الإنساني للشهيد، دوماً ننقب في الأرشيف عن صورة للشهيد لها دلالات حزبية، نسقط من حساباتنا لوعة الفراق ونحاصر المشاعر الانسانية للمحيطين به، كأن فيها ما يقلل من بطولته، كم نحن بحاجة لأن نتتبع إنسانية الشهيد حاضراً وغائباً، لماذا نحاول أن نكبت مشاعرنا ونبقيها أسيرة القلوب؟، لماذا نخجل من دموعنا ونحن نودع أحبة لنا؟، لماذا نعاتب الطفل الذي يبكي والده الشهيد ونقحمه في رجولة لا تستقيم مع طفولته؟، نحن بشر وتتحرك فينا المشاعر الإنسانية فرحاً وحزناً، وليس من المفيد في شيء أن ننزع إنسانيتنا أو نحاصرها.
كم نحن بحاجة لأن نتوقف عن خداع الذات، ما نحاول أن نتجمل به يكشف عورتنا، كم نكذب ونتجمل حين ندعي بأن رفع الرايات الحزبية في تظاهراتنا تؤكد على وحدة الحال، هل حقاً أن بيت عزاء الشهيد الذي تخفق رايات الفصائل بألوانها المختلفة في أركانه فيه دلالة على وحدتنا؟، وهل الشهيد الموشح براية حزبية ومسجى بجوار شهيد آخر براية أخرى فيه ما ينبيء أن الدم وحدنا؟، هل من العسير علينا أن نتوقف عن ذلك وأن نعيد للوطن دلالاته؟، أن يسجى الشهيد بعلم فلسطين، وأن نفسح المجال في مسيراتنا الجماهيرية لعلم فلسطين دون سواه، هل من الصعوبة بمكان أن نحفظ لعلم فلسطين قيمته وللوطن أهميته؟.
د. أسامه الفرا