الحاجة إلى الوحدة الوطنية لدعم الهبّة الفلسطينية

بقلم: نبيل السهلي

بعد اقتحامات المستوطنين المتكررة للحرم القدسي إثر قرار فتحه أمام اليهود قبل عدة أسابيع، فضلاً عن التظاهرات الفلسطينية المنددة بذلك، وصولاً إلى الهبّة العارمة في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي داخل الخط الأخضر، والمستمرة منذ مطلع الشهر الجاري، برزت أسئلة حول إمكان تحول هذه الهبّة إلى انتفاضة ثالثة، كما حصل إثر تدنيس أرييل شارون الحرم القدسي قبل خمسة عشر عاماً، وبالتحديد في 28- 9- 2000.

في هذا السياق يشير متابعون إلى أن عوامل قيام انتفاضة فلسطينية ثالثة لا تقتصر على ما يجري في مدينة القدس من محاولات متسارعة لفرض الأمر الواقع التهويدي، أو قضية الأسرى على أهميتها البالغة، بل تتعدى تلك الملفات إلى كل ما يتصل بسياسات الاحتلال، بدءاً من الاستيطان الذي جعل حياة كل فلسطيني في الضفة بما فيها القدس على كف عفريت.

فقد اتسع الاستيطان وتمدد ليعزل التجمعات والمدن الفلسطينية عن بعضها لتتحول إلى جزر شبه معزولة في محيط من الاستيطان مترامي الأطراف بما يشبه شبكة متصلة تتمتع بأسباب الحياة كافة بعكس ما هي عليه المدن والتجمعات الفلسطينية.

ومع استمرار التوسع الاستيطاني، مضت إلى جانب حملات مصادرة الأراضي تحت دعاوى احتلالية مختلفة، ومع هذه الإجراءات التعسفية جاءت أيضا حملات منظمة ومنهجية من هدم منازل الفلسطينيين وخاصة في أحياء القدس الشرقية إمعاناً في تهويد المدينة ولنسف أي إمكان لأن تصبح عاصمة الدولة الفلسطينية المنشودة. ومن الطبيعي أن يفاقم هذا أيضاً الاحتقان الشعبي الفلسطيني في وجه الاحتلال ويوصله إلى الهبّة التي نشهد فصولها على امتداد فلسطين التاريخية منذ بداية الشهر الجاري.

ومن العوامل التي قد تؤسس لتحول هذه الهبة إلى انتفاضة ثالثة، الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الفلسطينيون نتيجة إجراءات الاحتلال العدوانية، ومن بينها الحصار الاقتصادي والعقوبات التي تمارس عليهم، مثل حجز إيرادات السلطة المستحقة لدى إسرائيل عقابا على خطوات فلسطينية باتجاه التحرر من أسر الشروط الأميركية الإسرائيلية التي تريد حشر الجانب الفلسطيني في حلبة مفاوضات بشروط تؤدي إلى تقزيم الحقوق الوطنية الفلسطينية إن لم يكن شطبها نهائياً، بعد مرور أكثر من عقدين على مفاوضات لم تفض إلى أي حق من حقوق الفلسطينيين.

في مقابل العوامل التي تؤسس لانتفاضة فلسطينية ثالثة، يشكك محللون سياسيون في وجود حواضن شعبية واقتصادية كمرتكزات أساسية للانتفاضة واستمرارها بغية تحقيق أهداف وطنية فلسطينية معينة

في الجانب الاقتصادي على سبيل المثال لا الحصر، يؤكد محللون اقتصاديون أن السياسات الاقتصادية الإسرائيلية خلال العقود الماضية من الاحتلال، أدت إلى سيطرة إسرائيلية شبه كاملة على عناصر الإنتاج في الاقتصاد الفلسطيني. وتبعاً لذلك سيطرت إسرائيل على أهم مفاتيح هذا الاقتصاد ومقدراته والمتمثلة أساساً في حركة العمال والتجارة الخارجية، فضلاً عن المصادر المائية المتاحة، وأبقت اتفاقات أوسلو وما تلاها من اتفاقات اقتصادية السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الاقتصاد الفلسطيني، الأمر الذي أوقع السلطة الفلسطينية التي قامت في ربيع 1994 في شرك المساعدات الدولية المشروطة، ما جعل أداءها واستمرارها مرهونين بتلك المساعدات التي لم يتحسسها المواطن الفلسطيني في الضفة والقطاع بشكل مباشر.

والى جانب الأرض كعنصر أساسي للاقتصاد الفلسطيني، استطاعت السلطات الإسرائيلية السيطرة على أهم الأراضي الزراعية لصالح الأنشطة الاستيطانية التي لم تتوقف منذ عام 1967 وحتى العام الحالي، كما صادرت 81 في المئة من إجمالي الموارد المائية الفلسطينية المتاحة والمقدرة بنحو 750 مليون متر مكعب، الأمر الذي أدى إلى تهميش قطاع الزراعة الفلسطيني، ودفع آلاف العمال العرب في الضفة والقطاع إلى العمل في الاقتصاد الإسرائيلي ووفق شروطه المجحفة، على رغم رفع شعار مقاطعة العمل العبري في بداية الاحتلال.

وعزز هذا التوجه إصدار السلطات الإسرائيلية قانوناً في عام 1968 يسمح للعمال الفلسطينيين بالعمل في قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي المختلفة. وفي الاتجاه نفسه، أصدرت إسرائيل أيضاً أوامر بإلحاق البيوتات المالية الفلسطينية بالبنوك الإسرائيلية، وتمت عملية تفكيك مبرمجة للاقتصاد الفلسطيني وربطه بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي ولصالحه، ونتيجة السياسات الاقتصادية الإسرائيلية، بات السوق الفلسطيني ثاني سوق للاقتصاد الإسرائيلي بعد السوق الأميركي. وأصبحت إسرائيل تتحكم بنحو 96 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية الفلسطينية بشقي الصادرات والواردات.

وفي الوقت نفسه، ورغم الإغلاقات الإسرائيلية المتكررة في وجه قوة العمل الفلسطينية، ثمة 20 ألف عامل فلسطيني يعملون في الاقتصاد الإسرائيلي حالياً، في مقابل 120 ألفاً قبل الانتفاضة، الأمر الذي يؤكد تحكم إسرائيل بنسبة تصل إلى نحو 20 في المئة من إجمالي الدخل القومي الفلسطيني، وبذلك فإن المجتمع الفلسطيني عرضة لابتزازات سياسية دائمة من قبل إسرائيل عبر البوابة الاقتصادية.

وتشير معطيات إلى تفاقم أزمة البطالة في الأراضي الفلسطينية، لتصل معدلاتها هذا العام إلى نحو 60 في المئة في قطاع غزة، ونحو 30 في المئة في الضفة الغربية، وعليه فقد انتشر الفقر المدقع بين ثلثي الأسر الفلسطينية في الضفة والقطاع، الأمر الذي يرى بعض المتابعين أنه يمهد الطريق أمام انطلاقة انتفاضة ثالثة، رفضاً لسياسات الاحتلال التي تنال من الشعب الفلسطيني وأرضه بشكل يومي.

في الجانب السياسي، أدى التعنت الإسرائيلي خلال مفاوضات مديدة مع الفلسطينيين لم تفض إلى دولة فلسطينية مستقلة، إلى دفع السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ مواقف متقدمة، بالاعتماد على انكشاف عنصرية إسرائيل أمام العديد من دول وشعوب العالم. حيث أكد الرئيس الفلسطيني في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة "أن الوضع الحالي غير قابل للاستمرار، وسنبدأ بتنفيذ هذا الإعلان بالطرق والوسائل السلمية والقانونية التي سبق أن صادق عليها المجلس الوطني، فإما أن تكون السلطة الوطنية الفلسطينية ناقلة للشعب الفلسطيني من الاحتلال إلى الاستقلال، وإما أن تتحمل إسرائيل سلطة الاحتلال، مسؤولياتها كافة". وأوضح أبو مازن أن "على كل من يقول إنه مع خيار حل الدولتين، أن يعترف بالدولتين، وليس بدولة واحدة، ومن أراد أن يبحث عن السلام ويحارب الإرهاب، أن يبدأ بحل القضية الفلسطينية فوراً".

يجمع محللون متخصصون بالشأن الفلسطيني، على أنه بعد رفض رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السياسات الإسرائيلية التهويدية بكل تجلياتها –من منصة الأمم المتحدة- تتطلب الضرورة عقد المصالحة الفلسطينية بأقرب وقت ممكن، خاصة أن الأطياف السياسية الفلسطينية كافة، وفي مقدمها حركتا "فتح" و "حماس"، تبنت خطاباً موحداً داعماً لحراك الشعب الفلسطيني، رغم اختلاف المسميات، التي تتراوح بين هبّة وطنية وانتفاضة القدس.

ويبقى القول إن الوحدة الوطنية الفلسطينية بالفعل لا بالشعارات، وبعيداً من الأجندات الفصائلية الضيقة، ستكون من أهم الحواضن الحقيقية لحماية حراك الشعب الفلسطيني وهبته المتجددة ضد سياسيات إسرائيل التهويدية، وخاصة في الأقصى، وقد تعزز الوحدة أيضاً في الميدان فرص نجاح استثمار الهبّة الفلسطينية سياسياً، للحد من سياسات إسرائيل التعسفية، وفضلاً عن ذلك يمكن التوجه بخطاب فلسطيني جامع إلى المنظمات الدولية مع المجموعة العربية، لمعاقبة مجرمي الحرب الإسرائيليين من جهة، والمطالبة بنيل الفلسطينيين حقوقهم الوطنية، والفرصة متاحة بعد اعتراف العديد من دول العالم بدولة فلسطين، ومقاطعة أكثر من مؤسسة أكاديمية في أميركا وأوروبا للجامعات الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة.

 

 نبيل السهلي

* كاتب فلسطيني