سنا هنودا حمرا… وأمريكا تخالف قانونها

بقلم: فايز رشيد

ما أكثر ما يستفزوننا، ومن أضعف الإيمان أن نكتب. تعليقات الشارع الإسرائيلي على جرائم جيشهم ومستوطنيهم والمستعربين هي على نمط: "اقتلوا العرب، أبيدوا أطفالهم، العرب خنازير، لصوص، قتلة ومنحرفون.. الخ". لم يبق وصف خسيس إلا ووصمونا به. في دراسة حديثة للبروفيسور دانييل بارنال الاستاذ بجامعة تل أبيب، ذكر نتيجة مفادها أن 124 كتابا من المناهج الدراسية في الكيان (تشكل 89٪ من كل الكتب المدرسية) تحتوي على أبشع التعابير العنصرية ضد العرب. بالمقابل بلغت الوقاحة بالكيان إلى مطالبة السلطة الفلسطينية، والحكومتين الاردنية والمصرية، وهي التي وقعت اتفاقيات مع الكيان، تعديل المناهج الدراسية للطلبة، وحذف كل ما يتعلق بالعداء لإسرائيل، منها. أيضا يعتبر نتنياهو أن مقاومة الفلسطينيين هي نتيجة تحريض الرئيس عباس على إسرائيل، تصوروا رغم أن أبا مازن يدعو دوما إلى ما يسميه "التهدئة".
من ناحية ثانية، يطالب الفاشي ليبرمان باستعمال "القبضة الحديدية" ضد أهلنا في فلسطين (وكأن نتنياهو يستعمل قبضة حريرية)، ويطالب بفرض الحكم العسكري عليهم. أطراف اليمين وما يسمى بأحزاب اليسار يهددون العرب ويطالبون نتنياهو وحكومته بالاستقالة، لعجزها عن قمع الفلسطينيين وضبطهم، وعلى ذلك قس. نعم أرضنا الفلسطينية تشتعل تحت أقدام الغزاة واستشهد بقول الشاعر محمود درويش: "حذار حذار من جوعي ومن غضبي". إيلي شاكيد وزيرة العدل الصهيونية تؤكد "أن وزارتها بدأت الإعداد لسن قانون عنوانه لا شرعية للحركة الإسلامية الشمالية"، بقيادة المناضل الشيخ رائد صلاح.
أحسن الكاتب، الباحث والمترجم منير العكش في كتابه الصادر حديثا "دولة فلسطينيّة للهنود الحمر"، في مقاربته بين شعبنا الفلسطيني والهنود الحمر، ولطالما ردد الرئيس المرحوم ياسر عرفات (الذي مات مسموما ومحاصرا لثلاث سنوات في المقاطعة) "لن يكون شعبنا مثل الهنود الحمر". يختزل العكش التاريخ البعيد والقريب للشعبين، بالقواسم المشتركة بين سياسة دولة الإرهاب الصهيوني وراعيتها وحليفتها الاستراتيجية الامريكية، تجاه الشعبين المقهورين ومآسيهما القديمة والحالية، هذا بالطبع إلى إيراده للتشابه المذهل بين ظروفيهما، اللتين أدّتا إلى جعل أحلام الفلسطينيّين والهنود الحمر في إقامة دولة، على مقاس متطابق تقريباً، ما يجعل من أيّ قطعة شعريّة مثلاً أو قراءة روائيّة للمسألة، شأناً مشروعاً جدّاً. بهذا، لن تعود قصيدة محمود درويش "خطبة الهنديّ الأحمر" مجرّد محاولة لإحالة قصّة الهنود الحمر في أمريكا إلى المجاز الفلسطيني، وإنما تغدو واقعاً تاريخيّاً مريراً حتى إن غلِّفَ هذا الواقع بالصّور الشعريّة والغناء. الأمر أيضاً يُذكِّر بما قاله بول أوستر في إحدى مقابلاته الصحافيّة، بما معناه، أنّه ما دامت حكومة واشنطن بهذا الانحياز الفاضح لإسرائيل، فلماذا لا تمنح الإسرائيليّين واحدةً من ولاياتها كوطنٍ بدلاً من فلسطين، ويكون ذلك هو الحلّ؟ المأساة الفلسطينيّة يمكن اعتبارها تجديداً للمأساة الهنديّة، الأمر الذي يجعل للكتاب قيمةً بحثيّة ودلاليّة في آليّات السياسة والتحوّلات الكبرى في التاريخ وهجرات الشعوب.
ظلّ المفاوضون الأمريكيّون يناورون الهنود الحمر بوهم الدّولة، حتى وجد هؤلاء أنفسهم في معاهدة دفاع عسكريّة جنباً إلى جنب مع الغزاة. أخذ الأمريكيّون يتمدّدون في مستوى مستوطنة تلو الأخرى، ثمّ يبنون الحصون والقلاع الّتي سيستـــعملونها ضــــدّ قبائل أخرى من الهنود، قبل الانقضـــاض على حلفائهم في نهاية الأمر. المعاهدة كانت مــزوّرة، وبعد أن جهد الزّعيم الهندي وايت آيز في إتمام المعاهدة وتوقيعها باسم شعب الدولاوير، بل والمناداة بـ "الدخول في دين الرّجل الأبيض"، تمَّ تسميمه بعد مضيّ أسبوعين على التوقيع، بأوامر من جورج واشنطن شخصيّاً، فقد أدّى وايت مهمّته بوضع الهنود تحت سلطة الغزاة الجدد.
لم يستخدم الأمريكيّون البولونيوم آنذاك، أو أيّ ميلليغرامات من أيّ عنصر مشعّ آخر، وإنما جراثيم الجدري، واحد من أوّل الاغتيالات السياسيّة في التّاريخ الحديث باستخدام سلاح بيولوجي. 18 مجزرة ارتكبت ضد الهنود الحمر وأصر الامريكيون على أن يعيشوا في معازل خاصة بعد طردهم بواسطة المذابح الجماعية. 371 معاهدة مع الهنود الحمر صادق عليها الكونغرنس ولم يجر تنفيذ أي واحدة منها.
يقول العكش في محاضرة له حول الكتاب: إن فكرة الاستيطان في أمريكا قامت على قواعد استيطان الأرض بالقوّة والاحتيال والقتل والإيديولوجيا، وهو ما يشبه ما قامت به "إسرائيل" خلال القرن الماضي من استيطان الأرض الفلسطينية، واستبدال الشعب الفلسطيني الأصلي بآخر مستورد ونشر إيديولوجيا مختلفة عن ثقافة السكان الأصليين. وتابع العكش مقارنته بين كيفية نشوء أمريكا على قاعدة طرد الهنود الحمر واستيطان أرضهم ومحو ثقافتهم وما قامت وتقوم به "إسرائيل" حالياً، ولفت إلى وجود شبه كبير بين "الدستورين" الأمريكي و"قوانين الأساس" الإسرائيلية، لجهة عدم ذكر أيّ حدود ثابتة لهاتين الدولتين العنصريتين، ونقل عن آرثر بيرغ، أحد رموز المستوطنين الأمريكيين، أن حدود أمريكا هي سفر التكوين ويوم القيامة، منبّهاً إلى استمرار وجود الفكر "الطهراني" في العقل الأمريكي إلى يومنا هذا، القائم على قتل وإلغاء الآخر، وإعلاء شأن المستوطنين الغرباء، والاتكاء على الغيبيات والخرافات.. وهذا ما يشابه تماما الوضع "الإسرائيلي"، فـ"حدود دولتهم حيث تصل دباباتهم وأقدام جنودهم" وأسطورة "شعب الله المختار" وأخرى من نمط "أرض الميعاد" و"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"… الخ.
ومن أجل إعطاء لكل من أهل الفضل فضله، فإن المفكر العالمي الأمريكي نعوم تشومسكي، الذي منعه الكيان من دخوله في زيارته للشرق الأوسط اواسط عام 2010، وتحديدا في محاضرة له في بيروت، قال فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني: إن المتتبع لتاريخ الصراع يستطيع الاستنتاج أن إسرائيل ليست سوى انعكاس أمين للولايات المتحدة، فكلاهما "استعمرا الأراضي. وكلاهما أبادا الشعوب الأصلية. وكلاهما استخدما الخطاب الديني لتبرير غزواتهما". يرى تشومسكي أن "إسرائيل" اختارت بناء الوقائع على الأرض من أجل تحقيق الشعارات، فبنوا الهياكل الأساسية التي تؤدي في النهاية لإقامة دولتهم اليهودية، ولا يزالون إلى اليوم يقومون بذلك. وقارن وضع الفلسطينيين بالهنود الحمر.
ما نقوله حول موضوع المقاربة إجمالا… أنها تجوز من زاوية الاهداف والوسائل التي استعملتها امريكا وتلميذها الصهيوني، صحيح أن أمريكا والكيان استوطنا الأرض واستخدما الخطاب الديني والأساطير التضليلية، لتبرير هذا الاستيطان، ومحاولة إبادة الشعبين الأصيلين، إلا أن شعبنا الفلسطيني ليس شعبا هنديا أحمر، بل لا يزال موجودا على أرضه، يقاوم المحتل في سبيل تحقيق دولته المستقلة. ففي حين انتهى المقام بمن تبقّى من الهنود الحمر إلى العيش في مناطق خاصة بهم (محميات طبيعة لهم)،أو الذوبان في المجتمع الأمريكي، فإن شعبنا الفلسطيني الذي هو جزء لا يتجزأ من أمته العربية ومن حضارتها، شعب عريق له تراثه وتقاليده وهويته الراسخة الضاربة في الجغرافيا والتاريخ، ولن يلقى مصير الهنود الحمر مهما طالت سنوات الاحتلال. شعبنا الفلسطيني المقاوم، لكل محاولات الاقتلاع من أرضه، يقترب تعداده السكاني وفق الإحصاءات الرسمية الفلسطينية من 11 مليونا، يتوزع نصفهم أو يزيد بقليل في الشتات، في حين يتوزع النصف الآخر داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وداخل منطقة 48، يمثل بتعداده هذا، وبالأخص فلسطينيي الضفة والقطاع، والخط شعلة مقاومة متقدة دوما للعدو الصهيوني. نعم سيبقى شعبنا غصة في حلق الاحتلال وشوكة دامية في قلبه. نعم شعبنا يتكاثر سنويا ولن يذوب، وهذا ما يدركه تماما عدونا الصهيوني وحليفته الاستراتيجية أمريكا.
صحيح أن الكيان نجح في تحقيق بعض أهدافه منذ أن وطأت أقدام مهاجريه الأوائل أرض فلسطين، إلاّ أن هذا النجاح لم يكن بفعل عوامل ذاتية فقط، بل هو نتاج مشروع أوروبي عالمي هدف لحل مشكلة يهود أوروبا والعالم على حساب طرف خارجي، وهو هنا العرب بطبيعة الحال، وتحديدا الفلسطينيين. فطالما شكّل اليهود في أوروبا معضلة اجتماعية واقتصادية للنظام الرأسمالي الأوروبي، ارتأت أقطاب هذا النظام حلها عن طريق إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وهو ما كان. بكلام آخر، ما حققته إسرائيل من نجاح، لم يكن ليرى النور لولا الاحتضان الذي أمّنته له القوى العالمية، وبالتناوب من بريطانيا وغيرها إلى الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى: وصفت الولايات المتحدة الأمريكية عمليات الطعن التي نفذها فلسطينيون بـ"هجمات إرهابية"، لكنها امتنعـــت عن استخدام المصطلح نفسه لتوصيف عملية طعن نفذها الجمعة شاب يهودي إسرائيلي ضد فلسطينيين.هكذا قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية جون كيري.. ردا على سؤال في نهاية مؤتمره الصحافي اليومي عن عمليات الطعن العديدة التي نفذها في الأيام الأخيرة ناشطون فلسطينيون ضد المستوطنين، فقد ذكر:" تعتبر أعمال العنف هذه أعمالا إرهابية" بحسب تعبيره. وأضاف: الهجمات بالسلاح الأبيض وإطلاق النار هي إرهاب.
نعم، هذه هي عدالة راعية دولة الإرهاب، التي تشرع للكيان كل ما يقترفه من جرائم بحق شعبنا، وتصفه "بأنه دفاع مشروع عن النفس"، هكذا هي سليلة الحكومات التي اقترفت المذابح بحق سكان أمريكا الاصليين من الهنود الحمر. للعلم: أمريكا وإسرائيل هما من روجتا لـمصطلح "الإرهاب الفلسطيني" بعد عقدهما لمؤتمرين في القدس المحتلة عام 1979، وفي واشنطن عام 1984 وسميا باسم "جاناثان" شقيق نتنياهو الذي قتل في الهجوم الإسرائيلي على الفدائيين الفلسطينيين في عنتيبي. من المخططين للمؤتمر شيمعون بيريز، هنري كيسنجر، هنري جاكسون، روبرت موس وبرجينسكي. بعد أن روجوا إعلاميا لما سموه "أيديولوجيا مكافحة الإرهاب".
من المفيد ذكره أيضا أن هناك بندا، يحمل الرقم 497 في "قانون الحرب البرية"، الصادر عن المصادر التشريعية للجيش الأمريكي ويحمل الرقم FM27-10 ينص على ما يلي: في حالة الحرب، وإذا ما قامت القوات المسلحة لبلد ما باحتلال أرض بلد آخر، ولم تلتزم بقواعــــد القتال القانونية، فإن الطرف المعتدى عليه والمحتلة أرضه في حلّ من القيود التي يفرضها القانون". هذا نص الترجمة الحرفية للمادة المذكورة، بمعنى أنه وفقا للقانون الامريكي، فإن إسرائيل هي التي احتلت ارضنا، بالتالي فهي المعتدية، هذا أولا.
ثانيا، إسرائيل هي التي ترتكب المذابح والجرائم والموبقات وصولا إلى الهولوكوست بحق شعبنا. ووفقا لنصوص هذه المادة في القانون الأمريكي، فنحن الفلسطينيين، في حل من قواعد القتال حتى لو امتلكنا جيشا رسميا. ثالثا، إن أسلحة شعبنا في مقاومته ليست قذائف عنقودية ولا اسلحة فوسفورية وإنما سكاكين مطبخ، مفكات، عجلات سيارة..الخ. رابعا، الحقيقة الأخيرة أننا الشعب المحتلة أرضه، الذي شرّعت له الأمم المتحدة وبقرارات واضحة: الحق في إقامة دولته المستقلة وتقرير مصيره، وعودة لاجئيه إلى أرضيهم، وحقه في مقاومة محتليه، بما في ذلك استخدامه للكفاح المسلح. السؤال لوزيري العدل والخارجية ورئيس الولايات المتحدة: أين أنتم من تطبيق هذه المادة في القانون الأمريكي؟

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد