يخطّ الشعب الفلسطيني المنتفض في الأراضي المحتلة ملامح مرحلة جديدة، بعد أن عاش فصول ملهاة كبيرة على مدار عقدين من الزمان بعد إتفاق أوسلو 1993، ذاق خلالها الأمرين، حيث تضاعفت عمليات الإستيطان ونهب الأرض، واستمر إعتقال آلاف الفلسطينيين داخل المعتقلات الإسرائيلية، وسقط آلاف الشهداء والجرحى في أكثر من جريمة نفذها الإحتلال، وحوصر قطاع غزة وتحولت حياة السكان فيه إلى جحيم لا يطاق، وتم بناء جدار للفصل العنصري حوّل الضفة الغربية إلى معازل شاهدة على أسوأ نظام للفصل العنصري في العصر الحديث، ترافق مع إقامة مئات الحواجز العسكري على طرقات الضفة الغربية بما فيها القدس، تتعمد بشكل يومي اذلال الفلسطينيين، وتعطيل حركتهم وتجارتهم بين المحافظات المختلفة، وتعرضت قرى فلسطينية كثيرة لغزاوت المستوطنين، تقتلع من أرضها الأشجار المثمرة وتحرق الأطفال وتهدد الآمنين في بيوتهم، آخرها ارتكاب جريمة إحراق عائلة دوابشة بعد أن حرقوا الطفل محمد أبو خضير، المحفزّ الكبير لصحوة الفلسطينيين من وهم صناعة السلام مع حكومة إحتلال يمينية متطرفة يقودها غلاة المستوطنين.
راهنت إسرائيل وبعض الأطراف الدولية على تدجين الشعب الفلسطيني، وفرض شروط الإستسلام عليه تدريجياً من خلال فرض وقاع على الأرض أولاً، كالإستيطان وبناء الجدار وتهويد القدس وطرد سكانها الفلسطينيين، ومن خلال اتفاقات أمنية تجعل من السلطة الفلسطينية حارساً على أمن الإحتلال ومستوطنيه الذين مارسوا الإرهاب المنظم بشكل علني ثانياً، يترافق ذلك مع عجز السلطة الفلسطينية وأجهزة أمنها عن توفير الحماية لأبناء الشعب الفلسطيني، عجز وضعها في دائرة الحرج مع أبناء الشعب الفلسطيني، وأعاد طرح التساؤلات حول موضوع التنسيق الأمني ومجمل الوظائف التي تؤديها السلطة في ظل الصلف الإسرائيلي الذي وصل إلى مستويات لم يشهد لها الشعب الفلسطيني مثيل من قبل.
خلال عقدين من الزمن جرى تآكل خطير على المشروع الوطني الفلسطيني، ولم يعد محرماً الحديث عن إعادة توطين اللاجئين مثلاً، وتحوّل هدف حل الدولتين إلى أمر بعيد المنال في ظل تفشي الإستيطان وبناء جدار الفصل العنصري ، وأصبحت فكرة تحوّل السلطة بوظائفها وشكلها الحاليين إلى نواة دولة أيضاً أمر صعب التحقق، بعد أن فقدت السلطة الفلسطينية العديد من أوراق قوتها، بفعل الإنقسام الداخلي وغياب الحاضنة الشعبية لها، نتيجة لعجزها عن تقديم حلول لمعظم الأزمات التي عصفت بالمجتمع الفلسطيني، وقد تحوّلت إلى سلطة قمع بوليسية اعتدت على الحريات العامة والخاصة، بعد أن عطّل رئيسها عمل مؤسسات الشعب الفلسطيني، وحاول جاهداً حتّى وقت قريب أن يستمد شرعيته من مجلس وطني أكل عليه الدهر وشرب، بعد أن مارس سلسلة من الإقصاءات والتهميش بحق معارضيه، ليتفرد في قيادة سلطة أصبحت بنظر الكثير من المواطنين عقبة كأداء في طريق نهضة الشعب وحريته.
كان الجميع يترقب انطلاقة الإنتفاضة الفلسطينية، بعد كل ما سبق وأكثر، فجميع أسباب تفجرها متوفرة منذ زمن، بل تأخرت كثيراً بفعل عوامل الكبح الداخلية من عصابة طفيلية خطيرة نمت في أحشاء السلطة الفلسطينية والأحزاب السياسية وجدت في اندلاع الإنتفاضة تهديداً لمصالحها ومصدر ثرائها، وحاولت تضليل الشعب لكسب الوقت الذي يحقق لها مزيداً من نهب المال العام تحت شعارات مختلفة، ووظفت معها ماكنة إعلام تسعي لتحقيق الهدوء والإستقرار بحجة الحفاظ على دماء أبناء الشعب الفلسطيني، وتحصي الخسائر التي ستلحقه جراء معركة غير متكافئة مع الإحتلال في حال إندلاعها، وكأن القتل والإعتقال وهدم البيوت كان متوقفاً بحق الفلسطينيين، ولم يتضاعف عشرات المرات بعد وهم أوسلو والسلام الكاذب الذي يتحقق بالمفاوضات والرعاية الأمريكية لها.
خرج المارد الفلسطيني في كافة ميادين الأرض المحتلة، متسلحاً بتجربة انتفاضتين وما سبقهما من نماذج كفاحية خاضها الشعب، معلناً انتفاضته ضد كل أشكال الجرائم الإسرائيلية، ونهوضاً ضد كل ملامح العجز وقلة الحيلة التي لصقت بأداء القيادة الرسمية، ليخطّ بالكفاح الوطني عهد جديد ورسائل كثيرة من لم يفهمها ستدوسه التجربة أو أقدام الجماهير:
الرسالة الأولى:
أن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يتعايش مع الإحتلال والإستيطان، وان وجودهما في الأراضي المحتلة يعني استمرار المواجهة والتصدي والدفاع عن النفس بكل الوسائل المتاحة والتي تضمن ديمومة الإنتفاضة وحيوتها، وأن هدف الحرية والإستقلال محفوراً في وجدان الشعب الفلسطيني، جيلاً بعد جيل، لا يمكن لكل وسائل التضليل أن تمحوه من الذاكرة الفلسطينية، ومهما اشتدت حدة البطش والجرائم الإسرائيلية، فهي لن تقوى على إرادة شعب قرر صناعة حريته.
الرسالة الثانية:
أن مشروع سلطة مشروطة بوظائف محددة تحت الإحتلال، أمر كشفت التجربة عن مدى ظلمه وهشاشته، وهو أمر مرفوض وطنياً ومؤهل للإنهيار بفعل التجربة، وبفعل غطرسة الإحتلال وعصابات مستوطنيه، وقد حان الوقت الذي يعلن فيه عن إنهاء مختلف التعهدات التي فرضت على الشعب الفلسطيني بموجب اتفاق اوسلو الإنتقالي، وأن حاجة الفلسطينيين أكثر لبناء جبهة وطنية تعيد صياغة أهداف الشعب الفلسطيني، وتلتحم مع نضاله الوطني التحرري، وتنطلق للعالم برسالته العادلة والواضحة، وتجند لها كل أشكال الدعم والإسناد العربي والدولي بما يشكل حصانة للفلسطينيين من بطش الإحتلال وجرائمه.
الرسالة الثالثة:
أن الإنقسام الذي عجزت القوى السياسية عن انهائه، سينتهي موضوعياً سواء رغبت الفصائل أو لم ترغب، بفعل كفاح الشعب الفلسطيني واستمرار انتفاضته، ولن يكون بمقدور أيّ تنظيم سياسي الوقوف ضد رغبة الجماهير التي خرجت إلى الميادين لتواجه الإحتلال ولم تسقط من وعيها هدف إنهاء الإنقسام.
الرسالة الرابعة:
أن تجربة المفاوضات السياسية لإنهاء الإحتلال بدون فعل ميداني متزامن معها وبدون تفعيل كل عوامل قوّة الشعب الفلسطيني قد انتهت إلى غير رجعة، ويجب أن تدفن هذه التجربة المريرة التي كلّفت الشعب الفلسطيني كثيراً، ووفرت غطاءاً لكل ما مارسه الإحتلال من جرائم.
الرسالة الخامسة:
أن الحجارة والمولتوف والمتاريس ومختلف الإبداعات النضالية الفردية والجماعية التي يستخدمها الشباب الفلسطيني في مواجهة الإحتلال، هي شكل ناجح ومجرب ويمكنه أن يحقق نتائج أكثر وخسائر أقل ومدى أطول، عوضاً عن عسكرة الإنتفاضة، هذا الشكل النضالي الشعبي يتقبله المجتمع الدولي ويساعد في تطوير وتعزيز حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، ويسقط رواية الإرهاب التي حاولت إسرائيل وصمها على نضال الشعب الفلسطيني.
لن يقبل الشعب الفلسطيني أن يعاد انتاج تجربة جديدة فاشلة، بأدوات فاسدة، ونظام سياسي ساعد على نشر الإحباط واليأس، فالإنتفاضة أسقطت الرهان على موت الشعب، والجماهير الفلسطينية التي خرجت إلى الميادين تقدم أغلى ما لديها من تضحيات، ستكون قادرة على تنظيم نفسها، وفرز قيادتها، واحتضان من يشاركها المعركة، ووضعت جميع القوى السياسية والإجتماعية أمام محك عملي لا يمكن تجاهله أو التذاكي على وعي الناس ونضجها وقدرتها على معرفة الغث من السمين.
بقلم/ محمد أبو مهادي