حتى لا تؤول "الهبة / الانتفاضة" الى ما آلت اليها سابقتاها

بقلم: علي الصالح

عودنا الشعب الفلسطيني خلال تاريخه النضالي المعاصر، واثبت خلال المئة عام الماضية أنه يتمتع بقدرة عالية على قراءة الخريطة السياسية والتحرك بموجب أحاسيسه التي لم تخذله يوما.

وهو بذلك وبدون مبالغة في القول، من يقود قيادته وهو الذي يتحرك دوما في اللحظة الحرجة والملائمة لإخراجها من مآزقها بل إنقاذها منها…

أثبت هذا الشعب ذلك في ديسمبر 1987، وفاجأ العالم، بإشعال نار الانتفاضة الأولى (انتفاضة أطفال الحجارة) التي وضعت حجر الأساس لأساليب النضال اللاحقة وللتغير الذي طرأ على الرأي العام العالمي ووسائل الاعلام الأجنبية، لصالح القضية الفلسطينية. انطلقت الانتفاضة بعد أشهر قليلة من القمة العربية في العاصمة الاردنية عمان. عندما قرأ هذا الشعب الإهانة في عيون زعيمه الرئيس الراحل ياسر عرفات وهو يستقبل في المطار بوفد أقل مستوى من أي من الوفود التي استقبلت الزعماء العرب الآخرين المشاركين في القمة، وقرأ الضعف في نبرات صوت عرفات، خلال القمة العربية التي كادت أن تُغٓيّٓب فيها القضية الفلسطينية.. وانتفض الشعب بمسبب يحصل كل يوم وهو استشهاد فلسطيني دهسا في قطاع غزة.. فأعاد الأمور إلى نصابها وعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة القضايا العربية والعالمية، وتبوأت موقعها المركزي الذي يليق بها.

لكن الشعب الفلسطيني لم يقطف ثمار هذه الانتفاضة على نحو يليق بحجم تضحياته، فكانت أحد قسطين دفعتهما قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ثمنا لاتفاق أوسلو المشؤوم عام 1993، الذي تفسر كل مادة من مواده لصالح الطرف القوي، وليس الفلسطينيون ذاك الطرف. وكان القسط الثاني تنازل قيادة منظمة التحرير عن أقوى الأوراق أو بالأحرى آخر الأوراق في يديها، وهي الاعتراف بدولة الاحتلال على ٪78 من ارض فلسطين التاريخية مقابل ماذا.. مجرد اعتراف مقابل بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، وما كان ثمة حاجة لهذا الاعتراف بهذا الثمن الباهظ.

وكذلك الحال بالنسبة للانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) التي انطلقت أواخر سبتمبر2000 وقدم الشعب الفلسطيني فيها أكثر من 4000 شهيد، وكان المسبب الظاهري لها تدنيس مجرم الحرب الصهيوني الجنرال ارييل شارون، باحة الحرم القدسي، التي تضم بين جنباتها قبة الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك. غير أن السبب الحقيقي، كان تعزيز موقف الرئيس الراحل ياسر عرفات تفاوضيا بعد الضغوط التي تعرض لها في منتجع كامب ديفيد الرئاسي الأمريكي، من داخل فريقه التفاوضي ومن الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون وطبعا فريق التفاوض الاسرائيلي، لإجباره على القبول والتوقيع على اتفاق منقوص ومرفوض شعبيا، خاصة في موضوع القدس.

وكما في الانتفاضة الاولى أجهضت الانتفاضة الثانية في النهاية لسببين: الاول.. رغم أن الهدف منها كان واضحا وهو تعزيز موقف الرئيس الراحل تفاوضيا، إلا أن فشل المفاوضات وتوقفها تقريبا مع وصول الرئيس الامريكي جورج بوش الابن إلى سدة الحكم في البيت الأبيض مطلع 2001، مع برنامج سياسي وعسكري لا تزال المنطقة تعاني من ويلاته، الغى السبب الذي انطلقت من أجله. وجاءت جريمة تدمير البرجين في نيويورك لتزيد الطين بلة، كما يقول المثل، ولا تزال المنطقة تدفع ثمنها حتى وقتنا هذا. فضاع الهدف وانتهت في غياب خطة بديلة.

والسبب الثاني هو غياب الاجماع الوطني والفصائلي حول الأسلوب المتبع.. هل انتفاضة شعبية، كما الانتفاضة الأولى وقودها الحجارة، أم انتفاضة مسلحة. وبدون اي تخطيط او تفكير عميق، اتخذت الانتفاضة المنحى العسكري في غياب قيادة موحدة واستراتيجية واضحة المعالم أو تنسيق بين الفصائل او بالأحرى الأجنحة العسكرية المختلفة لهذه الفصائل. وأصبح كل فصيل يعمل على هواه، وكانت السمة العامة للمواجهات هي عمليات استشهادية كانت تتم في معظمها حتى لا نكون مجحفين، لكسب تعاطف الجمهور لصالح هذا الفصيل أو ذاك، وخدمة لأهدافه وليس المصلحة الوطنية العامة.

المقومات لانتفاضة ثالثة قائمة الان رغم قناعة بعض النخبة بغير ذلك.

أولها وأهمها انسداد الأفق السياسي الذي عكسه خطاب الرئيس محمود عباس امام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووجود فراغ ناجم عن فشل برنامج التسوية والمفاوضات التي أصبح الحديث عنها يثير السخرية، وأحيانا الغضب في الشارع الفلسطيني. فقد تحولت المفاوضات خلال السنوات العشرين الاخيرة أو أكثر، إلى مجرد ملهاة.. وغطاء للفشل والعجز الدوليين أمام الغطرسة الإسرائيلية.. واستغلت هذه السنوات إسرائيليا لزرع مزيد من المستوطنات والبناء الاستيطاني، حتى فاق عدد المستوطنين النصف مليون، يبسطون سلطتهم تحت حماية الجيش على أكثر من ثلثي الضفة الغربية، ويعيثون بالبقية الباقية فسادا وتخريبا. ودفعت اسرائيل الأوضاع إلى نحو لا يحتمل.

ثانيها: القدس بمقدساتها الإسلامية والمسيحية تهود وتضيع من بين أيديهم وامام اعينهم واعين العرب والمسلمين والمسيحيين والعالم أجمع، بوتيرة غير مسبوقة في غياب اي تحرك فلسطيني او عربي او إسلامي أو دولي.

ثالثا فقدان الإيجابيات القليلة لاتفاق أوسلو ومنها، السيطرة على المعابر وسيطرة الأمن الفلسطيني على المدن الرئيسية او ما يعرف حسب اتفاق أوسلو بمناطق "أ" وهي المناطق التي يفترض أن تكون خاضعة أمنيا وإداريا للسلطة. وأصبح جيش الاحتلال يجول ويصول في هذه المناطق ويطارد ويعتقل، بدون أن يكون بمقدور رجل الأمن الفلسطيني أن يحرك ساكنا. والادهى من ذلك أن المحكمة الإسرائيلية العليا اجازت لجيش الاحتلال هدم منازل في هذه المناطق..

رابعا تواصل أعمال القتل، بل الإعدامات وإطلاق أيدي المستوطنين في اعمال القتل وحرق البشر والشجر والحجر.

خامسا تراجع القضية الفلسطينية إلى قاع الاهتمامات العربية والدولية.

سادسا احساس الإنسان الفلسطيني بأن عليه الاعتماد على امكانياته الذاتية، وألا يتوقع المعونة والدعم من الخارج مع إشغال الشعوب العربية الحية بمشاكلها الداخلية، وانشغال الاخرى في حروب طائفية تصديرا لمشاكلها.

اذن مقومات الانتفاضة قائمة بامتياز… ولكن ولكي لا تؤول الهبة الحالية او الانتفاضة الجديدة سمها كما شئت، إلى ما آلت اليه الانتفاضتان السابقتان.. وحتى لا نقع في الأخطاء القاتلة نفسها.. وكي لا تذهب دماء الشهداء الغالية هدرا.. وحتى لا تذهب عذابات الأمهات والاباء الثكالى هباء منثورا.. وكي لا نسمح للانتهازيين والمستفيدين والمنتفعين وتجار الدماء، بركوب موجتها وحرفها عن مسارها وأهدافها.. وحتى تتكل الانتفاضة المجيدة بالنجاح والنصر المبين… فهذا يتطلب:

أولا وقبل كل شيء نبذ الخلافات ووقف المناكفات السياسية والانقسامات وازالة اسبابها ومسبباتها، والارتقاء فوق المصالح والمنافع الفئوية والفصائلية لصالح المشروع الوطني وتحقيق المصالحة وتوحيد الصفوف بإنهاء الانقسام الذي اصبح عارا يطال كل المسؤولين عنه.

تضافر الجهود كل الجهود وكل مكونات الشعب ومركباته، بدون استثناء بعيدا عن المزايدات التي لا تفيد سوى أعداء الشعب الفلسطيني والمتربصين به داخليا وخارجيا..

الاتفاق على الأهداف المرجوة والوسائل والأساليب النضالية لتحقيقها.. وعدم حرف بوصلتها لأي سبب من الأسباب.

الاتفاق على قيادة ميدانية تشارك فيها كل الأطياف السياسية الوطنية منها والإسلامية، تكون هي المرجعية والمسؤولة الأولى امام القيادة السياسية.

على أن يتزامن ذلك مع:

عودة السلطة الفلسطينية إلى مشروعها الوطني المتفق عليه، لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وليس القدس الشريف فهناك فرق، ضمن جدول زمني متفق عليه.

ـ إيفاء الرئيس عباس بما أعلنه في الجمعية العامة امام رؤساء العالم والمجتمع الدولي وأكده في خطابه بمناسبة رأس السنة الهجرية الجديدة، والعمل على تطبيقه. وهذا هو عشمنا به. وهذا يشمل:

- لا مفاوضات عبثية بعد اليوم وعدم العودة إلى طاولة المفاوضات، إلا لغرض الاتفاق على تفاصيل تطبيق المشروع الوطني.

إعادة بناء أو ترميم منظمة التحرير على أسس متفق عليها من كل الفصائل الحية.. وتنشيط روافدها، لاسيما الشعبية والنقابية منها، مع الغياب الفعلي للكثير من الفصائل على الارض.

احترام قرارات الشرعية الفلسطينية.

- وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل.

- وقف التعامل باتفاق باريس الاقتصدي الظالم والمجحف.

- السعي الجاد نحو محكمة الجنايات، إذ لم تعد المماطلة ممكنة، لتقديم مجرمي الحرب الإسرائيليين إلى العدالة، بدءا برئيس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء وقادة الأجهزة الأمنية. هناك ادراك كامل تماما أن الامر ليس بالهين ولن يتم بغمضة عين.. ولكن الألف ميل تبدأ بخطوة. وإذا لم نتحرك جديا فلن يكون هناك الف ميل ولا حتى ميل واحد.

ممارسة الدولة على الارض.. وهبنا المجتمع الدولي اعترافا بالدولة وعضوية، وإن كانت غير مكتملة الحقوق، ولكن الاعتراف موجود على الارض ورام الله تعج بالسفارات والقنصليات والممثليات الدبلوماسية وأصبح في رام الله حي يعرف بحي السفارات.

ما تقدم ليس الا محاولة واجتهادا… ولكل مجتهد نصيب.

كاتب فلسطيني من أسرة القدس "العربي"

 

علي الصالح