قطاع غزة والمساهمة في الانتفاضة
قطاع غزة جزءٌ أصيلٌ وعزيزٌ من أرض الوطن الغالي فلسطين، وهو قطعةٌ صغيرة المساحة عظيمة الأثر من أرض الوطن الكبير، قدر الله له أن يتحرر وأهله، وأن يتطهر وأرضه، وأن يتخلص من الاحتلال وشعبه، وألا يعود فيه محتلٌ أو مستوطنٌ، فقد رحلوا جميعاً عنه في يومٍ مشهودٍ وليلةٍ لا ينساها الفلسطينيون، وتركوا وراءهم مستوطناتٍ بنوها، ومعسكراتٍ شيدوها، وأسلاكٍ شائكةٍ نصبوها، وأسوارٍ عازلة علوها، وأبراجٍ عالية رفعوها، ومشاريع أقاموها، ومساكن ومستشفياتٍ ومدارس وجامعات ومزارع ونوادي خربوها قبل المغادرة، لئلا يبقى منها في غزة أثرٌ أو معلم يستفيد منها الفلسطينيون وينتفعون، فقد أجبروا على الرحيل والمغادرة، فتركوا كل شئٍ كانوا يظنون أنه لهم، وخلفوا وراءهم أحلامهم وخيالاتهم وأساطيرهم وخزعبلاتهم ونبوءاتهم، ولم يلتفتوا إلى شئٍ كانوا يؤمنون به، ويعتقدون أنه جزءٌ من وعد الرب لهم.
من غزة ومن مخيم جباليا لللاجئين انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى، واستعرت نارها واتقدت، حتى عمت فلسطين كلها، وشملت الوطن بكل ألوانه وأشكاله، وأحزابه وتنظيماته، وقدم سكانه خلالها شهداءً عظاماً، وأسرى أبطالاً، وآلاف الجرحى والمصابين.
وفي الانتفاضة الثانية كانوا الغزيون سباقين ومقدامين، فأعطوا وما بخلوا، وسبقوا وما تأخروا، وابتكروا وابتدعوا، وأحسنوا وأبدعوا، وقدموا الجديد واللافت، والقوي والمثير، والموجع والمؤلم، ودفع سكانه ضريبة مقاومتهم، وثمن صمودهم وتحديهم، فدك شارون أرضهم، ودمر بيوتهم، وقسم مناطقهم وجزأها، ولكن أمله خاب، وجهده ضاع، ومخططاته فشلت، إذ رحل بعدها وهرب.
غزة دوماً جزءٌ من المعركة أصيلٌ، وفصيلٌ في الحرب كبيرٌ، وقطاعٌ في الجبهة متقدمٌ، وفيلقٌ في القتال منتصر، ورايةٌ مرفوعةٌ، أعلامها ترفرف، ورجالها يتصدرون المقاتلين، ويشعلون الجبهات، ويخوضون الصعب، ويتحدون المحتل، وينتصرون لأنفسهم ولإخوانهم، ويهبون انتقاماً لأبنائهم وثأراً لشعبهم، لا تقعدهم الخطوب، ولا تفت في عضدهم الصعاب، ولا يخيفهم العدو وإن بطش، ولا يردعهم وإن قتل.
اليوم يسأل كثيرون أين غزة ورجالها، وأين المقاومة وصواريخها، وأين الكتائب والألوية، والجبهات والقوات، وأين قادة الفصائل، ولماذا لا يهبون بسلاحهم نصرةً للقدس والأقصى، وانتصاراً لفلسطين والضفة، فإن لم يتحركوا اليوم نصرةً للقدس فمتى يتحركون.
ليس المطلوب من غزة الباسلة اليوم ومن مقاومتها العتيدة، أن تطلق صواريخها على المدن والبلدات الإسرائيلية، فنحن نعرف تماماً، والعدو يعرف يقيناً أن المقاومة الفلسطينية تستطيع أن تدك بلدات الغلاف كلها، كما أنها قادرة على أن تصل إلى عمق الكيان وقلبه وشماله، وقد باتت صواريخها المحلية الصنع والمهربة دقيقة نسبياً، وكما أنها قادرة على الوصول إلى أغلب أهدافها، فإنها أصبحت قادرة على إلحاق الضرر والأذى في الأرواح والممتلكات، فضلاً عن قدرتها الرهيبة على إثارة الذعر والهلع في صفوف المستوطنين جميعاً.
إلا أننا ندرك أن الإسرائيليين يبحثون عن حرف انتفاضة القدس، وتغيير شكلها ومسارها، وتحويل الأضواء عنها، وإجهاضها بطريقةٍ أخرى، بعد أن بات غير قادرٍ على مواجهة شبابها، الذي يتقد في كل يومٍ حماسةً أكثر، ويزداد عدداً، ويوغل في صفوف العدو أكثر، فلعل المواجهة العسكرية الشاملة، عبر حربٍ وحشية جديدة يشنها على قطاع غزة، تنقذه من مستقبلٍ غامض، وتعفيه من دفع استحقاقاتٍ كبيرة، وتكون كفيلة بوأد الانتفاضة، وإشغال الفلسطينيين في حدثٍ آخر، وحربٍ دمويةٍ جديدة، يطالب العالم كله بوقفها.
إذا كنا لا نطالب قوى المقاومة في قطاع غزة أن تنجر إلى حربٍ جديدة مع الكيان الصهيوني، رغم اعتقادنا أنها آتية قريباً لا محالة، فالعدو يتهيأ لها، ويهدد بها من حينٍ إلى آخر، في محاولاتٍ منه مستميتة للهروب إلى الأمام، للتخلص من مشاكله والهروب من الاستحقاقات المفروضة عليه والمطالب بها دولياً.
فإننا نطالبها وقادة الفصائل في قطاع غزة، بحماية الشباب الفلسطيني والوقوف إلى جانبهم، وعدم دفعهم كل يومٍ لمواجهةٍ غير عاقلةٍ ولا حكيمة، خلف الأسوار العالية والأسلاك الشائكة مع جنود العدو الصهيوني، الذين يقفون بعيداً عنها، ولا يمكن الاقتراب منهم، ولا الاشتباك بالحجارة معهم، ومع ذلك يسقط في قطاع غزة شهداءٌ كل يومٍ، دون أن يتمكنوا من إلحاق أدنى ضرر أو أذى بالجنود الإسرائيليين، الذين يفرحون بقتلهم، وتتشفى صدروهم بسقوطهم، لهذا ينبغي البحث عن شكلٍ آخرٍ من المظاهرات والاحتجاجات، نشارك فيها أهلنا في القدس والضفة الغربية، ونكون معهم وقبلهم، وفي الوقت نفسه نوجع العدو ونؤلمه، ونؤذيه ونلحق بها خسارةً توجعه، ترضي نفوسنا، وتثلج صدرونا، ونروي بها بعض غليلنا.
لكننا لا نريد أن نقدم له المبرر الآن لينحر بها الانتفاضة الغضة ويقضي عليها، فهو يعلم يقيناً أن صوت الحرب أعلى، وقعقعة سلاحها أكبر، ودوي صواريخها وقصف طيرانها ودك مدافعها يغطي على كل صوتٍ آخر، ويدفع المجتمع الدولي كله إلى رفع الصوت عالياً والصراخ دائماً مطالباً بوقف الحرب وإنهاء القتال، وبذا ينهي الانتفاضة التي توجعه باستمرارها وعدالتها وشيوعها وتجذرها.
الحرب قد تشغله أياماً قليلة مهما طالت، ولكن الانتفاضة قد تشغله سنين طويلة، وهي بالتأكيد ستربكه زمناً أطول، والحرب إن كلفت ميزانيته مبالغ كبيرة، فإنها لفترة محدودة وتنتهي، ولكن الانتفاضة تتطلب ميزانياتٍ متجددة، وأموال متدفقة، يدفعها المواطن الإسرائيلي ضريبةً، فضلاً عن أنها ستثقل كاهل الاقتصاد، بعد أن تعطله وتحدث فيه اضطراباتٍ تجمده فترةً طويلة، وتقلص من حجم مدخولاته وكميات إنتاجه.
وهي تحرج بهذا الشكل العدو أكثر، وتربكه ومستوطنيه وحكومته، وتتسبب له في مشاكل دولية، وتحدياتٍ إقليمية، وتسقط محاولاته لاستخدام ترسانته العسكرية، إذ أنها تحيد قطاعاتٍ كبيرة من أسلحته الفتاكة، فلا يستطيع استخدام سلاح الطيران ولا الصواريخ والمدفعية، ويبقى عدوانه –وهو كبير- مقتصراً على البندقية والمسدس، وقنابل الغاز وخراطيم المياه، وغير ذلك مما يقوى الشعب على مواجهتها والصمود أمامها.
إن الحفاظ على شكل الانتفاضة الحالي، دون أن ندخل إليها سلاحاً حربياً جديداً، يمد في عمرها، ويزيد من فرص نجاحها، ويوسع انتشارها، ويعمق جذورها في كل الأرض الفلسطينية، ويعمم المقاومة، ويشرك الشعب بكل فئاته فيها، وينمي ثقافة المقاومة الشعبية الشاملة، ويعيد الشعب والأمة إلى ظاهرة الانتفاضة الأولى النبيلة، التي أحسنت رسم صورة الشعب، وأعادت إخراج قضيته في إطارٍ أفضل، وأكثر جاذبية وعدالةٍ.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي