بداية، إن تلبد الغيوم في السماء، لن يحجب حقيقة أن الشمس سوف تشرق من جديد، هذا في الطبيعة، فكيف أمام الفعل الجدي والصادق الذي يقوم به شباب وشابات فلسطين من خلال عملياتهم البطولية التي ما تزال مستمرة ومتصاعدة وتكتسب أحترام وتأييد ومساندة كافة شعوب وأحرار العالم ، وفي ظل تزايد التعاطف للرأي العام العالمي مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
وعليه نرى أن الفلسطيني لم يعد يقبل بحل، كي لا يخسر كل شيء،حيث أثبتت الهبة الشعبية العارمة أكثر من أي وقت مضى بأنها أدخلت الرعب في أوساط الكيان الاسرائيلي والمستوطنين الصهاينة ، وقد ظهر ذلك من خلال الهستيريا التي يعيشها هذا الكيان في القدس وفي كل ارجاء فلسطين المحتلة ، وكل ذلك يعود الى تكاتف وتلاحم كافة فئات الشعب الفلسطيني في مقاومة هذا الاحتلال العنصري الاجرامي الحاقد ، لهذا فقط أربكت الهبة الشعبية وأحرجت بشدة الجميع ، وأظهرت عجز وإخفاق وتخاذل معظم الانظمة العربية في دعم ومساندة النضال الفلسطيني
ومن هنا نرى بأن الهبة الشعبية نقلت القضية الفلسطينية الى آفاق جديدة من الدعم والتعاطف الاقليمي والعالمي مع الشعب الفلسطيني , من خلال المظاهرات الكبرى في كافة أنحاء العالم المساندة والمتعاطفة مع الشعب الفلسطيني وحقه المشروع في تقرير المصير ، لهذا فأن القضية الفلسطينية تُمثل بلا منازع أهم قضايا التحرر الوطني في عصرنا الراهن والتي لن يكتب لها النجاح سوى بزوال الاحتلال الصهيوني باعتباره آخر الكيانات العنصرية المتبقية في العالم المعاصر ، وقد ظهر هذا التعاطف والتأييد بشكلٍ متزايد في معظم البلدان الآسيوية والاوروبية والافريقية وعلى وجه الخصوص في دول أمريكا اللاتينية التي بادر العديد منها الى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني .
ان استمرار تطور الهبة الشعبية وعلى كامل نطاقها الجغرافي ( الضفة وغزة والمحتلة عام 48 ) يشير بشكل لا يقبل النقاش امكانيات الاستمرار واتساع مداها الى حالة لا يمكن وقفها او التقليل من مفاعيلها كرد فلسطيني طبيعي في مواجهة صلف الاحتلال وقطعان مستوطنيه من ناحية , ونتيجة لانعدام الثقة او البناء على امكانية استمرار النهج التفاوضي والارتهان بمنطق اليات استمرار ادارة الصراع وضبطه ، حيث ما زال البعض يراهن على امكانية استعادة العودة للحالة التفاوضية ومحاولة استثمار القائم حاليا .
وامام كل المخاطر وما يروج له على لقاء رباعي في عمان ولقاءات ثنائية مع كيري والتي تستهدف اخماد الهبة الشعبية ، يؤكد الشعب الفلسطيني استمرار كفاحه ونضاله من اجل حقه العادل في تحقيق حقوقه المشروعة وذلك عبر وسائل نضالية , فان مسار نضاله لم يشهد حالة من الاستكانة والخنوع لإرادة المحتل بل على العكس من ذلك هي مسيرة كفاح فلسطينية متواصلة ومستمرة وان كانت تخضع في كثير من الاحيان والأوقات الى عوامل الصعود والهبوط , وهو بذلك يؤكد انه شعب حي مكافح مصمم على نيل حريته واستقلاله وعودته .
لذلك نرى ان عوامل كثيرة هي المحركة للهبة الشعبية الفلسطينية بعد سنوات من مسار أوسلو الذي علق في انسداد سياسي شامل، وتحول إلى سياق لتثبيت الاستيطان وإحكام قبضة المستعمرين الصهاينة على الضفة الفلسطينية المحتلة، حيث سقطت أوهام البعض من راهنوا على خيار المفاوضات كحل دون استناده لوسائل نضالية اخرى، وفي ظل ظروف اقتصادية اجتماعية شديدة البؤس تهاوى الرهان على رخاء مزعوم من الصناديق الأوروبية الخليجية تحت الاحتلال.
امام هذه الظروف ما زلنا نرى ان تقدم الهبة الشعبية وتحولها إلى انتفاضة قادرة على تحقيق توازن جديد للقوى في الصراع يتطلب انهاء الانقسام الكارثي وتعزيز الوحدة الوطنية وتطبيق قرارات المجلس المركزي الفلسطيني بانهاء التنسيق الامني ووقف الرهانات الخاسرة من اجل العودة الى مسار المفاوضات العبثية او رهان البعض على هدنة طويلة الامد والترويج لمشروع هونغ كونغ في غزة، بهدف محاولة خنق الجناح المقاوم في غزة تمهيداً لشطب فاعليته ودوره في حمل راية التحرير، وكل ذلك يستدعي رسم استراتيجية وطنية والعمل على حماية المشروع الوطني باعتبار ذلك هو الطريق إلى نهضة وطنية فلسطينية جديدة تدعم الهبة الشعبية للوصول الى انتفاضة ثالثة تشعل جذوة الكفاح الوطني ضدّ الاستعمار الصهيوني بالأفق الواقعي الوحيد وهو تحرير فلسطين.
ولعل الشباب الفلسطيني المناضل يهز بهبته وعملياته البطولية والتي كان اخرها عملية بئر السبع كيان الاحتلال وحليفته الادارة الامريكية، وهو يتحدى ما جعلوا منه مسلمات عقيمة لتدجين شعبهم وحتى يولد الجديد المقبل في مخاض الدماء والبطولات سوف تدور الهبات في حلقة متعاقبة من النهوض والخمود.
في هذا السياق تتصاعد الضغوط على القيادة الفلسطينية لوقف الهبة الشعبية التي اجتاحت سكون التآمر وسدود التدجين وفتحت أبواب الفلسطينيين للشمس فأدخلوا النضال الوطني الفلسطيني في اختبار جديد ، إن من يقوم بهذه الهبة هم أبناء جيل جديد من شعب يثور وينتفض ويقاوم منذ اغتصاب وطنه عام 1948 ، وخيارهم اسقاط وهم الدولتين والإيمان بفلسطين الحرة واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني
وفي ظل هذه الظروف يخرج شباب وشابات فلسطين يكتبون صفحات المجد ويتحدون الموت بالتظاهر ضد قمع الاحتلال وجرائم المستوطنين وبعض الأبطال يتقنون فنون الدهس بالجرارات والجرافات والباصات في عمليات لم يصدر بها امر من أي زعيم أوقائد وتتوالى اليوميات الدامية لأطفال وشبان وامهات وشيوخ ، حيث بهبتهم يؤكدون إدامة الانتفاضة باعتبارها مسؤولية وطنية للكل الوطني الفلسطيني ، وهذا يتطلب تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة يلعب فيها شباب الانتفاضة دوراً مركزيا إلى جانب بقية المؤسسات الوطنية لبرمجة فعالياتها ولتنويع أساليبها الكفاحية ، ولاشتقاق أساليب انتفاضية جديدة، ولهذا يلعب الشتات الفلسطيني دورا هاماً في إسنادها عبر مظاهرات متصلة ترفع شعاراتها ، وتضغط باتجاه إلغاء المعاهدات والاتفاقات الموقعة مع الكيان الصهيوني ، وإغلاق سفارات العدو الصهيوني ومكاتبه التجارية المنتشرة في هذه العاصمة أو تلك في العديد من البلدان العربية.
مما يستدعي من الاحزاب والقوى العربية استنهاض طاقاتها وتحمل مسؤوليتها في دعم الانتفاضة ، عبر دعمها مادياً وسياسياً ، وعبر تسيير المظاهرات التضامنية معها وعبر تظهير أهدافها السياسية.
من هنا نقول بصراحة يغلي الدم في عروق شباب فلسطين رغم ما تتعرض له المنطقة من هجمة امبريالية صهيونية استعمارية رجعية ارهابية ، الا ان صمود قوى المقاومة يشكل سندا حقيقيا لفلسطين ، فهذا الصمود والانتصارات تشكل انتصارا لشباب فلسطين وهبتهم الشعبية العارمة ، لأنهم هم الغد القادم بوعد انتصار وهم إرادة التحرير وأقدامهم وقبضاتهم تسحق الأوهام المختبرة على أرض الصراع وتكتب سطورا جديدة في الانتفاضة الموعودة التي لا بد ان يخشاها ويتآمر عليها جميع الخانعين في مربعات فنادق الترف سواء كانت وسط اسطنبول ام في الدوحة او في الاماكن الاخرى ، فشباب فلسطين وشاباتها بحجارتهم وسكاكينهم ومقلاعهم يرفعون رايات المقاومة وعلم فلسطين حتى تحرير الارض والانسان .
ختاما : لا بد من القول ان الهبة الشعبية العارمة خيبت بفعلها النضالي المجيد مرة اخرى آمال وتوقعات الكيان الصهيوني الذي ظن بأن الاحداث في العالم العربي والتآمر على محور المقاومة ستغطي على القضية الفلسطينية وتجعلها في مرتبة متأخرة من اهتمام شعوبنا العربية ، ولكن ما حققته انتفاضة وهبة شعبنا قد اعادت وضع القضية الفلسطينية الى المرتبة الاولى من الاهتمام العربي والعالمي وإعادتها الى مركز الصدارة من الاحداث ، وهذا بكل وضوح تأكيدا جديدا على أن حجم التآمر على القضية الفلسطينية والمنطقة بالذات قد افشلته دماء الشهداء هو من أهم مرتكزات النضال الوطني ، ومن هنا نؤكد على ثقتنا بان شعبنا سيحبط أهداف الحملة القمعية المتصاعده التي تستهدفه وتستهدف ارضه ومقدساته وسيواصل السير على طريق انتفاضته الباسلة حتى رفع علم فلسطين فوق القدس عاصمة الدولة الفلسطينية.
بقلم / عباس الجمعة
كاتب سياسي