نعيش اليوم ذكرى عاشوراء التي تجاوزت في معانيها ومدلولاتها الالم والحزن على هذه الفاجعة وهذا الخلل في التاريخ الاسلامي الذي اصاب الامة بجرح لازال ينزف حتى اليوم، ولتكون عاشوراء باحداثها وتفاصيلها مرحلة التاسيس لثقافة الثورة وتصحيح المسار للامة عبر مفاهيم الحرية والتضحية من اجل العدالة ورفض الاستبداد، هذه المعاني والقيم التي خرج الامام الحسين عليه السلام من اجلها ، اليوم الشعب الفلسطيني لن يفقد البوصلة من خلال هبته الشعبية التي تكتب حروف انتصارها بالدم، والجماهير العربية على امتداد العالم العربي تواجه اكبر مؤامرة في تاريخها الارهاب الصهيوني التكفيري بعد كل هذه القرون من تاريخ عاشوراء وموقعة كربلاء.
من هذا الموقع ونحن في ذكرى عاشوراء نقول أثبت الشعب الفلسطيني من خلال انتفاضته البحث عن سبل جدية للتحرر، بدلا من انتظار تعاطف ما يسمى بالمجتمع الدولي، أو التعويل على استئناف المفاوضات من أجل المفاوضات، من خلال تعديل موازين القوى وجعل قضية التحرير الوطنى عنوانه، من خلال الصمود في الأرض، والدفاع عنها، وردع اعتداءات المستوطنين الوحشية، وهذا ليس هدفا صغير، لهذا المطلوب إعادة انتاج الخطاب الوطني الفلسطيني، لان هذه الهبة تتخذ أشكالا متعددة، وسوف يكون مدخلا للنضال في مواقع مختلفة، من دون أن يعني بالضرورة عملا شاملا وموحدا، حيث نرى الوحدة الشعبية من قلب قواعد الاشتباك الجديدة، فهي بحق انتفاضة الصمود، التي ترفدها هبات غضب متواصلة، وهي المدخل إلى إعادة بناء فكرة فلسطين، بصفتها فكرة أخلاقية ومشروع عدالة.
اليوم نحن امام منازلة بين الدم والسلاح تماما كما كانت المواجهه بين الدم والسيف في كربلاء ، من هنا كان اندلاع الانتفاضة، لأن الشعب الفلسطيني، الواقع تحت الاحتلال الصهيوني، وصل درجة بالغة من الإحباط واليأس، فجابه الشباب والأطفال، العدو الإسرائيلي المدجج بأحدث الأسلحة، وهم مجردون من أي سلاح إلاّ إيمانهم بارادة النضال ، وبعدالة قضيتهم، والسكين والحجر، غير عابئين بالنتائج، التي يمكن أن تسفر عنها هذه المجابهة الحتمية، وهي القتل، والتمثيل، والإصابات والاعتقالات، والتعذيب، وهدم البيوت، وقطع الأرزاق، ومن هنا أُطلق على عناصر الهبة الشعبية، مصطلح شباب وشابات السكين والدهس والحجر والمقلاع ، حيث قدمت صورة حقيقية لواقع الاحتلال وإجرامه وممارساته اللاإنسانية ووفرت للقضية الفلسطينية ولأول مرة حاضنا شعبيا متكاملا وموحدا داخل فلسطين المحتلة وحتى على مستوى شعوب العالم وقواها التقدمية واليسارية ، وعلى مستوى الشعوب العربية واحزابها وقواها ومقاومتها الحية التي تواجه الهجمة الاستعمارية الصهيونية الارهابية التكفيرية ، لتكتب مرحلة جديدة في تاريخ الامة ، انها كربلاء تستعاد في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة في حياتنا ومستقبل منطقتنا تستعاد الارداة نحو التضحية من اجل مستقبل افضل للاجيال القادمة .
حيث تقف فلسطين لتعيد الى واجهة العالم القضية المركزية ، و قوى المقاومة في المنطقة رغم اختلال موازين بخندق المواجهة الهجمة الامبريالية الصهيونية الرجعية وارتكبت افظع المجازر بحق الشعوب التي تصدت لها بصدور عارية ، ندرك عندها ان ثورة الامام الحسين كانت ثقافة لكل انسان وملهمة كل طالب حق وحرية ، وان التنوير والنهضة والوصول الى الحرية قد تكون على حساب الجسد والدم..
ان ذكرى مأساة يوم عاشوراء الأليم ووقائع ملحمة ألطف الخالدة وفواجعها، مما يجعلنا ان نأخذ جميعاً من مناهجها الدرس تلو الدرس والعبر برشاقة ألقيمه إلايمانيه ومناهج تطور الفكر الإنساني لإرساء عالم متحضر متآخي لدحر الاستبداد والظلم والإرهاب الأسود مستلهمين ذلك من مواقع وسلوك ومنهج ثورة الأمام الحسين، ونستمد من واقعة الطف التاريخية معاني الحياة وفلسفتها وما رسمته للمستقبل خطوط خارطة الطريق الواضح للأجيال ،كون ملحمة الإمام الحسين أبو الأحرار أوقدت شعلة في أعماق التاريخ ولم تنطفئ جذوتها على مدى الزمن وحتى يومنا هذا مستمرة تجلت فيها ثورة الفكر الإنساني بعيدا عن الترهيب والترغيب متلازمة مع مبادئ الإسلام والتزاماته في المساواة وضمان حقوق المستضعفين القائم على أساس التحرير من العبوديه ومقارعة الظلم والفساد.
امام كل ذلك ندرك جيدا شرعية المقاومة في ممارسة حقوقها وواجباتها ، تلك الحقوق التي كفلتها كل الأنظمة و الشرائع و هي حقوق تولّدت من معاناة طويلة لآثار احتلال طارد قادة وكوادر ومناضلي المقاومة والشباب والشابات ، لهذا اكد الشعب الفلسطيني شعب النضال و التضحيات ، انه لم يهن ولم يستسلم ، و لم يتوقف شلال الدم على أرض فلسطين على الرغم من كل التسويات والتـنازلات و الانهيارات، فهذا الشعب الفلسطيني العظيم يخرج دائما من تحت الأنقاض كطائر الفينيق فيعيد الروح ليس فقط إلى الانتفاضة بل وإلى كل الأمة العربية و إلى كل الشعوب المحبة للسلام و العدالة.
فكانت عاشوراء ملهمة للشعب الفلسطيني فصمد الشعب الفلسطيني بمواجهة العدوان والارهاب الصهيوني في الضفة الفلسطينية والقدس وقطاع غزة في مواجهة سيف الاحتلال المدعوم من الامبريالية الامريكية ومعاقل الظلم التي ساندته في الغرب وكانت قيم كربلاء حاضرة في هبته الشعبية ، كما كانت حاضرة في انتصارات غزة وانتصارات المقاومة في لبنان .
نعم تواصلت الاجيال وحملت الامانة من اجل نيل الحرية وتقرير المصير وكان الصوت الفلسطيني الحر الذي استلهم من ثورة الحسين وثورات الاحرار في العالم الصوت المقاوم الذي يتحدى جبروت الاحتلال من اجل تحقيق اهداف الشعب الفلسطيني الوطنية المشروعه، ليثبت للعالم انه شعب العطاء والتضحية .
في يوم عاشوراء الهبة الشعبية الباسلة ستستمر ، ومن حق شباب فلسطين ان يتمسكوا بكل أشكال ووسائل النضال المعروفة وغير المعروفة ، من طعنٍ بالسكاكين الى الحجارة مرورا بالدهس وصولا المقلاع ، و لا يوجد قوة في العالم تستطيع أن تـنزع عن هذا الشعب حقّه في النضال والمقاومة والحياة الحرة الكريمة فوق أرضه، المهم نقول للجميع أن لا تضيع الإنجازات و التضحيات ولنتذكر مقولة (إن الإنسان لا يموت إلا حين يموت حلمه)، فلنعمل جميعـا على إبقاء الحلم حيـا في عيون الأجيال القادمة ، في عيون شباب وشابات الانتفاضة وأطفال الحجارة لانهم هم رجال الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس ، لأن هذا الحلم يلخّص كل القيم الإنسانية في العدالة و الحرية و الاستقلال.
وامام ذكرى عاشوراء يقف سماحة السيد حسن نصرالله الامين العام لحزب الله، ليستعرض طبيعة المرحلة ونوعية التحدّي، ولحظة الاشتباك ومكانتها ودرجة حضورها في المكان والزمان، وليقول نحن جاهزون للتضحيات وغير آبهين بالتهديدات، حيث لم يترك السيد نصرالله مجالاً للتأويل والتحليل والتفسير، فحسين اليوم هو شعب فلسطين وشعب اليمن وأحرار العالم، وان المواجهة مع مشروع الهيمنة الأميركية، مشيرا ان النصر يقترب وعلى المقاومة أن تجهز لكلّ الساحات ولكلّ الاحتمالات، وهنا لن ننسى المواقف التي اطلقتها ايضا حركة امل وحزب الله في ذكرى عاشوراء دعما ومساندة للهبة الشعبية على ارض فلسطين ، وكل القوى الوطنية والتقدمية اللبنانية
ومن هنا نحن على ثقة بما يتخدث به سماحة السيد ونرى ان الهبة الشعبية في الميدان كانت بالامس ترفع العلم الفلسطيني الى جانب رفع العلم الجزائري والتونسي واللبناني الذين يقفون الى جانب الشعب الفلسطيني و قضيته.
لهذا نقول في ذكرى ثورة الامام الحسين عليه السلام ، إذ لا مهادنة ولا ضعف في وجه الاحتلال ، مهما كان الثمن ، فلنزرع فينا جميعا روح المقاومة لأنها حاجة موضوعية تفرضها طبيعة المرحلة، ونحن اليوم نوجه تحية إلى شهداء فلسطين جميعا الذين اضاؤوا بدمائهم طريق العزة والكرامة من اجل غد افضل..
ختاما : ان الإمام الحسين كان رمز الثورة وجذوتها المشتعلة ، ولهذا نقول أن الثورة عمل غير مؤجل حيث نعيش كل يوم كربلاء ، وأن فلسطين ستبقى قضية الامة الاولى ومهما تطورت الاحداث ، فان وحدة الموقف الفلسطيني وتمسكه بخيار المقاومة بكافة اشكالها النضالية حتى زوال الاحتلال ، هو الطريق نحو استعادة حقوق الشعب الفلسطيني واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس وضمان حق العودة لشعبنا اللاجئ والمهجر الى دياره وممتلكاته وفق القرار الاممي 194 .
بقلم / عباس الجمعة
كاتب سياسي