ما أن تسأل شخصاً ما عن أحواله حتى يبادر بإجابة سريعة ومقتضبة يختزلها في كلمة واحدة "داحلة"، والحقيقة أن الكلمة بقدر ما تختزل السؤال بقدر ما تثير الكثير من الدهشة، خاصة وأنها باتت نقطة إلتقاء للشرائح المجتمعية المختلفة بغض النظر عن المكونات الحياتية المرافقة لهم، وما يمكن لنا أن نستقيه من مفهومها العام أن الأمور لدى صاحبها تسير دون توقف ودون بذل الكثير من الجهد، لدى الشعوب المستقرة التي تنعم بالأمن والأمان ورفاهية العيش والخدمات المميزة التي تقدمها الدولة لهم قد تكون أمورهم "داحلة"، حيث تتكفل الدولة برعايتهم من المهد إلى اللحد، وبالتالي أمورهم "داحلة" بقوة الدفع التي تخلقها الدولة.
لكن كيف يمكن لأمورنا أن تتقاطع في حركتها معهم؟، ولنبدأ بالهم الوطني الذي يسكن تفاصيل حياتنا، فمن الواضح أن مشروعنا الوطني على أرض الواقع يراوح مكانه، لطالما ادعى البعض، بحسن نية أو بمفهوم نظرية المؤامرة، أن هنالك طبخة يتم إعدادها على نار هادئة، مرت سنوات طويلة دون أن تنضج طبختهم، وهؤلاء لم يتخلوا بعد عن حلمهم بأن العالم سيقدم لهم وجبة جاهزة على نظام "التيك أوي"، ومن يحاول منا أن يتفحص الواقع بإعمال العقل يفقد قدرته على التركيز، عملاً بمقولة الشعب الليبي "تقرب تفهم تدوخ"، ثلاث حروب طاحنة وتسع سنوات عجاف وماراثون لقاءات وكشكول مفاوضات ومجلد إتقاقيات وما زال انقسامنا على حاله، قبلنا أن نلتقي في بيت "ملم" تارة في القاهرة وأخرى في مكة والدوحة ودمشق وبيروت والخرطوم والشاطيء "عاصمة غزة"، وخرجنا بعدها ننفض ما اتفقنا عليه، يبدو أن المصالحة تتعثر عند كفيلي "الوفا والدفا"، فهل حقاً أمور الوطن "داحله"؟.
لنتجاوز الشأن العام بهمومه وشجونه، عل الشأن الخاص هو من يقودنا إلى فهم ديناميكية الحركة التي تجعل أحوالنا "داحله" كما يحلو للكثير وصفها، لن ندع الفقر الذي تتسع رقعته يومياً أن يكبح جماح حركة "داحلة"، ولن نمكن طابور البطالة الذي يسابق نهر النيل في طوله أن يلتف على عجلاتها، ولن نسمح لمشكلة الكهرباء أن تعرقل مسيرتها بعد إكتشافنا لفصيلة "الليدات"، ولن نستمع إلى العالمين ببواطن الأرض وهم يصرخون ليلاً ونهاراً حول مياهنا الملوثة براً وبحراً، ولن نتوقف البتة عند نوعية الخدمات على اساس أنها باتت من الكماليات أو المكملات للحياة والموت، سنلقي بكل ذلك خلف ظهورنا على إعتبار أنها تنطلق من الماديات التي تتحكم بناصية الغرب، وعلى إعتبار أننا في الشرق نحتكم لقواعد مغايرة عن الغرب لا تمت بصلة للماديات، فهل فعلاً نعيش في مجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا؟، وهل يحب كل منا لأخيه ما يحبه لنفسه؟، وإلا كيف يمكن لأمورنا أن تكون "داحلة"؟.
ضحكت عندما سألت صديقي عن أحواله فأجابني بأنها داحلة، ضحك هو الآخر وراح يفند مضمون إجابته، قال أن "داحله" توحي للبعض بأن الأمور تسير على خير ما يرام، ولكن قد يفهمها البعض ضمن اشتراطاتها، والشرط الأهم والذي بدونه تنتفي صفتها هو توفر الانحدار، انتفض حينها مدرس اللغة العربية مقاطعا صديقي قائلاً " أنا البحر في أحشائه الدر كامن .. فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي"، قلنا وما الذي يوجد بداخل صدفة "داحله"؟، قال داحلة في لغتنا العربية هو أن يكتم المرء ما يعلمه ويخبر بغيره، حمدت الله أن كلمة داحلة لم ترد في اتفاقيات المصالحة وإلا لأدخلتنا في حيص بيص آخر.
أسامه الفرا