يبدو أن العُته بلا حدود، وجنون السلطة قد يقود إلى أماكن لا تخطر في البال. السيد نتنياهو دخل بجدارة نادي الزعماء المعتوهين، وهو نادٍ لا يقتصر على المنطقة العربية التي عجت وتعج بهم. من "أسراطين" القذافي إلى "قادسية صدام"، ومن الأسدين القاتلين إلى "الكفتة التي تشفي من الإيدز" في مصر المحروسة، وصولاً إلى قصر أردوغان العثملي وانتهاء بجورج بوش الذي يتكلم مع الله.
غير أن ارتكابات السيد نتنياهو وصلت إلى الإطاحة بمقدس الهولوكست، وهذا ما لم يجرؤ على إرتكابه أعتى ناكري المحرقة. نتنياهو حمّل مسؤولية المحرقة للحاج أمين الحسيني، مبرئاً الفوهرر. وبحسب نتنياهو فإن دهاء الحاج أمين ومُكره ورطا النازيين في جريمة لم تكن في برنامجهم. أي أن رئيس الهيئة العربية العليا، الذي كانت حياته السياسية سجلاً للفشل، كان أكثر السياسيين دهاء على وجه الأرض إلى درجة أنه ورّط النازيين والفاشيين في الجريمة الكبرى ضد الإنسانية!
لا أدري إذا كان ابن المؤرخ الإسرائيلي الشهير يعي ما يقول، أو أنه يلعب بالكلام فقط، فتبرئة النازي قد تقود إلى صب الماء في طاحونة ناكري المحرقة، وهذا مقدّس يهودي لا يجرؤ أحد على المسّ به.
بالطبع لم يأخذ أحد في العالم كلام نتنياهو على محمل الجد، لذا ليس هناك مبرر عربي وفلسطيني للتعامل معه. فالسيد نتنياهو يقود تكتل "الليكود" الذي هو وريث حزب "حيروت" ومنظمة "الإرغون"، وقد وصف ألبرت أينشتاين وحنه أرندت ومجموعة من كبار المثقفين اليهود في الولايات المتحدة هذا الحزب بأنه يشبه في تنظيمه ووسائله وفلسفته الأحزاب النازية والفاشية، وذلك في بيان احتجاجي على زيارة مناحم بيغن للولايات المتحدة، نشر في جريدة "نيويورك تايمز" في 2 كانون الأول/ديسمبر 1948.
نتنياهو ينتمي إلى حزب فاشي، هذا ما يجب ألا ينساه أحد. ومن الطبيعي أن يتابع نهج جابوتنسكي، مؤسس الصهيونية التصحيحية، الذي كان لا يخفي إعجابه بالنازيين. ومن المنطقي، وفي ظلّ التحالف بين الفاشيين والقوى الدينية الأصولية اليهودية، أن ينزلق لسان الزعيم الفاشي الإسرائيلي، ويدافع عن النموذج الوحشي الذي جسّدته شخصية هتلر.
ليس هدفي الدفاع عن الحاج أمين، أو عن خطيئته وقصوره السياسي في بحثه عن التحالف مع الألمان خلال الحرب العالمية الثانية. أخطاء الحاج أمين لا تحصى، لكن أن يدفعنا خبل نتنياهو إلى الدخول في نقاش عقيم حول مسؤولية القيادة الفلسطينية عن الهولوكست فهذا سقوط في الهراء.
لا أريد السقوط في فخّ هذه المناقشة العقيمة، لكني قرأت في خطاب نتنياهو أمام مؤتمر المنظمة الصهيونية العالمية في القدس، ما يتعدى الإشارة البائسة حول مسؤولية الحاج أمين عن المحرقة. أصابني هذا الكلام بالرعب، لا لمضمونه التافه، بل لدلالاته.
المشروع الصهيوني في زمنه الفاشي – القيامي – الديني الجديد، يريد أن يستكمل ما عجزت حرب النكبة سنة 1948 عن تحقيقه. إنه مشروع تطهير عرقي جديد، يبدأ بالقدس وينتشر كبقعة الزيت على كامل الضفة الغربية المحتلة.
ليس نتنياهو معنيا بالجدل الثقافي – التاريخي الذي أثاره خطابه. فهو يعلم أنه كاذب، لكنه يتّبع الأسلوب الغوبلزي الشهير في إطلاق الكذبة وتكرارها حتى يصدّقها الناس. الكذب كان وسيبقى سلاح إسرائيل الأساسي. كذبوا عام 48 وكذبوا عام 56 وكذبوا عام 67 وكذبوا عام 82 وكذبوا عام 87 وكذبوا عام 2000 وكذبوا عام 2002، وكذبوا في جميع حروبهم على لبنان وغزة، وهم يكذبون اليوم.
الكذب هو أحد خصائص دولة قامت على أسطورة، وحولت دماء اليهود إلى أداة مقايضة، وارتضت أن تكون عميلة لأوروبا التي أبادت اليهود. أسطورة منسوجة من خيوط الكذب والتذاكي، في سبيل خدمة الجريمة.
كلام النازيين الجدد الذين يحكمون إسرائيل يجب التعامل معه بجدّية. فهو ليس سوى غطاء لاستمرار الاحتلال وقوننة القتل وتنظيم الإبادة. مشروعهم حول المسجد الأقصى أو "جبل الهيكل" جدي ولن يتراجعوا عنه بسهولة. وقرارهم بتحويل الفلسطينيين إلى عبيد تمهيداً لطردهم من بلادهم هو قرار استراتيجي، لن يتخلوا عنه، حتى لو أبدوا مرونة كلامية مع الملك عبدالله وجون كيري.
كلام الزعيم الإسرائيلي موجّه اساساً لبث الرعب في الفلسطينيين، وإفهام النظام العربي المهزوز والعاجز أن إسرائيل ماضية في مشروعها، وأنها أطاحت بكل المواثيق الدولية.
كلام نتينياهو ليس جواباً على الهبّة الشعبية الفلسطينية، فهذه الهبّة جاءت كجواب على ممارسات سبقت هذا الكلام وأرادت فرضه في الواقع.
ما تشهده فلسطين اليوم هو صحوة وعي، لقد انتهى عهد شراء الأكاذيب الإسرائيلية والأوهام الأمريكية والغيبوبة التي اجتاحت القيادات الفلسطينية. مع هذه الهبّة الشعبية يتأسس أفق نضالي جديد. وهنا على قيادات فتح وحماس والجهاد والشعبية والديموقراطية أن تعي بأن الماضي مضى. وإذا كانت لا تريد أن تنتهي مع هذا الماضي فعليها أن تعيد النظر جذرياً في بنيتها وشعاراتها، كي يحق لها الانضمام إلى حركة شعبية ولدت في المعاناة، وأعلنت أن الأفق لا يفتحه سوى مقاومة الاحتلال.
مقاومة تحت علم واحد ورؤية واحدة. أبعدوا هذا الاصطفاف الأيديولوجي العقيم الذي حوّل فلسطين إلى ساحة للتناقضات بين أنظمة الغاز والكاز. بدل أن تكون فلسطين في كل الساحات حولتموها إلى ساحة للصراع الإقليمي. وبدل أن توجِّه فلسطين كل البنادق نحو العدو المحتل وتؤكد على التناقض الرئيسي الذي يضبط كل التناقضات الأخرى، صارت فلسطين ساحة للوحشية الإسرائيلية التي لا حدود لها.
هذه الهبّة الشعبية ليست مجرد ردّ فعل على إجراءات الاحتلال في القدس، إنها فعل يستطيع تحقيق إنجاز في القدس، من دون أن يعني ذلك نهاية الهبّة. بل يكون الإنجاز مقدمة لهبّات متواصلة، هدفها طرد الاحتلال بلا قيد ولا شرط.
النازي الإسرائيلي برأ النازي الألماني من جريمة إبادة اليهود، كي يتسنى له أن يحوّل اليهود الإسرائيليين إلى أداة لإبادة الفلسطينيين.
والمعركة مفتوحة وصعبة، لكن الشعب الفلسطيني قرر أن ينتصر وسينتصر.
الياس خوري