اتجاهات الفكر السياسي اليهودي

بقلم: غازي السعدي

كي نتعرف على عمق الهوة والتباعد في رؤية أبعاد الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وفي نظرة على مواقف وأيديولوجيات القيادات الإسرائيلية، علينا إجراء مراجعة أساسية للأيديولوجيات والمواقف الإسرائيلية، ومذكرات بعض قادة الكيان الصهيوني، ومواقف الأحزاب، وخاصة حزب "الليكود" الحاكم، من الصراع، وتصاعد قوة اليمين والأحزاب الدينية ونظرتهم للقضية الفلسطينية، فاليمين الحاكم الذي يتوقع أن يستمر في حكمه لفترة طويلة، وحسب جريدة "يديعوت احرونوت 3-10-2015"، تزايدت العنصرية والكراهية من قبل الإسرائيليين لـ"الأغيار"، حسب استطلاع الرأي العام الإسرائيلي، والذي حصل على (75%) من المشاركين بالاستطلاع، فإن الاحتلال والاستيطان واغتصاب أراضي الفلسطينيين وما يقومون به من أعمال قتل وإرهاب وإعدامات، تتعارض مع جميع المقاييس الدولية وتدفع الإسرائيليين للمزيد من العنصرية والتطرف، مما يتطلب من القيادة الفلسطينية، مراجعة أين أخطأت في هذا الصراع، لأنها تسير نحو المجهول، وعندما يقول "نتنياهو" أن حرية الأديان متاحة للجميع، فإنه يقصد اليهود في هذه الحرية والصلاة في المسجد الأقصى، ورغم تكرار "نتنياهو" بالمحافظة على الوضع الراهن، فإن اختراق المستوطنين للأقصى مستمر، وعليه أن يحدد بشكل قاطع ويلتزم بالوضع الراهن حسب المعترف به تاريخياً.

في إسرائيل توجهان، الأول يقضي بأن حدود إسرائيل من البحر إلى النهر إن لم يكن أكثر، أما التوجه الثاني فإنه يقضي بحل الدولتين دون الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، وهذا لا يعني أن التوجه الثاني يستجيب للرؤيا الفلسطينية وقرارات الشرعية الدولية، بل هدفها الحفاظ على الطابع اليهودي لدولتهم، إذ لا يستطيعون حكم شعب إلى الأبد ضد إرادته.

لقد رفض الفلسطينيون منذ البداية، النظرية الصهيونية أن لهم حقوق تاريخية في فلسطين، وقاوموا الهجرة اليهودية غير الشرعية إليها منذ سنوات الثلاثينات، وكانوا يقاتلون كل من يأتي لاحتلال بلدهم، واعتبروه جسماً غريباً، فالصهيونية تعتمد على مبدأين أساسيين: الهجرة والاستيطان، فأحد قادة الحركة الصهيونية "آرييه لوبا الباب"، لنأخذ من ما كتبه في مؤلفه بعنوان "الأرض البهية" الذي صدر باللغة العبرية عام 1972، أن الفلسطينيين أهل البلاد، رأوا بالهجرة اليهودية منذ بدايتها اعتداء عليهم وعلى أراضيهم، ولتخفيف هذا العداء للهجرة، حسب الكتاب، فإن المهاجرين اليهود يقولون لهم أنه "لا أطماع لنا، بل أتينا للحصول على موطئ قدم آمن، هرباً من المعاناة التي نتعرض لها في ألمانيا، ونريد العيش بسلام مع أهل هذه البلاد"، فاستغلوا الإمكانيات التي كانت لديهم من أموال، لإنعاش الاقتصاد الضعيف في فلسطين، وهذه الإغراءات فتحت الطريق أمامهم، لكن هذا لم يكن سوى ممر لتعميق وجودهم واستيطانهم منذ عام1880.

لقد كانت الدعوات الإسرائيلية المتواصلة للمفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين، في العقود الثلاثة بعد حرب عام 1967، دعوات كاذبة، تزعم البحث عن السلام، وإظهار أن الفلسطينيين هم الرافضون، وكانت تطالب باعتراف الفلسطينيين بقراري "242" و"338"، وأن هذا الاعتراف –حسب الوسطاء الأمريكان والأوروبيين-سيؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية، ففي اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 بالجزائر، تم هذا الاعتراف، وأذكر أن القائد الفلسطيني "د.جورج حبش"، وقف وقال: لن أقف ضد هذا الاعتراف، ولن أقف حجر عثرة ضده، إذا كان سيؤدي إلى إقامة الدولة، أتمنى ذلك، لكنني أشكك بالنوايا الإسرائيلية التي ستضع العراقيل الكثيرة أمام قيامها.

"مناحيم بيغن" قاد المنظمة العسكرية الإرهابية "اتسل" قبل إقامة إسرائيل، هذه المنظمة يسجل لها جرائم كثيرة ضد الفلسطينيين، موثقة في كتب عديدة، وكان "بيغن" من أكثر المتزمتين العقائديين الصهاينة، والذي انخرط في العمل السياسي-الحزبي بعد عام 1948، وكان لـ "دافيد بن غوريون" أول رئيس حكومة لإسرائيل مقولة، بوضعه "فيتو" على "بيغن" وحزبه، وعلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، من المشاركة في الحكومات الإسرائيلية، لكن انتخابات عام 1977، أدت إلى فوز حزب "بيغن" المشكل من عدة أحزاب صغيرة في هذه الانتخابات، مما جعله يتولى رئاسة الحكومة، التي غدت أول حكومة يمينية تحكم إسرائيل، وكان من أول قرارات حكومته، السماح لليهود بشراء الأراضي في الضفة الغربية المحتلة.

في عام 1978 أي بعد سنة على تولي "بيغن" الحكم، صدر له كتابه المشهور بعنوان "التمرد"، وجاء في هذا الكتاب، أن الأسلحة العبرية هي التي تحدد حدود دولة إسرائيل، وأنه من غير الممكن أن نشتري السلام من أعدائنا بالمفاوضات، وأن هناك نوعاً واحداً من السلام يمكن أن يشرى ألا وهو سلام القبور، ويؤكد في كتابه أنه لن يكون هناك سلام لشعب إسرائيل، ولا في أرض إسرائيل "فلسطين"، ولن يكون سلام للعرب أيضاً، ما دمنا لم نحرر وطننا بأكمله، حتى ولو وقعنا مع العرب على اتفاقية صلح، ولن نكتفي بالجزء الذي حررناه من أرض فلسطين، فهو جزء يسير من الأرض، لا يشكل التراث القومي اليهودي، الذي يجب أن يمتد من النيل إلى الفرات، وأن إسرائيل لا تستطيع أن تعيش إلا بقوة السلاح، فبعد احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967، وبعد وصول الليكود إلى الحكم، زاد التطرف الإسرائيلي، والتمسك بالأرض، حتى أن "بيغن" لم يكن مستعداً تحت أي ثمن للتنازل عن أي شبر من فلسطين، حتى مقابل اتفاق سلام شامل، ويأتي هنا السؤال: لماذا عقد "بيغن" السلام مع مصر؟ فكان له أسباب إستراتيجية لإخراج أكبر وأهم دولة عربية من الصراع العربي-الإسرائيلي، فأولوية "بيغن" كانت السيطرة على الأراضي الفلسطينية.

"إسحاق رابين" الذي سبق أن كان وزيراً للجيش، فاز حزبه "العمل" في انتخابات عام 1992، وأصبح رئيساً للوزراء، بتأييد النواب العرب الخمسة، وبينما اشتهر رابين بدعوته لتكسير عظام الفلسطينيين، جاءته الصحوة، بعد أن توصل لقناعة أن المخرج الوحيد لأزمات إسرائيل هو التوصل إلى السلام مع الفلسطينيين، وعقد اتفاق أوسلو في أيلول 1993، وبمناسبة مرور (20) عاماً على اغتياله من قبل يهودي متطرف، كشف أنه سبق وحذر الإسرائيليين من قيام المستوطنين في الضفة الغربية بتحويل إسرائيل إلى نظام فصل عنصري، ودولة "أبرتهايد" فقد كشفت القناة الثانية في التلفاز الإسرائيلي أن تسجيلاً وثائقياً مصوراً، وصف المستوطنين بأنهم أشباه السرطان، ويبدو بالفيلم تفهماً لمدى خطورة الحركة الاستيطانية، وأنها ستشكل عائقاً أمام السلام، ووصف حركة "غوش امونيم" بأنها ليست حركة استيطانية، بل هي أشبه بالسرطان، ويعترف بهذا الاتهام لكنه طلب عدم استخدامه لهذا الوصف في حينه، وأنه لن يقوله علناً، وقال: لست مجنوناً سياسياً لأقولها، بل هو مستعد للتوجه إلى الانتخابات، تحت مطلب إزالة المستوطنات من الضفة الغربية، "إذا كنا لا نرغب التحول إلى دولة "أبرتهايد"، الوزير السابق "عوزي بارعام" كتب في "هآرتس 12-10-2015"، أنه لو لم يقتل "رابين" لتوصلنا إلى اتفاق سلام نهائي مع الفلسطينيين".

أما "إسحاق شامير" من زعماء التنظيمات الإرهابية، ورئيس تنظيم "ليحي" ومنسوب له المسؤولية عن تفجير فندق الملك داوود في القدس، خلف "مناحيم بيغن" في رئاسة الحكومة، بعد إصابة "بيغن" بمرض الكآبة في أعقاب حرب لبنان عام 1982، و"شامير" له مقولة هامة، أنه يحلل الكذب من أجل بلاد إسرائيل بأنه مسموح ومباح، وأنه طور ثقافة الأكاذيب والتضليل للضرورة، في الكفاح من أجل استقلال إسرائيل، لكن بعد أن أصبحت وسائل الإعلام والاتصالات السريعة متوفرة، لم يعد الكذب ممكناً، بل تنشر الحقائق فوراً.

"بنيامين نتنياهو" الذي ترأس الحكومة هذا العام 2015، للمرة الرابعة معروف بأنه كذاب ومخادع حتى بنظر شعبه، وإذا أردنا التعرف على أيديولوجيته، وأفكاره التي يعمل بموجبها، علينا قراءة مؤلفه المشهور:"مكان تحت الشمس"، الذي صدر باللغة العبرية، وترجم إلى العربية عام 1995، فهو يكشف بصراحه في كتابه أن أرض فلسطين الكاملة ملك بلا منازع للشعب اليهودي، ومن غير الممكن التنازل عن شبر واحد منها، ويعترف أن دعوته للمفاوضات تهدف إلى إرضاء الرأي العام الدولي من جهة، والاستمرار بمشروع البناء الاستيطاني من الجهة الأخرى، والسيطرة على المزيد من أراضي الفلسطينيين، حتى لا يبقى أرض لإقامة الدولة الفلسطينية.

إن قرار حكومته، التصريح لكل شخص بإطلاق النار على الفلسطينيين، والدعوة لحمل الإسرائيليين السلاح عند تجولهم في الشوارع، والقتل من أجل القتل وليس دفاعاً عن النفس، وأن تكرار أقوال "جون كيري"، والرئيس "أوباما" أن من حق إسرائيل الدفاع عن مواطنيها هو نفاق وخطأ فادح، لأن إسرائيل تدافع عن احتلالها، وتشجع التمسك به وأميركا تفهم أن ذلك يتعارض مع حل الدولتين الذي تنادي به، فالانحياز الأميركي السافر لإسرائيل أصبح لا يطاق، حتى أن "نتنياهو" أعلن أنه لن يقدم تنازلات لإعادة الأمن والهدوء المثير للاحتلال فجريدة "يديعوت احرونوت 20-10-2015"، وتحت عنوان أحفظوا هذه الصورة في ذاكرتكم، صورة إنسان ملقى على الأرض، أطلق عليه الجنود الرصاص الحي، وهو فاقداً للوعي، ودون سلاح، والمارة اليهود يضربونه ويلقون عليه الكراسي، ويركلونه بأقدامهم، وباختصار فارق الحياة دون محاكمة، فهذا هو الوضع وفقاً لسياسة الحكومة الإسرائيلية.

في خطاب ألقاه أمام المؤتمر الصهيوني المنعقد في القدس، أشار "نتنياهو" إلى هجمات شنها مسلمون على اليهود في فلسطين في العشرينات، وذلك بناء على توجيهات مفتي القدس الحاج "أمين الحسيني"، وأن الحسيني حسب "نتنياهو" التقى بـ "هتلر" في برلين عام 1941، وأن الحسيني في هذا اللقاء، أقنع "هتلر"-الزعيم النازي- بإطلاق حملة لإبادة اليهود، بينما كان "هتلر" والقول لـ "نتنياهو" يريد فقط طردهم، ورد عليه المفتي حسب "نتنياهو":"أحرقهم"، فـ"نتنياهو" أراد ربط ما يسمى بالمحارق اليهودية بالمفتي والفلسطينيين، وإعطاء صك براءة لـ"هتلر" من محرقة اليهود، وجاء الرد على أقوال نتنياهو" من ألمانيا نفسها ومن سياسيين وباحثين إسرائيليين نفياً سريعاً في موضوع المحارق النازية، وأثارت أقوال"نتنياهو" عاصفة من الردود على اتهامات "نتنياهو"، حول دور المفتي في حرق اليهود، وذلك ليس دفاعاً عن المفتي، بل لتشويه الرواية الإسرائيلية بتبرئة "هتلر" من المحارق، وإلقاء اللوم على المسلمين، وربط الفلسطينيين في قضية المحرقة، فتوالت ردود الفعل بقوة على أقوال "نتنياهو" على الصعيدين الدولي والإسرائيلي، فـ "نتنياهو" الذي ادعى أن فكرة إبادة اليهود كانت للمفتي "الحسيني" وليس لـ "هتلر"، تثير التشكيك في رواية المحرقة، مما يتطلب رفع الحظر بمحاكمة كل من يشكك برواية المحرقة، مما يتطلب السماح بإجراء دراسات جديدة في موضوع ما يسمى بالكارثة، طالما أن مؤرخين إسرائيليين يقولون أنه لا أساس من الصحة لاتهامات "نتنياهو"، حتى أن وزير الخارجية "جون كيري"، اعتبر تصريحات "نتنياهو" تأجيج لنيران التحريض بينما يكرر "نتنياهو" اتهاماته للفلسطينيين بالتحريض.

وأخيراً ... نحن نقف أمام آلة لتشريع المغالطات والكذب، ومع أن ما يجري حالياً في الأراضي المحتلة من مواجهات، من أهم نتائجها، إعادة القضية الفلسطينية وقضية الأقصى اللتين كانتا غائبتين عن الأحداث، إلى الواجهة من جديد، لكن مهمة القيادة الفلسطينية في إدراجي نظرة على مواقف وأيديولوجيات القيادة الإسرائيلية، وفي مواجهة إسرائيل وانتزاع الحقوق، هي مهمة صعبة وشاقة للغاية على الباحثين والمهتمين، مساعدة القيادة الفلسطينية بالاقتراحات المفيدة لإذكاء هذا الصراع.

بقلم/ غازي السعدي