ارادة الانتفاضة يجب ان لا تكسرها اللقاءات والزيارات

بقلم: عباس الجمعة

كأنما التأريخ يعيد نفسه كل يوم، فالقضية الفلسطينية، وهي تمثل الحلقة المركزية في الصراع في منطقة الشرق الأوسط، فهي القضية الوحيدة العالقة، والمستعصية على الحل في تأريخ الحياة السياسية والإنسانية في حياة البشرية المعاصرة، ، بل ربما تكون القضية الوحيدة التي تبدو وكأنها، قد وضعت المجتمع الدولي بكل قدراته وإمكاناته الجسيمة، في حالة من العجز والإحباط، لدرجة بات معها، وكأنه لا يجد أمامه من سبيل آخر، غير الوقوف صامتاً أمام ما تقترفه حكومات الاحتلال المتعاقبة ، من جرائم ومن عدوان لا يتوقف، بحق الشعب الفلسطيني ، لهذا فان ارادة الانتفاضة يجب ان لا تكسرها اللقاءات والزيارات ولا الخطابات والتصريحات.

امام كل ذلك يدرك الشعب الفلسطيني تماما غياب الرؤية لبعض القوى السياسية في المضي قدما في معركة التحرر الوطني بكافة الوسائل والسبل ، ويعرف عدوه جيدا ويعي تماما الإختلال الحاد في موازين القوى ، ويعرف ايضا حدود قوته وإمكانياتها وتأثيراتها ، ولكنه بالقطع لا يتعاطى مع فلسطين الوطن ” بمقاييس محددة ، بل يسعى الى تراكم انتصاراته في كل شبر من مساحة فلسطين ، فالشعب الفلسطيني بكل وضوح يرسم خياراته النضالية بدماء شبابه وشاباته ، لانه مرتكزاعلى إرث نضالي ، شكّل مدرسة للشعوب المقهورة الباحثة عن الحرية والإستقلال .

ان الشعب الفلسطيني بهبته الشعبية يواجه احتلال واستيطان وحشي دموي ، وهو يرفض الذل والهوان ودعاة الواقعية ، فهو يشتق دوره النضالي من وحي جراحه ومعاناته وخبراته الطويلة في مواجهة الاحتلال ، فالشباب والشابات الابطال هم الأساتذة والمعلمون حين يرسمون درب نضالهم بالسكين والحجر والدهس والمقلاع ، وهم النار والبركان حيث يجب ان يكونوا ، وهو ما أذهل العالم، وأطلق منارة في ليل عربي رديء، وأربك حكومة الاحتلال الفاشية ، من خلال هبة شعبية على امتداد ارض فلسطين فكان القدس العنوان وبعدها لتصل الى كل ارجاء الوطن ليلتحم الدم الفلسطيني بوحدة وطنية تعبر عن تجذر هويته الوطنية الكفاحية، وعن تشبثه بأهدافه وحقوقه الوطنية في الحرية والاستقلال والعودة، لهذا نقول لاصحاب الواقعية السياسية ان انتفاضة الشعب الفلسطيني تعبر عن وضع شعب مثقل وموجوع باستباحات الاحتلال الشاملة.

لهذا نرى ان الشعب العربي الفلسطيني اعلن للملأ ساعة الصفر لمعركة التحرر الوطني مهما كلف الثمن ، ومهما تكالبت الأيام ، لتقول للعالم اّن الأوان للفلسطيني ان يرسم مسار حياته ككل البشر ، اّن الأوان للطفل الفلسطيني ان يحلم بغده الذي يحب بعيدا عن الاحتلال وبعيدا عن الموت ، وارادت ان تواجه رسالة، ان الشعب الفلسطيني ما زال حيا وما زالت قضيته تنبض بدم الثورة وهو ما زال يمتلك وفق شرعة حقوق الإنسان الحق بتقرير مصيره وممارسة كل أشكال النضال في سبيل الحصول على حقوقه الوطنية.

أن الانتفاضة اليوم تشكل رؤية مختلفة ومتنوعة باختلاف دوافعها وظروفها ، وان تداخلت احيانا ، باعتبارها شكل من أشكال الثورة والتمرد ضد الظلم والقهر ، بما فيه ظلم وقهر الاحتلال والاغتصاب الذي يعتبر الأبشع والاكثر وحشية ، وما زال بيننا من لا يعرف ، أو

يعرف ويحرف ، طبيعة الصراع الدائر في فلسطين ، من أنه صراع وجود ليس ابدا مع اليهود ،وانما مع الكيان الصهيوني ، ككيان ونظام عنصري للصهيونية العالمية ، فتجد مع من يعتقد ويتوهم بأن الصراع صراع ديني ، ليعفي نفسه من النضال باعتباره اسيرا ،وتجد من يدعو للنضال ، فقضايا الشعوب لا تحتمل الالاعيب والمناورات ولا المغامرات غير المدروسة جيدا ،فالشعب الفلسطيني يتطلع الى القيادة ان تكون في مقدمة الصفوف وان توحد الجهود والإمكانات والطاقات وصبها في المواجهة المفتوحة على مصراعيها، وعلى كل الاحتمالات، حيث لم يعد مسموحاً أو جائزاً أو مشروعاً، استمرار الانقسام، بات المطلوب تعزيز الوحدة الوطنية، وتوجيه الهبة الشعبية المتصاعدة، بما يطورها لانتفاضة شعبية شاملة ، بدلا من اللقاءات والزيارات فيما يتأبط كيري، في ظل صمت رسمي عربي، شر سيناريو الذبح السياسي.

ان الهبة الشعبية اليوم تطرخ الأسئلة من اجل تقديم القراءة العميقة للدروس والرسائل الأساسية التي يعلنها الشعب الفلسطيني من خلال مقاومته الشعبية وما تعبر عنه من مضامين وأبعاد لمن يملكون القرار، أو لا يملكونه، سواء كان من يملك القرار هو القوى السياسية الفلسطينية، أو دولة الاحتلال الكولونيالي، أو الشعوب العربية أو العالم ، بان الشعب الفلسطيني الذي عانى عضرات السنوات يستحق ان ينال حقوقه الوطنية المشروعة مهما غلت التضحيات ، وهذ يستدعي من كافة القوى السياسية الفلسطينية وبمختلف أطيافها، أن تقرأ هبّة الشباب الفلسطيني بعمق، فقد لوحظ أن الجيل الذي يتحرك في الميدان ويواجه ويضحي هو جيل ما بعد "أوسلو"، هذا الجيل الذي يندفع بجرأة للمقاومة والتضحية تحت أحد عناوين النضال الوطني الفلسطيني الجامعة ،ومع أهمية العنوان الوطني والرمزي، للقدس، فإنه لمن الخطأ الفادح التعامل مع هذه الحالة الشعبية من منطلق عاطفي أو ديني فقط، فالقدس هي مجرد عنوان ومدخل لقضايا وسياسات أكثر اتساعا، هي فقط رأس جبل الجليد، لان هذه الهبة هي هبة كل الشعب الفلسطيني على امتداد ارض فلسطين وبهذا العنفوان تتجاوز البعد العاطفي بما تعبر عنه من أبعاد يجب وعيها بدقة، فعدم إدراكها يعكس سذاجة وضحالة سياسية، سواء كان ذلك مقصودا أو غير مقصود، أو ربما قد تكون محاولة للهروب من استحقاقات الصراع الكبرى.

بالرغم من حقائق التاريخ هذه ، نرى ان المرحلة التي انطلقت فيها الانتفاضة الاولى والثانية مختلفة ، وخاصةعلى صعيد الوضع العربي نتيجة الاحداث في العالم العربي ، مما يجعل نجاح إمكانية مسألة المقاومة الفردية أكبر وربما يطوّرها إلى انتفاضة عارمة بعد الذي أثبتته التجارب من خطورة التنسيق الأمني الذي تراهن عليه حكومة الاحتلال حتى اللحظة، لأنه يرتبط بخيوط سياسية مصيرية ، من هنا سوف تعطي الانتفاضة استثمار للقضية الفلسطينية بعناوين جديدة ترسم أبعاداً سياسية إقليمية تكون مؤثرة في الأبعاد السياسية الداخلية والخارجية للكيان الصهيوني إذ تضعه أمام جدران تشبه التي يبنيها في القدس، وتجعله هذه الجدران يرتطم بتداعيات متطورة تكتبها إدارة الفعل المقاوم في الضفة المحتلة مع عوامل قوة جديدة ، وتفتح أبواب المواجهة في الضفة على مصراعيها والتي بدورها سترفع معها تدريجياً حرارة كل الاراضي الفلسطينية، وإذا كان لا بد من العمل المسلح لاعتبارات تكتيكية ، كتدفيع المزيد من الثمن للاحتلال ، أو لحماية المنتفضين ، او لرفع معنوياتهم ، فيجب أن يكون بعد استعداد كاف له ، وبعيدا عن ساحات المواجهة الجماهيرية ، وأن يقتصر على مواجهة الاحتلال وقطعان

مستوطنيه المسلحين، للحفاظ على جماهيرية الهبة ، وللحفاظ على سمعتها ورصيدها أمام الرأي العام ، وهذا يتطلب رسم استراتيجية تصون الدم الفلسطيني ، استراتيجية تجبر العدو على استجداء فك الاشتباك، والتي تحافظ على عدم اهدار الدم الفلسطيني، فكل قطرة دم من فلسطيني لها ثمن وليكن مكلفا، وليكن التنسيق الوطني الفصائلي في ارض الاشتباك هو الاساس.

لهذا نقول لا مكان للوهم لدى الشعب الفلسطيني، وهو يزهو بالإنجاز، لكن الطريق لا تزال طويلة أمامه، لانه يدرك أهمية تراكم الإنجازات في سبيل الوصول الى اهدافه الوطنية المتمثلة في التحرير وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس وضمان حق عودة اللاجئين من الشتات الى ديارهم وممتلكاتهم التي هجدروا منها عام 1948 .

إن الانتفاضة جاءت بإيجابية كبرى على مستوى بعث الأمل لدى الشارع الفلسطيني الذي هبّ للتصدي للانتهاكات بحق المسجد الأقصى، وهو بذلك أشعل انتفاضة عارمة في سبيل تحرير الارض والانسان ، رغم ان هناك ثمة تحدي اساسي أمام شعبنا وهو انهاء الانقسام الكارثي، الذي يتمثل في إعاقة الالتفاف على الانتفاضة، من ناحية، وإجراء حوار فلسطيني شامل بين مختلف القوى، للتوافق على برنامج وطني مشترك في سبيل حماية الانتفاضة وحفظ التضحيات التي قدّمت.

من هنا نرى أن موضوع الحوار بين القوى الفلسطينية، صار متقدما جد في حسابات معظم مكونات الواقع الفلسطيني، لأن الانتفاضة لا يقودها فصيل بذاته، بل إنها تأتي في إطار الهبة الشعبية العارمة، ذات الوقود الشبابي في الأساس، الذي نشأ وترعرع بعد توقيع اتفاق أوسلو العام 1993.

ختاما : لا بد من القول أن إرادة الشعوب لا تقهر فلا قوى الاحتلال ولا المتآمرين معها أفلحوا على امتداد عشرات السنين في تركيع شعبنا وفي القضاء على ثورته ونضاله وانتفاضاته وهباته ، وان التجربة اكدت صحة بان الشعب الفلسطيني العظيم قادر على مواصلة نضاله ، وهذا الخيار سيفشل كل السياسات المراهنة على الاعتراف بالكيان الصهيوني وعلى التفاوض والتعايش معه، مما يتطلب تعزيز وحدة الصف الفلسطيني ودعم انتفاضة شعبنا بكل الأساليب الممكنة ، لأننا على يقين تام بأن أوراق كثيره وكبيرة لا زالت في يد شعبنا ، حيث حققت الانتفاضة أول نجاحاتها وأعادت وضع القضية الفلسطينية الى المرتبة الاولى من الاهتمام العربي والعالمي وإعادتها الى مركز الصدارة في مرتكزات النضال الوطني الفلسطيني .على طريق تحقيق اهداف الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وانهاء الاحتلال وإقامة الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس.

بقلم/ عباس الجمعة