الكثير من الإنتقادات القاسية وجهت للفصائل والأحزاب ولقياداتها ولدورها في الهبات الشعبية المتلاحقة،وكلها انتقادات تصب في خانة أن الفصائل في ذيل الحركة الشعبية،او انها منفصلة عن حركة الواقع والجماهير،أو هي متسلقة على اكتاف نضالات هذا الشعب،وهي لا تقوم بواجباتها ومسؤولياتها تجاه الجماهير وهمومها واحتياجاتها..الخ.وبأن دورها فقط مقتصر على إستثمار نضالات وتضحيات هذا الشعب والتسابق على تبني الشهداء من اجل ضمان وجودها وبقاءها وإثبات الذات وضخ الدماء في عروق قياداتها المتيبسة والمجدبة،او لتعزيز حضورها ودورها غير الحقيقي والفاعل.
وهناك إنتقادات أقسى من ذلك وتصل حد التجريح والتهجمات "والشطحات" و"الفنتازيا" ،و "التحشيش"الفكري من قبل "متفذلكين" على أرصفة النضال ،اوأشباه المثقفين او قل مثقفي الجملة الثورية من يصفون الفصائل والقوى والأحزاب بانها عبء على الشعب الفلسطيني،وهي المسؤولة عن ما يحل به من كوارث ونكبات،وضاعت التخوم والفواصل في مرحلة الجزر والتراجع والإنقسام ما بين النقد البناء والهادف وما بين التجريح والتهجمات غير المنطقية والواقعية،وكأن الفصائل والقوى ليست مولودة من رحم هذا الشعب،ولم تقدم القوافل من الشهداء والجرحى والأسرى.،وتخرج القادة والمناضلين.
نعم علينا ان نعترف انه في ظل رداءة المرحلة وكارثة اوسلو وما تلاها،كان هناك زلزال مدمر طال كل مناحي حياة الشعب الفلسطيني،زلزال بحجم النكبة او اكثر،لعب دوراً رئيسا في تقسيم الأرض والشعب الفلسطيني واحدث تصدعات وإنشقاقات عمودية وأفقية،ليس على مستوى الحركة الوطنية والسياسية فقط،بل هتك وفكك ودمر النسيج المجتمعي.
ولذلك هذه المرحلة داهمت الفصائل والأحزاب،وخلقت حالات واسعة من الإرباكات في صفوفها،وفقد العديد منها اتجاه البوصلة،ولونه السياسي وهويته الفكرية،وحتى الوحدة التنظيمية والسياسية في التنظيم تعرضت للإهتزاز والتفكك،وجرى تعويم الهوية الفكرية،بحيث ضاعت التخوم والفوارق ليس على صعيد المواقف والبرامج السياسية بين القوى والفصائل،بل على صعيد هويتها الفكرية،وجرت تحولات في بنية وقيادة القوى والأحزاب،بحيث لم تعد الملهم وقوة المثل للجماهير في النضال والتضحية والمسلك والموقف .
ما كادت الفصائل تلملم اوضاعها بعد اتضاح حجم الدمار والخراب الذي أحدثه اوسلو في الواقع الفلسطيني،وعمليات الذبح للمشروع الوطني،حتى داهمتها الإنتفاضة الثانية،تلك الإنتفاضة التي لم تقتصر على الهبات والمشاركة الشعبية،بل نجح الإحتلال في جر الحركة الوطنية الى عسكرة الإنتفاضة،وفي الوقت الذي لم تستعد فيه القوى عافيتها،وتصلب اوضاعها وحلقتها وبنيتها التنظيمية،كان الإحتلال يقتلع ويدمر البنى والهياكل التنظيمية للقوى،ويغتال ويقتل العشرات من قاداتها وكادراتها ،وكذلك الزج بالمئات منهم في السجون،ولم تنجح لا السلطة ولا الفصائل في استثمار ما تحقق في الإنتفاضة الثانية،كما حدث في الإنتفاضة الأولى،كانت كارثة اوسلو،وفي الإنتفاضة الثانية،كانت جدران الفصل العنصري،وعودة الإحتلال بشكله المباشر الى كل مناطق الضفة الغربية.
من بعد ذلك جاء الإنقسام المدمر المستمر والمتواصل،والذي خلق حالة واسعه من الإحباط واليأس في صفوف الجماهير،وراكم المزيد من الإحتقان وفقدان الثقة ما بين الجماهير والفصائل،وخلق حالة ليست بسيطة من الإنفضاض عن الفصائل والعزوف عن العمل الحزبي والسياسي،وأصبحت تنمو وتولد مجموعات شبابية وقوى مجتمعية،تقوم بأنشطة وفعاليات مجتمعية وسياسية تطالب بإنهاء الإنقسام وإستعادة الوحدة الوطنية،ولكن حائط وجدار الصد عند القوى القائمة على الإنقسام والمستفيدة من بقاءه وإستمراره كان أقوى من قدرة تلك الحراكات والقوى المجتمعية،وحتى الفصائل الأخرى على إختراقه.
الإنقسام كان يتعمق ويتكرس ويتشرعن والإحتلال يتغول ويتوحش،والسلطة تمسك بخيار وبنهج تفاوضي لم يقدم للفلسطينيين سوى المزيد من الضعف والتشرذم وضياع الأرض،والفصائل لم تعد تشكل حاضنة حقيقية قادرة على إستيعاب طاقات الشباب وتاطيرها وتنظيمها،حيث اوضاعها الداخلية هلامية،وقياداتها وبرامجها نمطية ومتكلسة،ولم تعد قادرة على قراءة حقيقة وجدية للمتغيرات ليس فقط في الواقع ولا في المجتمع الفلسطيني،بل المتغيرات والتطورات المحيطة بهذا الواقع.
ولكن رغم كل ذلك لم تخلع الفصائل ثوبها الوطني ولم تتخلى عن حقوق شعبنا ولا ثوابته الوطنية،وبقيت رغم كل ما أصاب اوضاعها من ضعف وتراجع سواء لأسباب ذاتية أم موضوعية تدافع عن شعبنا في وجه آلة القمع الصهيوني،ودفعت أثمان الغالية في الحروب الثلاثة التي شنت على شعبنا ومقاومتنا في قطاع غزة،وكذلك في الضفة الغربية،حتى ان الإعتقالات طالت رموزها وقياداتها،وكذلك الشهداء منهم الرموز والقادة.
صحيح بأن القوى والأحزاب تعيش ازمات وتراجعات،وتعاني من حالة من الضعف،ولكن رغم كل ذلك نجد انها ما زالت تشكل درع وسياج لحماية المشروع الوطني،وهي بذلك ليست رجساً او لعنةً او شراً مستطيراً،عليها الكثير من النقد في إطار التقاعس وعدم القيام بدورها وواجباتها ومسؤولياتها وتنمط وتكلس وشيوخة قياداتها وبرامجها،وإخفاقها في إنهاء الإنقسام وإستعادة الوحدة الوطنية والصراع على سلطة منزوعة الدسم،وتقديم طرفي الإنقسام ( حماس وفتح) المصالح الفئوية والتنظيمية والحزبية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني،ولكن هذا لا يعني ان نبقى مشهرين لسيف الجلد بسبب او بدونه لهذه الأحزاب والفصائل،فالفصائل ليس بديلها العشائرية والجهوية،فهذا خيار سيكون أسوء مليون مرة من خيار الأحزاب والفصائل،ولا منظمات "الأنجزة" صاحبة المال السياسي المشروط والتي تحمل اجندات واهداف،لا تصب في خدمة مشروعنا الوطني.
العمل على دمقرطة الأحزاب والفصائل وإحداث تغيرات جوهرية في برامجها وهياكلها وقياداتها،بحيث تقف على رأسها قيادات شابة ،"والفصائل عليها أن تتخلى عن فكر "تخليد" الأزمة من خلال قدرتها على استنبات قيادات متجددة ومعاصرة بالقدر المأمول،تضمن القدرة على التواصل. وغالبا ما تتوهم الفصائل أن المحافظة على استمرار القيادات – حتى ولو أصبحت عاجزة– نوع من الوفاء الأمر الذي جعلها تتجمد،وتتحنط، وتتكلس وتتحول لتقتات بتاريخها،وإنجاز القادة السابقين". وقد نسيت القوى والأحزاب بأن الثبات إذا كان واجبا، فإن التغيير ضرورة.
بقلم/ راسم عبيدات