فلسطين ومركزيَّة الهامش
برحيل بهاء البخاري، يغيب عن ساحة الرسم الكاركاتوري الفلسطيني، وحتى إشعارٍ آخر، ثاني أكبر أساطينه، بعد ناجي العلي، وإن اختلف المقام، وعزَّ المقال. وإن كان مقام الرثاء قد مُجَّ واجتُرَّ حدَّ السأم في الحالة الفلسطينية، فإن مقام التذكُّر الفعَّال لن يزال المجال الحيوي لمخاطبة الراحلين محاورةً ومساورةً، سواء بين القدس ورام الله أو بين الشجرة ولندن. وإن كان ناجي العلي قد سبح "… ضد التيار مستجيراً بالحقيقة، معطياً درساً كريما في أمثولة الهامشي المركزي،" كما صوَّره، مُحقَّاً، الناقد فيصل درَّاج، فإن بهاء البخاري آثر أن يسبح في التيار مُجيراً الحقيقةَ من ظلم تيَّارها، ومُقنِعاً المركز بضرورة الهامش الذي لا يُعْرَفُ، المركزُ، ولا يُعَرَّفُ إلا به.
وعليه، فقد كان ناجي العلي "يحاور الصعلوك الفلسطيني أو الصعلوك العربي، يرقب المأساة العربية أو يرقب المأساة الفلسطينية، ويكون الصعلوك الهامشي حقيقة موضوعية، أي مركز التاريخ ومعناه، ويكون ناجي العلي صورة الحقيقة الموضوعية، الشرعية الحقيقية، من دونه تبدو العدالة ناقصة، والشرعيات زائفة،" فيما كان بهاء البخاري يساوِرُ السيدَ الفلسطيني، ويجمِّل صورة الصعلوك، الجملية، في عين السيَّد الذي تُريبه صور الصعاليك لأنهم يزعجون سَكينة التاريخ، ولا يكتفون بمديح نقيضها، بل يحملون سِكِّينته حملاً حتى يكمل التاريخ معناه النبيل حين يسجل الصعاليك لحظة انتصار روايتهم على روايات السادة… بالدم. وهكذا، فإن حقيقة بهاء البخاري لا تبدو أقل بريقاً من حقيقة ناجي العلي، وإن اختلفت أحجام مظلات الشرعية وأطوال ظلال العدالة الناقصة.
رحل ناجي العلي، والبلاد على شفير واحدة من أنبل انتفاضاتها، في أواخر آب من العام ١٩٨٧، فيما يرحل بهاء البخاري، بعد قرابة ثلاثة عقود حمل فيها راية فن الكاريكاتير الفلسطيني المقاتل، وفلسطين تدميها الآلة الحربية لدولة الاستعمار الاستيطاني-إسرائيل في انتفاضة لا تزال عصية على النعوت، إذ التسمية تُحيي والتسمية تُميت، وانتفاضة العام ٢٠١٥ لا تزال ثالثاً مرفوعاً بين الحياة والموت… فماذا في الرحيل سوى ترف تأمل الخسارة، ومعاتبتها، واستنطاق صيدها الثمين، في حيِّز الذكرى؟
كرونولوجيا مبعثرة لفن طارد عن الحواف
في العام ١٩٩٩، وقبيل السفر لاستكمال الدراسات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن بعدها أوروبا، كنت معية زملاء (أذكر منهم الروائيين الوطنيين، وزميليَّ المقاتلين في جامعة بيرزيت لاحقاً، وسام الرفيدي ووليد الشرفا) نحتازُ درجة في الإعلام المكتوب من مركز تطوير الإعلام في جامعة بيرزيت. كان أحد المدربين-مديري البرنامج الإعلامي عيسى بشارة (الذي لم أكن أعرف، في حينه، تمرُّسه في الشعر والرواية والترجمة). كنا نراجع، نقدياً، الإعلام المكتوب فلسطينياً وعربياً ودولياً كجزء من التدريب، وكنا، في حينه، نتصفح جريدة "الأيام"، الجريدة التي شيئ لنا، كشعراء شباب وكتاب جدد، أن نشارك في الكتابة حتى في أعدادها التجريبية قبل قرابة أربع سنوات… ربما بمحض الصدفة المقننة، تلك التي صنعها الشاعر غسان زقطان وبعض زملائنا في الدراسة من المحررين اللاحقين في الجريدة كالإعلامي مجيد صوالحة والروائي أكرم مسلم. كنا نتصفح الأيام وفجأة قال الأستاذ بشارة: "… والله ضربة مْعِلِّمْ!" بدافع الفضول سألته عن "الضربة" فأجاب بأن "الأيام" صادت بهاء البخاري من "القدس"! في حينه، كنت أعرف "الأيام" و"القدس" كصحيفتين فلسطينيتين، وأعرف معنى الصيد، في ذلك السياق، بأنه الاستقطاب، لكنني، وللحق، لم أكن أعرف، آنئذ، بهاء البخاري، وبالتأكيد، في وقت متأخر فقط عرفت أن "المعلم" هو رئيس تحرير جريدة الأيام-الأستاذ أكرم هنية.
انتهى برنامج الإعلام المكتوب، ووجدت نفسي بعد أقل من عام أستكمل دراساتي العليا في الولايات المتحدة الأمريكية (في "مدينة البحيرة المالحة" في ولاية يوتا)، حيث اندلعت انتفاضة الأقصى بعيد مغادرتي البلاد بقليل في أواخر أيلول من العام ٢٠٠٠. كانت جريدة "الأيام"، التي نتخذ من ملحقها "أيام الثقافة" (وسابقاً ملحق "مكتبة الأيام" الذي كان يحرره الصديق الأستاذ حسن خضر وتوقَّف للأسف) منبراً للنقد الثقافي والسياسي، واحدة من أهم مصادر الأخبار حول انتفاضة الأقصى وأحوال البلاد. ومع اشتداد أوار الانتفاضة، وتغطية الدم الفلسطيني الشاشات، لا صفحات الجرائد وحسب، وحصار الشهيد ياسر عرفات في المقاطعة… صار من المؤلم قراءة الأخبار كالمعتاد، واستهلاك الجريدة من أول صفحاتها إلى آخرها. هنا، كانت "ضربة المعلم" حاضرة بكامل ألقها المرّ، كان كاريكاتير بهاء البخاري يختصر مشهد الدم والبطولة في طرفة عين. وعلى شهوة من النعاس، وبَلادة الأكاديميا في البلاد البعيدة، بدأت الكتابة عن تمثُّلاث الانتفاضة في الكاركاتير السياسي لجريدتي "الأيام" و"القدس"، معشوقة بهاء البخاري وطليقته التي "عُلِّقَتْها عَرَضَاً" الفنانة أمية جحا… وكان بحث.
بعد قرابة سنتين، وفي أواخر العام ٢٠٠٤، كنت قد أنهيت دراسات ما بعد الدكتوراه في ألمانيا، وكنت ألتقي الصديق (والزميل السابق مدير برنامج الثقافة والعلوم في مؤسسة القطان) الشاعر محمود أبو هشهش في لندن، حين كنت أذهب إلى هناك "مضطراً غير باغٍ ولا عادٍ "وبكل الإثم! أخبرني أبو هشهش آخر أيامي هناك، وبعد عودتي إلى فلسطين وجامعة بير زيت، برغبته في أن أشاركه اقتراح أجندة لعدد خاص (حول المشهد البصري في فلسطين) من مجلة "النص الثالث" (Third Text) الذي ستحرره (ضيفةً) المعمارية والنشيطة السياسية هيفا حمامي، والأكاديمي والناقد الراديكالي حاييم براشيث، أبرز المثقففين اليهود في بريطانيا الناشطين في حركة مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها وسحب الاستثمارات منها. ولعله من المعروف أن مجلة "النص الثالث" هي صنيعة الفنان والناقد الباكستاني الفذ رشيد عرين (بعد توقف مجلته "الفينيق الأسود" (Black Phoenix) في العام ١٩٨٧-عام اندلاع انتفاضة الحجارة الفلسطينية، حيث كان المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (الذي تُكتب هذه المقالة، بالمناسبة، في القاعة المكرَّسة لتخليد اسمه في جناح الأدب المقارن في مكتبة بتلر في جامعة كولومبيا في نيويورك والتي تحتوي جزءاً من مكتبته الخاصة) خير سند ورديف لعرين في تأسيس المجلة (التي لفظته لاحقاً، للأسف، بعد العام ٢٠١٢) ضمن دار نشر روتلدج الشهيرة في بريطانيا-المجلة الأكاديمية الرائدة عالمياً في النقد الجذري للفن المعاصر في العالم ضمن معين نظري يستلهم مقولات نظريات ما بعد الاستعمار ونقد تغوُّل الحداثة والعولمة الممركزتين أوروبياً… وكان بدء.
اقترحنا أجندة العدد الخاص، واستغرق إنجازه أكثر من سنتين… وطُلب مني الكتابة فيه، فكتبت مقالتين واحدة حول "أسطورة التنوير في فلسطين" والأخرى حول "تاريخانيات الضحك: شعرية التخريب في الكاريكاتير السياسي لبهاء البخاري". اختار المحرران الضيفان، وهيئة التحرير، المقالة الأولى للنشر في العدد الخاص ضمن ثلاث مقالات افتتاحية (إلى جانب مقالة لإيلا شوحات وأخرى لجيل النجار)، وقررا نشر المقالة حول البخاري في العدد اللاحق. في حينه، طلب مني نيل "تصريح بالسماح بالنشر" من قبل رسَّام الكاريكاتير. وكانت المرة الأولى التي أتواصل فيها مع الراحل بهاء البخاري، حيث كانت سعادته غامرةً، وتواضعه ملفتاً، بأن رسومه ستجد طريقها إلى منبر عالمي رفيع كمجلة "النص الثالث". تحدثت معه هاتفياً، ومن ثم كتبَ رسالة لي ولهيئة التحرير مصرِّحاً بسعادته، لا لسماحه وحسب، بنشر رسوماته الكاريكاتورية (التي لا يمكن أن تجد طريقها للنشر في معين نشر أوروبي لو لم تكن ضمن دراسة فكرية، وذلك خشية وصمها باللاسامية)، إذ كانت الدراسة مكرسة لرسومات البخاري خلال انتفاضة الأقصى ٢٠٠٠-٢٠٠٤، وقدَّمت فيها نقداً لاذعاً للسياسات الإسرائيلية الصهيونية الفاشية ضد فلسطين والفلسطينيين… وكان نشر.
ابتداء من العام ٢٠٠٥، شرعت بتدريس حلقات بحثية متخصصة ضمن برنامج دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت يقرِّبها ويقرِّب جمهور طلبتها من المفهوم عبر الحقلي للدراسات الثقافية في العالم اليوم. وقد كان من ضمن أبرز هذه المساقات، بالإضافة إلى "المثقف والسلطة: جينياولوجيا المثقف العربي" و "دفاتر السجن: الحركة الفلسطينية الأسيرة" والمساق الذي نعمل على إعداده "دفاتر الفداء: الحركة الفلسطينية الشهيدة"…كان مساق "الدراسات الثقافية البصرية الفلسطينية" لطلبة البكالوريوس والدراسات العليا. طُرح المساق، في نسخته الأولى في العام ٢٠٠٩، ثم تم تطويره في العام ٢٠١٣. لم يسع المساق إلى تتبع مَسحي لمفهوم "الثقافة البصرية" وتحولاتها في الإنتاج والممارسة، إذ لم يكن مساقاً في تاريخ الفن أو التاريخ السياسي أو التاريخ الثقافي أو الاجتماعي، بل عُني بتفكيك عينات تمثيلية للنتاجات البصرية من فترات واتجاهات مختلفة صاحبها برنامج استضافات مكثَّف، كل لقاء، لفنانين وعاملين في الحقل البصري الفلسطيني. وقد كان بهاء البخاري ضيف المساق الذي تحدَّث، على سجيته، عن رحلته الفنية من القدس وعودة إليها… تحدَّث عن الكاركاتير وفكاهة الحزن السوداء، لكنه تحدَّث عن مواقيت الفرح في محاولاته المقدسية في التشكيل. ومع أنني أعرف التزام البخاري السياسي، وسلوكه الجانبَ الأرحبَ من الطريق في الغالب، إلا إن حديثه عن ضرورة مواجهة الرواية الصهيونية "في عقر دارها" أثار عاصفة نقاش مع الطلبة الذين يعتبرون جامعتهم، وتعتبر هي نفسها (على شهوة من الاعتبارات المثيلة!) القلب النابض لحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، ومواجهة التطبيع… لم يتفهَّم الطلبة حساسيات البخاري التي صنعها التاريخ ولم تصنعها السياسة، ولم يتفهَّم هو حساسياتهم التي صنعتها السياسة ولم يصنعها التاريخ… وكان درس.
أما ختام الكرونولوجيا وآخر اللقاء، فقد كان في أوائل نيسان من العام ٢٠١٤، حيث بادر الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين بتكريم البخاري (تكريم تلاه تكريم وطني آخر قبل أيام من رحيل البخاري في أواخر تشرين الأول من العام ٢٠١٥). دعاني الصديق الشاعر مراد السوداني، المنتبه قبل غيره دوماً لما ينبغي الانتباه إليه، لقول كلمة في فن البخاري كونه يعرف اهتمامي بمسيرته وفنه. كان اللقاء متواضعاً ودافئاً في مكتبة الشروق في رام الله، ولم يسعف القول إلا بما أسعف به الحال وطبيعة المقام، حيث تُعَدُّ المعرفة وتقديمها في بلادنا "تعالماً"حين يصير الجهل خطاباً تتعهده حالة الاستعراض الفرجوية التي تجتاح فلسطين في ثقافتها وسياستها واقتصادها! وكان ذلك آخر اللقاء، فكان صمت (ووعد بالكلام)، وكان رحيل.
ريشة الذهب وألوان الدم
في كل مناسبة تقاطعنا فيها مع بهاء البخاري، تمَّ تقديم عمله الفني في سياق الثقافة البصرية في فلسطين من حيث: النتاجات والسياسات وتقاطعهما في خضم التحولات الثقافية والسياسية والاجتماعـية في فلسـطين على شكـل ممارسـة ثقافية. وقد قاد البعدان المفهومي والسياسي الجدل الفني والنقدي إلى الادعاء أن "تاريخانيات الضحك والبكاء في رسومات البخاري" هي أبرز الفنون البصرية ذات الحضور اليومي في الصحف الفلسطينية التي يمكن قراءتها، أو التدليل عليها على الأقل، بتوسُّل نظريات الفكاهة السياسية وآليات تحليل الخطاب البصري في البلاغة السياسية لهذا الفن على نحو يجعل منه مادة لكتابة تاريخ مغاير لحقبة حاسمة في الرواية التاريخية الفلسطينية العامة.
فبالإضافة إلى حفاظه على أهم ميزات فنان الكاركاتير السياسي، أن يكون إلهً راقصاً حتى في قمة سخطه على بؤس الواقع الفلسطيني وفاشية واقع دولة الاستعمار الاستيطاني-إسرائيل، وبعين ماسيَّة… توزعت رسوم البخاري على ثلاثة محاور ساخنة: تعرض السياسات العربية في بياتها الشتوي، وتعريها، وتنقضها؛ وتفضح السياسات المزدوجة للولايات المتحدة وأوروبا تجاه الصراع العربي مع الصهيونية ودولتها العنصرية، وتكشف انحيازها لإسرائيل؛ وتنقد موقف المجتمع الدولي من جرائم إسرائيل، كما هو مرموز إليه بالأمم المتحدة المشلولة بقرار أمريكي.
باختصار قُدِّمت أعمال البخاري ضمن إطار نظري، ليس هذا مقام الخوض فيه، يستدرج نظريات الفكاهة السياسية، الآخذة في التبلور منذ العام ١٩٤٠، لخدمة فلسطين وقضيتها العادلة: من تحليل الأثر؛ إلى التحليل الوظيفي؛ إلى التحليل الخطابي؛ إلى تحليل المضمون؛ والتحليل الرصدي. وبطبيعة الحال، فإن الحديث النظري عن الفكاهة يميتها، ويجعل من يكتب عنها نفسه موضع تندُّر، إذ لا يدانيه حمقاً إلا من يدعو إلى تعلُّم السباحة في المكتبة!
لكن ذلك لا يحول، بالتأكيد، دون القول إن رسومات البخاري، حالها حال كل رسم كاركاتوري سياسي ناضج، ليس فيها ما يحيل إلى عنصر فكاهي جوهراني، بل تقوم الفكاهة فيها على التناقض الذي يحصل بين النصوص البصرية والكتابية المختلفة في الرسم الكاركاتوري لدى المتلقي. هنا (١) يؤمِّن التصادم عنصر المباغتة والمفاجأة والابتعاد عن المتوقع، فتداهمنا الابتسامة المرَّة، بلا ضحك ولا متعة فكاهية صافية، جرَّاء التعارض القائم بين ما هو متوقع وما هو وواقع فعلاً. فيما (٢) يضمن الاستعلاء عنصر العدوانية الحميدة في الكاريكاتير، حيث يبرز الإحساس بالتفوق الأخلاقي والامتياز السلطوي على الشخص أو الجهة موضع التهكُّم، وينتحل المفعول السياسي فاعليَّةَ فاعله السلطوي ضمن فعل التشفِّي بكشف عورته لتصير وجهه بكل سوء حين تُنتَهك استراتيجة الحكي التي لديه! وعند هذه اللحظة (٣) ينعكس التصعيد النفسي ويصير الكاريكاتير متنفساً ذهنياً ونفسياً حيث يكسر الوضع الفكاهي رتابة "المبدأ الأخلاقي" في ذهن المتلقي حول الموضوع ذاته، ومع ذلك يرى المتلقي أن الوضع طبيعي في عمل اللاطبيعي، فتبلغ الفكاهة رعشتها، وتنحال الدمعة إلى ابتسامة مربكة وتنهيدة مكبوتة لا تصحبهما عضة متعة على شفةٍ سفلى!
عبر هذه الاستراتيجيات الفطرية لدى البخاري، تمكن أن يتحدَّى بمقولته الكاركاتورية مقولة الاحتلال المضادة، حيث دشن حبكة وطنية فلسطينية استطاعت تحويل الظلم والقهر والتبعية إلى تعبير سياسي فكاهي لا يتورع حتى عن توظيف "الأساطير اليومية" للعدو وتشكيل أسطورة مضادة ساخرة من البداية والختام، لكنها مكرسة لتدشين حبكة خطابية وطنية للحدث تقوم على:
عدالة القضية الفلسطينية وشرعية المقاومة التي تمارسها حركة التحرر الوطني الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني؛
لا قانونية الحركة الصهيونية ودولة استعمارها الاستيطاني إسرائيل ووحشية حاضنتها الأورو-أمريكية؛
ضرورة التأكيد على الحقوق الوطنية الفلسطينية ومقرارات الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية من حيث: رفض إسرائيل الاعتراف بالمسؤولية عن نكبة الفلسطينيين في العام 1948، وما شملته من تطهير عرقي خلق قضية اللاجئين الفلسطينيين، وإنكارها للحقوق المكفولة للاجئين في القانون الدولي، وأهمها حق العودة-أي حقوق الفلسطينيين في الشتات خارج أرض فلسطين التاريخية؛ وتواصل الاحتلال العسكري للأراضي الفلسطينية-أي حقوق الفلسطينيين القاطنين في أراضي فلسطين المحتلة في العام 1967؛ واستمرار التمييز العنصري الشامل ضد فلسطينيي فلسطين المحتلة في العام 1948 والتفرقة العنصرية الناجمة عنه، على نحو يداني نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا- أي حقوق الفلسطينيين القاطنين، كسكان أصليين، في أراضي فلسطين المحتلة في العام 1948؛
حتمية تصحيح المظلمة التاريخية للفلسطينيين كقضية تحرر عالمي تشترك فيها كافة قوى التحرر العالمية وفي مقدمتها قوى الحركة الوطنية الفلسطينية التي يجب أن ترتقي فيها المقاومة (وفي مقدمتها المقاومة المسلحة) من حدِّ الحق إلى حدِّ الواجب المنزَّه عن أية شبهة بالإرهاب والمبرَّأ من ادعاءات "التكافؤ الأخلاقي" (اللاأخلاقي) مع دولة الاستعمار الاستيطاني-إسرائيل.
نؤرِّخ أيامنا بالرحيل… نؤرِّخ أحلامنا بالبقاء
بين انتفاضتين يرحل بهاء البخاري عن "أيامنا"، ولسنا نملك وعداً بالبقاء إلا لمقتضيات الحلم، والعودةُ مثل البقاء. لن تنجز هذا الوعد، وحدها، صورة غلاف الختام لأسامة نزال حيث تنتحب عائلة أبو العبد-البخاري على صورته الباقية معلقةً على الجدار. فلا بد للكاركاتير الفلسطيني أن يواصل المعركة، وبخاصة حين تواصل الفنون الساخرة الأخرى هجومها في رام الله، وعليها، وقد صارت رام الله نظاماً ثقافياً وسياسياً واقتصادياً "سعيداً" محيلاً إلى ذاته. ليست جمهورية فاضلة، ولا مدينة سعيدة في جوهرها… لكنها رام الله-السعيدة بحفلات تهنئة الذات حدَّ المل الذي لا بدَّ لدبُّوس الفكاهة السياسية أن يواصل مهمته كمهماز فعَّال في إيقاظها من رعشة متعتها الزائفة بالوصول!
ليس على الكاريكاتير الفلسطيني أن يغرق في "ديالكتك السلب"، الذي استعاره صديقنا فيصل درَّاج من غرامشي، في حديثه عن ناجي العلي، إذ بالفعل "لن يرضى السياسي عن الفنان أبداً" بل "وقد يقول ناجي الخاسر لا يخسر شيئاً، والفنان إما أن يكون مناضلاً، وأما أن لا يكون. شيء من ديالكتيك السلب يحكم الفنان وريشته، إذ كلما بنت الريشة صرحها، انهار جزء من بيت الفنان وسعادة أطفاله". لقد تمكن بهاء البخاري من عكس "ديالكتيك السلب" هذا، إذ "لم يرض، في حالته، الفنان مرَّة عن السياسي"، حتى إنه كان مناضلاً ومعارضاً، ولا تزال أيقونة الرسومات التي حالت الرقابة دون نشرها ماثلة في موقعه الإلكتروني المنتحِب على رحيله. لقد بنى البخاري بيته بريشته… وكان إيمانه مزدوجاً بإمكانية البطولة في الزمن المعادي للبطولة: "تعيسة بلاد لا أبطال فيها/تعيسة بلاد لا تزال بحاجة إلى أبطال"… ويكون رسم.
عبد الرحيم الشيخ/ الأيام الفلسطينية
2015-11-03