التحدي هو من بين أشياء العالم التي تستدعي الإرادة، وهو واحد من أعظم صانعي البقاء والصمود، إن التحدي يجبرنا على صناعة الغضبة والهبة والانتفاضة وكل المسميات الجميلة في مسارات المقاومة، وحالما نشرع بالغضبة أمام التحدي فإن كل ما نراه يصبح لا شيء نسبة إلى التوقعات، فالصور التي كانت في حكم المستحيل أصبحت لغة اليوم، والحجر الذي اعتقدنا أنه مقدس وتم تحنيطه عاد من الغياب سلاحا، والفتاة التي تحلم بالعريس فارسا، لم تعد تخش الموت وذهاب فارس الأحلام، فقصة رائد شهيد النخوة ودانية شهيدة الحرم أعلن ارتباطهما بعد أن زفت روحيهما إلى الجنة، تحدي الموت بصناعة الحياة، وسيغرق علماء النفس في تفسير ما يحدث، لكنهم لا يعرفون أن جذور الحكاية ليست أفعال عفوية أو عابرة، بل إرادة شعب تحت الاحتلال لن يهدأ حتى الحرية والعودة والدولة والعاصمة، فكانت غضبة القدس.
وولدت الحكاية، ولم تكن الدوابشة البداية، بل كانت الصاعق، وغضبت القدس كما غزة كما الخليل كما حيفا، غضب امتد على امتداد الوجود الفلسطيني، لينتهي الاحتلال، وبجمالهم ووسامتهم وشبابهم أبطال فلسطين، أجبروا الجميع أن يعبر من تحت هذه الغضبة المباركة، وأرسلوا رسائلهم للعرب والعالم كله، أن الدم الفلسطيني رخيصاً أمام الأقصى والحرم الإبراهيمي ورفض الخضوع والخنوع والبقاء في درجة التجمد المرفوض للمستقبل والحياة.
تجلت عبقرية الصمود والاستمرار، في ميادين الكرامة، وجها لوجه مع جيش المحتل المدجج بكل أنواع الأسلحة وتلك القرارات التي تبدأ بإعدام الحياة، وصولا إلى تفتيش الهواء الذي ربما يحمل ذرة فلسطينية غاضبة، وهم لا يعلمون أو يعلمون أن أكاذيب نتنياهو لا تستطيع البقاء، لأنه يقفز الى الاشتباك الشامل، وهو لا يعلم أنه لن ينتصر على شعب قرر أن يعيش، وشباب يضحي بروحه، وأطفال يتجمهرون ليقذفون الحجارة في وجه جيشه المدجج بالسلاح، ليقولوا له "ارحل" .. ولا ينتظرون الخُطب اللاذعة أو التهديد المتواصل أو القرارات الاحتلالية المتصاعدة والتي يفوح منها القتل مرة تلو الأخرى، ولا يكترثون كثيرا بما يدور خارج إرادة التحدي، وينتظرهم الأهل أبطال عائدين أو شهداء مقبلين غير مدبرين، ويصبحوا أحاديث المدن التي قررت ألا تنام بعد اليوم وأن تحرس أحلام الشهداء الذين سبقوهم إلى أحياء عند الله يرزقون.
الشهداء اليوم لا يجوعون ولا يشكون، ولا يبوحون بما يؤلمهم، يرسمون فوق صفحاتهم أفكارهم ويلتقطون الإشارة من عقولهم، وحدها عقولهم الموجه، لأنها عقول فلسطينية خزنت كل أبعاد القضية، وفشلت مقولات أن هذا الجيل يحتاج إلى الكثير من دروس الوطنية والوعي والخروج من العالم الافتراضي الغارقين فيه، لقد اتضح أن من كانوا يرددون تلك الأكاذيب هم من يحتاجون إلى كل ذلك، وكأن فاقد الشيء لا يعطيه بالفعل، فكان فعل الشاب الكتوم الذب لا تسمع له زفرة أو تأففا، لكن قلبه مثقل بنور الغد، ولم يعد يأبه بتلك الرصاصات العشرة أو المائة التي تخطف روحه أو تخترقه من مسافة الصفر "إعدام".
لقد كتبوا الوصايا على أزهار النرجس الغضة، واستخدموا كل العبارات الممكنة ليرسموا أرواح الطهر فوق قبة الأقصى ليعلو صوت الوطن، وكانت الحصى المتناثرة نقاطاً فوق الحروف، لتقرأ الوصايا بوضوح، عتمة فلسطين لن تستمر، وفجر الحرية سوف يبزغ، ونهار الدولة قادم، وعلمنا سيرفرف فوق الأقصى في قدسنا العاصمة، وسيتعانق ذوي الشهداء في لحظات الفرح والدموع حين تزف دالية ارشيد الى رائد جرادات في موكب مهيب في عرس الشهداء الذي انطلق في كل فلسطين.
ملاحظة/ كان صادقا الشهيد الرئيس أبو عمار وهو يقول دائما أنه يرى النصر في عيون أطفال فلسطين .. قالها في بيروت فكانت انتفاضة الحجارة، وقالها في حصاره، فكانت غضبة القدس .. رحمه الله في ذكراه الـ11 لاستشهاده.
بقلم/ د.مازن صافي